شبكة النبأ: إن الحالة الاجتماعية
التي يمر بها اليتيم خلال فترة طفولته تستوجب الكثير من الاهتمام من
قبل المجتمع وخاصة المحيطين به، ففقدان الأب ليس بالشيء السهل على طفل
لم يبلغ الحلم، ففي مثل هذه السن يكون الطفل أحوج ما يكون إلى رعاية
الأب وإرشاداته وتوجيهاته وعنايته به لكي يمارس دوره الطبيعي في
الحياة، ويترتب على إهمال حالة اليتيم في المجتمع عواقب وخيمة تظهر
آثارها عليه وعلى مجتمعه، فينبغي أن تأخذ مثل هذه الحالة الاجتماعية
مقدارها من الاهتمام، بأن يمارس اليتيم الحياة الطبيعية لمثل سنه وان
يكون موضع عناية خاصة تهتم بشؤونه تعوضه عما فقده من حنان الأبوة، لكي
لا يتعرض لأحباطات تؤدي به الى التشاؤم من وضعه مما يدعوه الى عدم
التكيف مع مجتمعه ومن ثم يكون ناشزاً في حياته فيحاول إثبات ذاته بردود
فعل عدائية وسلوكيات منحرفة أو بانطوائية يائسة تنظر الى المجتمع بنفور
واشمئزاز.
ونجد ان الدين الإسلامي الحنيف يحضنا على الأخذ بنظر الاعتبار حالة
اليتيم وغيرها من الحالات الاجتماعية ومشاكلها واضعاً الحلول المناسبة
والملائمة لكل مشاكل المجتمع، فنراه يرافق الإنسان منذ تكوينه واضعاً
له منهجاً قويماً لممارسة حياته بشكل سليم.
فقد أولى ديننا الإسلامي الحنيف عناية خاصة باليتيم حينما فرض على
المجتمع رعايته وكلف كل فرد من أبنائه بذلك، ونرى العناية الإلهية
تتجلى في أبهر صورها حينما تتبنى مشكلة تعاني منها المجتمعات في جميع
الأدوار والمراحل التاريخية إلا وهي مشكلة اليتامى، فالأطفال الذين
يفقدون اليد التي تحنو عليهم يبقون في مهب الريح العاتية وعرضه للرذائل
والانحراف لذلك أحاطت الرحمة الإلهية اليتيم وأولته حصة وافرة منم
العناية لئلا ينشأ فاقداً للتوجيه ويصبح عاهة وعالة على مجتمعه، فإهمال
اليتيم يساوي إهمال المجتمع وهدم كيانه.
الى جانب ذلك اتفق علماء الدين على حد شرعي يكون بعده اليتيم خارجاً
من صفة اليتيم ليدخل غمار الحياة كأحد أفراد المجتمع وذلك بظهور واحدة
من ثلاث علامات:
1- إنهاء الطفل خمسة عشر عاماً من عمره أذا كان ذكراً وتسعة إذا كان
أنثى.
2- إنبات الشعر على عانته.
3- الاحتلام بخروج المني من الذكر.
وتبنى هذه العلامات بوصول اليتيم الى مدارك الرجال أو النساء عندها
ينتقل من مرحلة الطفولة وهي مرحلة عدم المسؤولية الى مرحلة التكليف
الشرعي الذي يفرض على البالغين وقد نال اليتيم حصة وافرة من الآيات
القرآنية الكريمة التي تعرضت له فقد جاء ذكره في اثنتين وعشرين آية
أوضحت بيان شمول اللطف الإلهي لليتيم في الشرائع السابقة، والايصاء به
وبيان حقوقه الاجتماعية والمالية وهناك آيات كريمة تناولت بشكل خاص
مراحل العناية باليتيم والتي الله سبحانه وتعالى بها.
إن الرحمة الإلهية أحاطت اليتيم الذي فقد كفيله وحرم من العواطف
الأبوية بما يعوضه عن تلك العواطف، فقد نهت الآيات الكريمة عن التجاوز
على حقوق اليتيم والترغيب في مودته والتلطف له لئلا يشعر بالوحدة
والانعزال وكذلك حمايته من المستغلين وجاءت هذه الرعاية من جملة بنود
الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل من قبل كما يحدثنا
القرآن الكريم عن هذا الميثاق بقوله: ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل
لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين
وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) البقرة 83 فكانت هذه
العناية من جملة القواعد التي يرتكز عليها دين الله القويم.
