شرعية الشورى

الشيخ فاضل الصفار

أن الإسلام يشترط أن يدخل الشورى ونظام المشورة ومبادلة الآراء بين الحكومة والشعب أو ممثلي الشعب كعامل مهم وأساسي يمنح التركيبة الحاكمة شرعية الحكم وقانونيته، وبدونه يخرج الحاكم المسلم وإن كان عادلاً تقياً عن حق السلطة والحكم، ويصبح نظامه تعسفياً لايحظى بشرعية الدستور؛ وذلك لأن الإسلام لخص لنا أهم الحقوق السياسية للأفراد التي لها تأثير كبير في شرعية الحاكم ودستورية النظام في عبارة موجزة وصغيرة سماها ( الشورى ) واعتبر أهم ميزة يتميز بها النظام الديمقراطي الحر عن الديكتاتوري المستبد هي حصول المواطنين على حقوقهم السياسية التي تعين مسيرة البلاد وممارستهم لهذه الحقوق في أُسلوب استشاري مفتوح، وهذه الحقوق السياسية هي:

1-حق انتخاب الحاكم.

2-حق مشاورة الحاكم والمشاركة في الحكم.

3-حق مراقبة الحاكم.

4-حق عزل الحاكم.

إذ إن للأفراد في ظل حكومة الإسلام سلطة تمنحهم حق انتخاب رئيس الدولة وإعطائه صلاحية الحكم، فالحاكم الذي اختاره الشعب لهذا المنصب هو الرئيس الشرعي للدولة فقط، وبهذا المضمون صرح بعض فقهاء المسلمين سنة وشيعة، وإليك بعض أقوالهم: ( رئاسة الدولة يجب أن تكون بالشورى ) المرجع الديني السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) (1).

وقال مجتهد آخر: لاشك أن الاشتراك في الشورى في الشؤون المصيرية للأُمة من حق كل المسلمين، حق مستند على أهم ركن في الإسلام:

القرآن الكريم.. ولاشك أيضاً أن مشاركة كل الأُمة في كل المسائل إضافة إلى أنها غير ممكنة فإنها خارجة عن اختصاص البعض منهم أيضاً ( بل أغلبها ) لذا فالمسلمون مضطرون أن ينتخبوا من يمثلهم ممن تجتمع فيهم صفات الإيمان والصلاح والوعي.. (2).

وعن ابن قدامة: من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت إمامته، ووجبت معونته(3).

وعن ابن تيمية: الإمامة – أي رئاسة الدولة – تثبت بمبايعة لرئيس الدولة لابعهد سابق له(4).

وإذا ثبت أصل وجوب الانتخاب وحق الأُمة في اختيار رئيسها لايهم بعده كيفية إجراء الانتخاب، سواء يتم بطريقة شعبية مباشرة أو بواسطة المجالس النيابية والبرلمانات.

وفي الواقع أن الإسلام غالباً مايكتفي في تشريعاته بتثبيت القوانين الكلية الصريحة، ويولي تطبيقها إلى الأُمة، ويخولها في اكتشاف الأساليب الصالحة التي تنسجم مع الظروف والأحوال والإمكانات؛ ولذا فإن تشريع الشورى كمنهج ونظام يقيم علاقات سياسية متبادلة بين أبناء الشعب وبينهم وبين حكامهم مما لابد فيه، ولكن هل العمل بهذا المبدأ وإجراء الانتخاب يكون دورياً أو ثابتاً أو نسبياً كما نجده اليوم في الأنظمة الديمقراطية؟ أو يكون النظام رئاسياً أو وزارياً كما في أمريكا وبريطانيا ؟ أو غير ذلك ؟