ولم تكتف الآيات القرآنية الكريمة بالأيصاء باليتيم والإحسان إليه
بل انتقلت الى تطبيق ذلك في قصة النبي موسى (ع) مع العبد الصالح الخضر
(ع) عندما وجدوا في سفرهما ( جداراً يريد أن ينقض فأقامه) الكهف 77
وعندما استفسر موسى من الخضر عن الغاية من ذلك العمل خاصة أنه كان بدون
أجر (قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا) جاء الجواب من الخضر (ع) (وأما
الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما
صالحاً) فقد حفظ الله تعالى بعنايته لهذين اليتيمين كنزهما المذخور
جزاء لصلاح أبيهما.
هذه مما ذكرته الآيات الشريفة في الرعاية باليتيم في الشرائع
السابقة ومذ أطل الإسلام بنوره على الجزيرة العربية التي كانت غارقة في
ظلمات الجهل والظلم جاء بالعدل والمساواة والرحمة والعطف فأخذ بيد
الضعفاء ليأخذ حقوقهم كاملة من المستبدين الأقوياء وكان في مقدمة هؤلاء
الضعفاء اليتامى فشرع حقوق اليتيم من وقت طفولته المبكرة حتى البلوغ
ووضع دستوراً كاملاً في رعاية حقوق اليتيم فقد حفظت الشريعة المقدسة
حقوقه المالية وأولت الاهتمام بهذا الجانب لتحافظ على الرصيد المالي
لهذه الفئة كما أولتهم العناية بتوجيه النفوس إليهم في بقية المراحل
الحياتية المعاشية والتربوية، فنرى مجموعة من الآيات الشريفة قد خصصت
لمشكلة اليتامى من هذه الآيات قوله تعالى ( واتوا اليتامى أوالهم ولا
تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم الى أموالكم إنه كان حوباً
كبيراً ) فإيتاء اليتامى أموالهم يكون بالصرف عليهم من ذلك المال في
حالة الصغر وأما في حال البلوغ واستئناس الرشد منهم فيتحقق ذلك بتسليمه
إليهم فأول شيء تعرضت له الآية الكريمة هو ترك عملية تبديل أموال
اليتامى حيث كان سائداً عندهم أن بعض الأوصياء على اليتامى كانوا
يأخذون الجيد من مال اليتيم ويبدلونه بالرديء وقد وقف القرآن الكريم
ليردع هؤلاء ويحذرهم من مغبة هذا التعدي بقوله تعالى (أن الذين يأكلون
أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً).
وجاءت أحاديث النبي (ص) والأئمة المعصومين (ع) لتؤكد ذلك وتنبه
المتجاوزين ومن جملة الأحاديث قول الإمام الصادق (ع):(إن أكل مال
اليتيم يخلفه وبال ذلك في الدنيا والآخرة) ثم يحدد سبحانه وتعالى
التصرف بمال اليتيم بقوله عز وجل (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي
أحسن) وقد ذكر الفقهاء في هذه الآية عدة معاني منها أن يكون بحفظ المال
واستثماره في التجارة وتنميته رعاية لحق اليتامى.
أما عملية تسليم أموال اليتامى فقد حددتها الشريعة المقدسة وجعلت
لذلك وقتاً معيناً يكون بإمكان الولي أو الوصي التخلي عن هذه المسؤولية
الملقاة على عاتقه بدفع أموال اليتامى فقال عز وجل: (وأبتلوا اليتامى
حتى أذا بلغوا النكاح فأن أنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا
تأكلوها إسرافا وبداراً إن يكبروا ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان
فقيراً فليأكل بالمعروف).
وقال عز وجل: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ
أشده وأوفوا بالكيل)، فالمراحل النهائية للمحافظة على مال اليتيم
حددتها الآيات الكريمة بشرطين أساسين هما: البلوغ، والرشد.