لايهم فإن الأمر في هذه الجزئيات مخول إلى الأمة نفسها لتكتشف أفضل الطرق والأساليب السليمة التي تضمن لها أرقى مستوى من الحياة، بعد أن ثبتت أصل شرعية الحكم، وتحققت الضمانات الكافية لحفظ الحقوق، وهذا هو في حد ذاته توسع في الديمقراطية وارتفاع إلى مستوى أعلى من التحرر والانفتاح؛ ولذلك اكتفى القرآن في ذلك بقوله تعالى: ( وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ)(5). الذي يقتضي بظاهره أن يتشاور أفراد الأُمة في كل شؤونهم، وخاصة الحساسة والمصيرية التي منها انتخاب رئيس الدولة، ولم يحدد الطرق والأساليب؛ ولذلك أيضاً توقف الفقهاء والمفسرون في تحديد المشورة عند إثبات الأصل والقاعدة، ولم يفرعوا عليها التطبيقات.

فعن الطبرسي في مجمع البيان قال: هذه الآية: ( وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ)(6)، والمشاورة هي المفاوضة في الكلام ليظهر الحق، أي لايتفردون بأمر حتى يشاوروا غيرهم فيه(7).

وفي زاد المسير نقل ابن الجوزي أن ابن قتيبة قال: أي يتشاورون فيه بينهم، وقال الزجاج: المعنى أنهم لاينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه(8).

وعن شيخ الطائفة في تفسيره التبيان: ( وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ) أي لاينفردون بأمر حتى يشاوروا غيرهم؛ لأنه قيل: ماتشاور قوم إلاّ وفقوا لأحسن مايحضرهم(9).

وعن القاضي البيضاوي: ( وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ) ذو شورى لايتفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه، وذلك من فرط تدبرهم وتيقظهم في الأُمور(10).

وقال السيد الطباطبائي في تفسير الميزان في معرض تفسيره لنفس الآية: فالمعنى: الأمر الذي يعزمون عليه شورى بينهم يتشاورون فيه، ويظهر من بعضهم أنه مصدر، والمعنى: وشأنهم المشاورة بينهم – ويضيف قائلاً –: وكيف كان، ففيه اشارة إلى أنهم -المؤمنين – أهل الرشد وإصابة الواقع يمعنون في استخراج صواب الرأي بمراجعة العقول(11).

استشارة الحاكم

وأما حق المواطنين في المشاورة في الحكم فقد نص عليه الإسلام بقوله تعالى: ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ)(12) الذي هو في حقيقته امتداد لحق الأُمة في انتخاب رئيسها مادامت هي من مصادر السلطات وأُصوله الشرعية الاجتماعية لا الدينية، ومادامت هي التي نصبت الرئيس وكيلاً عنها في ادارة شؤونها ورعاية حقوقها ومصالحها، فمن حقها عليه إذاً أن يشاورها ويوجد علاقة مفتوحة بينه وبينها تؤمن لهما معاً أكبر قدر ممكن من الحوار والتفاهم والتبادل والدعم والتأييد.

ومن الواضح أن خطاب ((شاور)) الذي هو إلزام في إلزام ووجوب في هذه الآية موجه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة على جلالة قدره وعظيم منزلته وحصانته الذاتية من الخطأ والانحراف (( العصمة )) فوجوب المشاورة على غيره من الحكام الذين يفقدون كل خصائص العصمة أوجب وألزم، ومن هنا أفتى بعض الفقهاء والمفسرين قديماً وحديثاً على لزوم مشاركة الأُمة في آراء الحكومة ومساهمتها في اتخاذ القرارات.

وأوجبوا على الحاكم نفسه النزول إلى الأُمة والعمل بهذا التكليف أولاً وبالذات، فإن عصى وتمرد على القانون واستبد بالأُمور فإن التكليف يتحول الى الأُمة حينئذ في استرداد حقها المسلوب وعزل الحاكم عن مركز القرار، وتدل على ذلك أقوال بعض الفقهاء والمفسرين أيضاً.

قال آية الله العظمى الشيرازي ( قدس سره ) لدى استدلاله بهذه الآية (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ)(13)، الظاهر من الآية وجوب المشورة على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الموضوعات المرتبطة بشؤون الأُمة، ويؤيده ماذكره الإمام علي (عليه السلام) من أن إعطاءهم المشورة له من حقهم عليه، وحيث يلزم الاتباع كان اللازم أن يستشير الحاكم الإسلامي الأُمة في أُمور الحكم، ومنه أصل كونه حاكماً دون غيره، وهو مايعبر عنه في العصر الحاضر بالانتخابات الحرة، وأضاف: وقد ذكرنا في كتبنا السياسية عدم حق استبداد فقيه واحد بالحكم إذا قلد الناس جملة من الفقهاء، بحيث كانوا مراجع الأُمة، بل اللازم أن يكون على رأس الحكم شورى المراجع.(14)

وقد علل المفسرون مشاورة الرسول الأعظم ( للمسلمين مع استغنائه عنها بعدة أُمور كلها تشترك في لزوم المشورة على رسول الله وعلى سائر الحكام).

فعن شيخ الطائفة (رحمه الله) في تفسيره: قيل في وجه مشاورة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إياهم مع استغنائه بالوحي عن تعرض صواب الرأي من العباد ثلاثة أقوال:

أحدها: أن ذلك على وجه التطييب لنفوسهم والتأليف لهم والرفع من أقدارهم إذ كانوا ممن يوثق بقوله، ويرجع إلى رأيه.

 والثاني: وجه ذلك لتقتدي به أمته في المشاورة، ولايرونها منزلة نقيصة، كما مدحوا بأن ( وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ )(15).

الثالث: أنه للأمرين لإجلال الصحابة واقتداء الأُمة به في ذلك(16).

وأضاف الطبرسي (رحمه الله) في المجمع وجهاً رابعاً هو: أن ذلك ( مشاورتهم ) ليمتحنهم بالمشاورة ليتميز الناصح من الغاش(17).

وعن القرطبي: كان سادات العرب إذا لم يتشاوروا في الأمر شق عليهم، فأمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يشاورهم في الأمر، فإن ذلك أعطف لهم عليه، وأذهب لأضغانهم، وأطيب لنفوسهم(18).

توجيهات أُخرى

والرازي فلسف الفائدة منها أيضاً بعدة وجوه، بعضها ذكرت سابقاً وقال بتصرف: الفائدة في أنه تعالى أمر الرسول بمشاورتهم وجوه:

الأول: أن مشاورة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إياهم توجب علوّ شأنهم، ورفعة درجتهم، وذلك يقتضي شدة محبتهم له وخلوصهم في طاعته، ولو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة بهم، فيحصل سوء الظن والفظاظة.

الثاني: إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة، ويصير سنة في أُمته.

الثالث: وشاورهم في الأمر لالتستفيد منهم رأياً وعلماً، لكن لكي تعلم مقادير عقولهم وأفهامهم، ومقدار حبهم لك وإخلاصهم في طاعتك، فحينئذ يتميز عندك الفاضل من المفضول ليتبين لهم على قدر منازلهم.

الرابع: وشاورهم في الأمر لا لأنك محتاج إليهم، ولكن لأجل أنك إذا شاورتهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة، فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها، وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله.

الخامس: لما أمر الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمشاورتهم دل ذلك على أن لهم عند الله قدراً وقيمة، فهذا يفيد أن لهم قدراً عند الله وقدراً عند الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)وقدراً عند الخلق (19).

ومن هنا نعلم أن السياسة المنطقية الحكيمة لأي حاكم كان حتى لو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على عظمته وعلوّ شأنه وعصمته الغيبية يقتضي مشاورة الشعب وإدخالهم في قرار الحكم دفعاً لمفاسد الاستبداد بعده (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي يؤكد هذا الحق – حق المشاورة – للأُمة على حكامها هي مواقف النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أصحابه ومناصريه، حيث كان كثير المشاورة لهم، فشاورهم يوم بدر في الخروج للقتال، وشاورهم يوم أُحد أيبقى في المدينة أم يخرج للعدو، وغيرها الكثير.

وهكذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كثير المشاورة لأصحابه وأنصاره حتى قال بعضهم: مارأيت أحداً قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(20).

من كل هذه الآراء والمواقف لانجد إلاّ أن الإسلام قد أغلق جميع أبواب الاستبداد، ولم يدع مجالاً لأي حاكم مسلم قد تساعده الفرص والظروف لأن يستعلي على الناس، ويتجبر على شعبه، ويستبد بالأُمور، بل وجعل حياة الحاكم السياسية ودوره الحكومي مرهوناً بالمشاورة واحترام الشعب، فإذا تجاوز ذلك سحبت الثقة منه، واستحق العزل؛ ولذلك قلنا: إن إصطلاح الشورى الذي عبر عنه القرآن الكريم في رسم معالم القمة السياسية للدولة المسلمة دقيق في مفهومه، وعميق في معناه، وهو يتضمن في نفسه هذه الحقوق السياسية الأربع التي تعطي المواطنين حق الشرعية وصلاحيات السلطات، وتجعل من الحاكم أجيراً أو وكيلاً يقوم بتدبير شؤونهم بدلاً عنهم لاغير.

فالشورى تعني أولاً حق الشعب في إبداء رأيه والإعلان عن موقفه من الرئيس والحكومة، أي حق الانتخاب. والشورى تعني ثانياً الحوار والتشاور ودخول الشعب مباشرة كرقم أساسي وكبير في تشكيل التركيبة الحاكمة وسياسة الحكم، أي حق المشاورة. وثالثاً: مراقبة الحاكم ومتابعة مواقفه وآرائه ونقده نقداً بناء يصونه من الخطأ والانحراف، أي حق المراقبة. ورابعاً: تتضمن الشورى أيضاً في محتواها حق الشعب في ردع الحاكم أو عزله والإطاحة به لو تجاوز شرائط الديمقراطية والمشورة، أي حق العزل.

وبالتالي فان الشورى تعتبر من أكبر الضمانات العملية التي أوجبها الإسلام لتقف أمام تجاوزات الحاكم واستبداده بالسلطة.

ماذا تعني الشورى؟

لقد حاول الكثير من أعداء الإسلام أو الذين أساؤوا فهمه وتطبيقه في مختلف العصور التقليل من أهمية وخطر مبدأ الشورى وأثره في حفظ الحقوق والحريات وديمومة النظام السياسي للبلد، فجعلوا يصوّرون الهدف منه والباعث على إقامته والحث على الالتزام به هو مجرد إبداء الرأي والنصيحة للأهل والأقرباء والأصدقاء عندما يسأل الإنسان فيها في المسائل الشخصية الخاصة.

أو الرئيس والقائد والزعيم في بعض الأُمور التي لايتوقف عليها النظام العام وتحديد سياسة البلد، وتتوقف عند هذا الحد دون أن يتعدى أمرها إلى:

1-كونها خطة واسعة وبرنامج عمل مدروس وشامل تتجسد فيه معالم الديمقراطية والأساليب العادلة القويمة في ممارسة السلطة.

2-ومسألة من المسائل العامة والمهمة والخطيرة التي تمس مصير الناس وخاصة السياسة.

كما زعم البعض الآخر أن نظام الشورى حتى لو كان من الضرورات الحيوية لديمقراطية أي شعب وسلطة سياسية إلاّ أنها تبقى نتائجها غير ملزمة وحتمية، إلاّ إذا وافقت رأي الحاكم وموقف الحكومة فتكون في واقعها عملية إسناد ودعم لاتجاهات الحكومة، لا قراراً دستورياً يجبر الحاكم على العمل به.