ومن خلال هاتين الآيتين الكريمتين يتضح أن رفع الولاية عن الصبي
اليتيم لا بد له من المقدرتين البدنية والعقلية ولا يتم تسليم الأموال
إليه في البلوغ فقط حتى وأن اكتملت رجولته ما لم يكتمل نضوجه العقلي
حيث تصبح لديه القدرة الكافية لتمييز مضاره من منافعه وما يصلح له مما
يفسده.
أما الشرط الثاني الذي حددته الآية الكريمة في تسليم أموال اليتامى
إليهم فهو الرشد، وهناك أقوال عديدة في معنى الرشد عند الفقهاء منها
إصلاح المال ومنها صلاح الدين وغيرهما من الأقوال ولكنهم أي الفقهاء _
لم يحددوا سناً معينة للرشد على العكس مما فعلوه في تحديد البلوغ ومرد
ذلك الى تحقيق الرشد يتبع الظروف الاجتماعية والنفسية للشخص وما اكتسب
من خبرات وتجارب من بيئته ومجتمعه تهيؤ لتدبير حالة وإنعاش حياته
والاعتدال في صرفه الأموال واستعداده لخوض غمار الحياة بعقلية موفورة،
ويتم ذلك معرفة باختبار اليتيم الذكر بالتجارة وغيرها واليتيمة
بالتدبير المنزلي والتصرف الاجتماعي.
وفضلاً عن كل هذه الرعاية والعناية من الله تعالى لليتيم فقد خصه
تعالى بحقوق أخرى فشمله بالخمس بقوله تعالى: (وأعلموا أنما غنمتم من
شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وأبن السبيل
أن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى
الجمعان والله على كل شيء قدير) كما شملهم عز وجل بالفيء وهو المال
المأخوذ من الكفار بغير أن يقاتل عليه وذلك بقوله تعالى: (ما أفاء الله
على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين
وأبن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم).
كما حث سبحانه وتعالى على الإنفاق على اليتيم في أكثر من أية ففي
سورة البلد تذكر الآية الكريمة ثلاثة أعمال يعملها الإنسان لاجتياز
العقبة بينه وبين الجنة بقوله تعالى: (فلا أقتحم العقبة وما أدراك ما
العقبة، فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً
ذا متربة) فحينما تسد أبواب الرحمة بوجه اليتيم ويئن من ألم والجوع
ويتلهف الى رغيف الخبز كان حقاً على الله إن يدخل الجنة من يمد يد
العون لهذا اليتيم كما حث سبحانه وتعالى الناس على إعطاء اليتيم حتى من
الميراث الذي يتقاسمه أقرباء الميت وذلك بقوله تعالى: (وإذا حضر القسمة
أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً
معروفاً) ففي كنف الإسلام يؤمن اليتيم ويجد اليد التي تحنو عليه وتمسح
على رأسه لتزيل غبار اليتم عنه وتضفي عليه هالة من العطف والحنان.
كما يجعل الله سبحانه وتعالى عدم العناية باليتيم وأهانته سبباً
لزوال النعم واهانة لمرتكب ذلك العمل ففي سورة الفجر آية 15_16 يقول عز
وجل: (فأما الإنسان أذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول رب أكرمن
وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول رب أهانن) وهذه الاهانة سببها
أن ذلك الإنسان لم يكرم اليتيم ولم يؤد حقه من الإيواء والإنفاق لقوله
تعالى بعد هذه الآية: (كلا بل لا تكرمون اليتيم) مثلما أوصى الله تعالى
بذلك بقوله: (فأما اليتيم فلا تقهر) فقهر اليتيم وجفوه كان سبباً أيضاً
لأن يكون القاهر والجافي في نظر الآية المباركة هو المكذب بالدين:
(أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم) بمعنى أن المتمسك
بالدين لا يجفوه اليتيم والى جانب هذه الآيات الكريمة التي ذكرناها
هناك أحاديث نبوية كثيرة وأقوال للأئمة المعصومين عديدة تحث على
العناية باليتيم فالدين الإسلامي الحنيف يفرض على كل فرد من أبنائه
رعاية اليتيم والعناية به لبناء مجتمع إسلامي متكامل. |