وفي كل ذلك تجن كبير على الإسلام وهدم لنظامه السياسي الأساس القائم على الشورى؛ لأن الشورى لايتوقف دورها على هذه المهمات الصغيرة البسيطة التي ليس لها أدنى أثر وخطورة على مصالح الناس وحقوقهم الإنسانية العامة، والذي يقف وراء تنصيب الحاكم والضرورة اللازمة التي دعت الإسلام لأن يشرع قانون الدولة ويقبل بوجودها في قبال تحديد بعض حريات الناس وتحجيم قسم من حقوقهم، بل إن الشورى في المفهوم الإسلامي الصحيح تعني كل ما نعرفه في عصرنا هذا من مظاهر الحرية السياسية والحكم الدستوري والحياة البرلمانية المتوازنة، بل وتعني كل شيء يتعلق بالأمن والنظام والشعب والدولة بدون استثناء، وتعني أيضاً حق الشعب في انتخاب حكامه وممثليه، وحق محاسبتهم أو نقدهم والاعتراض عليهم بالمجالس الشعبية والنيابية والأجهزة الإعلامية والأنظمة الحزبية والمؤسسات الدستورية المختلفة، وحق عزل الحكام والرؤساء والوزراء والمسؤولين والموظفين الكبار حسب قواعد الشريعة والدستور.

والشورى تعني أيضاً ديمقراطية الحكم وجماعية القيادة وعدم استئثار فرد واحد أو فئة معينة أو طبقة أو حزب أو عائلة بالحكم والنظام وتوزيع السلطات بين الأطراف والقوى المتعددة حسب الكفاءات والمؤهلات القانونية الصحيحة، تعني التزام الحكم برأي الأغلبية والخضوع لآرائها ومواقفها، وتعني حرية الرأي السياسي وحرية الصحافة وكل وسائل الإعلام وانعدام الرقابة وأجهزة التجسس والإنصات والأمن وكل وسائل القمع الأُخرى، وتعني حرية تشكيل الجماعات والهيئات والمؤسسات والأحزاب السياسية التي تهدف إلى حفظ التوازن بين السلطات وتوزيع القدرة.

وأخيراً الشورى تعني في كل معناها ومحتواها ديمقراطية الحاكم والشعب ونظام الحكم؛ لأنها حالة طبيعية يوجدها الاسلام في نفوس أبنائه تجعلهم يلازمونها ويتصاعدون معها من أدنى الأُمور والمواقف الخاصة التي يتعرض لها كل فرد ومواطن عادي إلى الأوسط والأهم وإلى المشاكل والمهمات الخطيرة التي تنعكس آثارها على الجميع. هذه كلها يقضي فيها الإسلام بالمشورة، فالزواج بالمشورة، والطلاق بالمشورة، والطعام والسفر والحضر بالمشورة، كما أن الدراسة والمطالعة والتعليم والتعلم والهندسة والبناء وتأسيس المشاريع والمؤسسات وغيرها يحث الإسلام على تخطيطها وإنجازها وانجاحها بالمشورة.

كذلك مسائل الحكم والسياسة والإدارة العامة للبلاد يحكم فيها قانون المشورة، فكل عمل وخطوة ومشروع يهدفه الإنسان يلزمه المشورة، وكل شيء يخص الإنسان والشعب والحكومة يجب أن يتم بالمشورة. نعم ربما تختلف فيها أهمية المشورة من موقع لآخر.

وإذا أردنا ترجمة صادقة وأمينة لكلمة الشورى وماتتضمنه هذه الكلمة من معان وأبعاد في هذا اليوم لوجدنا أنها تعني الحياة القانونية الفاعلة والنشيطة المفعمة بالمحبة والعطف والرحمة والإحسان واحترام الآخرين وغيرها من معاني الخير التي تضمن للإنسان حياة حرة سعيدة.

حكم الشورى

بالرغم من وضوح الأدلة والبراهين الشرعية والعقلية الدالة على أرجحية أصل الشورى ولزوم العمل على طبقها كما تقدم في الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة والسيرة الاستشارية للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) إلاّ أنه اختلف فيها الفقهاء والمفسرون اختلافاً بيناً من حيث الحكم حتى جاءت آراؤهم متفاوتة كل التفاوت في حقيقة حكمها ونوع التكليف المستفاد من: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ )(21)، و: ( وَأَمْرُهُمْ شُورَىَ بَيْنَهُمْ )(22).

فمنهم من يرى أن الشورى غير واجبة بل مستحبة وراجحة لايلزم العمل بها دائماً، ومنهم من يرى أنها واجبة وحتمية وبدونها لايمتلك الحاكم أدنى مرتبة من الشرعية، بل يجب عزله، ومنهم من يرى أن نتيجة الشورى غير ملزمة وإنما راجحة فقط يستحسن العمل بها وإن كانت المشورة بنفسها واجبة عقلاً أو شرعاً، ومنهم من يرى عدم جدوائية المشورة إذا لم تكن واجبة، فبدون الالتزام بحصيلة الشورى ينهدم ركن الشورى من أساسه.

ولعل الأصح بعد مراجعة تلك الأقوال أن تقول: إن الشورى تختلف من حيث الحكم والتكليف بحسب اختلاف الأُمور التي يراد المشورة فيها ودرجة أهميتها وتأثيرها في الحياة، فالأُمور الحساسة والخطيرة التي ترتبط بمصير الناس وحقوقهم كأُمور السلطة وشؤون الحكم فتكون الشورى فيها واجبة وملزمة لايجوز التخلي عنها مطلقاً، وأما الأُمور التي لاتبلغ درجة الأهمية فيها إلى حد يستدعي الإلزام تكون مستحبة، كالمواضيع الخاصة والشؤون الشخصية للفرد، كالزواج والطلاق وانتخاب المقعد الدراسي وأشباهه.

وفي هذا الصدد قال المرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد الشيرازي (قدس سره): الظاهر من الآية: ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) وجوب المشورة على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الموضوعات المرتبطة بشؤون الأُمة، أما المشورة في سائر الأُمور الجزئية ونحوها فهي مستحبة كما هو المشهور، فالآية أعم من الواجب والمستحب، ويعرف كل واحد منهما من الخارج(23).

كيف نطبق المشورة ؟

وأيضاً هناك اختلاف بيّن في أقوال العلماء بشأن كيفية تطبيق الشورى في الحياة السياسية للمجتمع والدولة، فمنهم من يقرر وجوب إنشاء مجلس معلوم يضم أهل الحل والعقد والخبرة والاختصاص في كافة المجالات المرتبطة بإدارة نظام الحكم بالإضافة إلى الدين، وهو المسمى في الاصطلاح الغربي المجلس النيابي أو البرلمان، وفي الاصطلاح الإسلامي مجلس الشورى.

ومنهم من يقتنع بأن يستشير الحاكم أصدقاءه المقربين وبطانته الخاصة مثلما يستشير رب الأُسرة أعضاء أُسرته، ورب العمل عماله وموظفيه، فالمهم في قرار الحاكم أن يكون صادراً عن مشورة ومبادلة الآراء من دون تشخيص لأعضاء الشورى وتعيينهم أو جمعهم في مكان خاص كما يقول الرأي الأول.

ومنهم من يرى ضرورة تشكيل مجالس متعددة تشكل في جوهرها تركيبة السلطة الحاكمة من القمة إلى القاعدة، ولعل هذا هو الأصح والأقرب إلى روح الشريعة ومفهوم الشورى؛ لأنه يعني أن يكون في رئاسة الدولة مجلس للشورى يضم في داخله عدة رؤساء يصدرون قرارهم بعد المشورة، والقرار الصادر منهم يمثل رأي السلطة ووحدة قرارها.

فاذا كانت تركيبة الحكم دينية ملتزمة بالإسلام وتدعو إلى تطبيقه في الحياة فيكون المجلس الحاكم مكوناً من الفقهاء العدول الذين يقلدهم الشعب، ويأخذ عنهم آراءه ومواقفه، ويسميه مجلس شورى الفقهاء، حيث يتصدون لزمام الحكم والدولة، ويديرون شؤونها بالتفاهم والمشورة، وهذا هو الذي أشار إليه الإسلام وسعى إلى إيجاده للبشر، وسيأتي بعض التفصيل عنه.

وإذا كانت الحكومة وطنية تكتفي بالدين كشريعة تنظم علاقة الإنسان مع خالقه، ولاتتمسك بمبادئه السياسية والاجتماعية الأُخرى لتقيم عليها نظامها السياسي.

يكون المجلس الرئاسي مكوناً من عدة زعماء ورؤساء دولة يتقاسمون بينهم المسؤوليات والأدوار، بخلاف الطريقة الديمقراطية المعمول بها في أكثر دول العالم الحر اليوم، حيث تنحصر رئاسة الحكومة في شخص واحد يمثل رئاسة البلد، ويؤدي مهامه بالاستشارة وأكثرية الآراء. ولكن النظرية الأُولى نظرية جديدة على الفكر الديمقراطي الحديث أول من دعا إليها الإسلام، ولعلنا لانتعدى الحق لو قلنا: إن الفكر الديمقراطي الحر لو تنبه إلى النتائج الإيجابية الكبيرة التي تترتب على هذا النوع من النظام الحكومي سوف يتخلى عن مبدأ إعطاء رئاسة الدولة والحكومة إلى شخص واحد يمثل آراء الشعب، ويلجأ إلى إيجاد النظام الجماعي وتوزيع سلطات الرئاسة بين عدة رؤساء، ويوجد شاهد عملي لهذا النوع من الحكم اليوم في دولة سويسرا، حيث يقوم نظامها الحاكم على مجلس رئاسي مكون من سبعة أشخاص يتولون معاً مهام رئاسة الجمهورية، ويتقاسمون بينهم الوزارات والمسؤوليات الحكومية، حيث يتولى كل واحد منهم ثلاث أو أربع وزارات يطبق عليها أفكاره ومشاريعه.

وبعد مجلس الرئاسة تشكل الوزارات الي هي أيضاً تكون بالمجالس الاستشارية، وهكذا حتى تكون تركيبة السلطة كلها قائمة على مجموعة مجالس استشارية صغيرة أو كبيرة كل في مجال خبرته وتخصصه تدير البلد، وفي هذا الأُسلوب المتطور من الديمقراطية نتمكن من أن نحصل على ضمانات أكبر من الحرية والأمن كما نحصل على فرص أكثر للتقدم والرفاه.

* فصل من كتاب الحرية السياسية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

........................................

(1) الفقه (( الدولة الإسلامية )): ج 101، ص 65.

 (2) راجع شورى الفقهاء المراجع: 333.

 (3) المغني:ج 10، ص52.

 (4) انظر عندما يحكم الاسلام ( النفيسي ): ص 154.

 (5) الشورى: 38.

 (6) الشورى: 38.

 (7) مجمع البيان: ج9، ص 57.

 (8) زاد المسير:ج 7، ص 83.

 (9) التبيان:ج 9، ص 168.

 (10) القرآن الكريم مع تفسير البيضاوي: ص644.

 (11) الميزان:ج 18، ص 63.

 (12) آل عمران: 159.

 (13) آل عمران: 159.

 (14) الفقه (( الواجبات )):ج 92، ص 150 -151.

 (15) الشورى: 38.

 (16) التبيان:ج 3، ص 32.

 (17) مجمع البيان:ج 2، ص 428.

 (18) تفسير القرطبي:ج 4، ص 25.

 (19) انظر تفسير الفخر الرازي الآية 159 من سورة آل عمران.

 (20) السنن الكبرى: ج9، ص218 ؛ نيل الأوطار:ج 8، ص 46.

 (21) آل عمران: 159.

 (22) الشورى: 38.

 (23) الفقه (( الواجبات )):ج 92، ص150- 151.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 15/كانون الاول/2009 - 27/ذو الحجة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م