هناك صوتان لابد أن يرتفعا فى كل أمة ويجب أن يتوازنا حتى لا يطغى
أحدهما على الآخر، صوت يبين عيوب الأمة فى رفق وهوادة ويشحذ الهمم على
التخلص منها والتحرر من قيودها، وصوت يظهر محاسنها ويشجع على دعمها
والاحتفاظ بها والاستزادة منها. والصوتان معا إذا إعتدلا كونا لحن
موسيقى منسق فى تناغم بديع تحدو الامة أمل فى السير إلى الأمام دائما،
فإن بغى أحد الصوتين على الآخر كانت موسيقى مضطربة تتألم لها النفس
وتدعو إلى الفوضى والإرتباك، ويعرف ذلك الموسيقي عندما يشذ أحد الاصوات
فيكون (نشازا) يخدش السمع ويحرج النفس، فما بالنا من لحن كله نشاز ؟
ومن المؤسف والمخيب للآمال الآن أن نسمع صوتا يعلو كل الأصوات، وهو
بالتأكيد ليس خير الأصوات ولا أحبها إلى النفس، ألا وهو صوت اليأس
والتثبيط يتغنى به كل فئات الأمة على إختلاف مواقعهم إن كانوا دعاة،
إعلاميين، نقاد، سياسيين..... أغلبهم تعلوا أصواتهم مخيبة للرجاء
والآمال، فنجد فى الكثير من الاحيان خطيب المسجد تدور خطبته غالبا على
أن من يخطبهم ليسوا مؤمنين حقا، فقد إرتكبوا من الأوزار وإجترموا من
الآثام ما أخرجهم عن الإيمان الحق، وأبعدهم عن الدين الصحيح، ولو أخذهم
الله بأعمالهم لأمطر عليهم حجارة من السماء، أو خسف بهم الأرض، ويتكرر
ذلك ويخرج السامع دائما وقد ملأه اليأس وأنقطع به الرجاء.
وكذلك نرى دعاة اللغة والأدب يلحون فى أن اللغات الأجنبية خير من
اللغة العربية، وأن الأدب الغربى أدب الثقافة والفن والعلم، ولا شئ من
ذلك فى الأدب العربى، ومن شاء أن يفتح عينيه فليفتحهما على أدب أجنبى
ولغة أجنبية، وإلا ظل أعمى.
ولا يختلف الحال كثيرا عند دعاة الاجتماع فأمرهم أدهى وأمر من
غيرهم، فعندهم تسمع بأنه ليس فى الشرق كله ما يسر القلب، فقد جرد من كل
شئ طيب، فلا طبيعة جميلة ولا مناظر جذابة، فعندهم ترى القمر فى الغرب
أنور منه فى الشرق، والبحر الابيض المتوسط قد جمل منه ما لامس الغرب،
وقبح ما لامس الشرق، وكل شئ فى عادات الشرق وتقاليده تعف عنها النفس،
وينفر منها الطبع، وكأن الله جمع الحسن كله فى ناحية وقال له كن فى
الغرب، وجمع القبيح كله فى ناحية، وقال له كن فى الشرق.
كما أيضا نجد الحال عند دعاة العلم من هذا النوع، يرون كتب العلم
العربى إنما لا تصلح إلا لدراسة التاريخ أو طعام للنار، وما فيها إلا
تخريف أو تحريف...
فإن إقتربت من مجالسنا تجدها صدى لهذا الصوت، فكلها نقد للاخلاق،
وطعن فى حياتنا الشرقية، وتهجم على حالنا، وقل أن نسمع صوتا ينطق بمدح،
أو يبدى إعجابا ببطولة، أو يتغنى بعمل مجيد.
هذه النغمة قد جنت علينا فى كل شئ حتى فيما نصنعه بأيدينا، نذمه
أكثر ما نمتدحه، وإن إبتعت سلعة من بائع وضعها لك فى مقارنة بين ما
نصنعه وما يصنعه الغرب، وينفرك من قبولك لشراء صناعتك المحلية ويرغبك
فى شراء السلع الاجنبية، مع العلم بأنه يربح من بيع السلعتين ولا نعرف
لذلك سبيل إلا أن يطغى صوت على آخر.
إنها حقا نغمة ملولة أثبطت الهمم وأفقدتنا الثقة، ولن تفلح أمه من
غير ذخيرة تعتز بها، ومجد طارف وتليد تعتد به، ونعرة قومية تدعوها إلى
الفخر والاعجاب.
وليس عبثا أن يكون فى أناشيد الألمان ((ألمانيا فوق الجميع))، كما
أنه ليس بمستغرب أن تعتقد بعض الامم فى أنفسهم أنهم شعب الله المختار،
ونحو هذا ما يبعث الأمل ويدعوإلى العمل. فتلك ظاهرة نفسية لا مجال
لإنكارها، فإن أنت اعتقدت الغباوة فى طفلك وكررت عليه إعتقادك فأنت
تقتل ما فيه من ذكاء، وإن أعلنت أنه ذكى وشجعته على ما يبدو منه من
ضروب الذكاء فأنت تستخرج منه أقصى ما عنده من عقل.
أيها الدعاة من هذا النوع، ألم تسمعوا إلى قول الله تعالى : " كنتم
خير أمة أخرجت إلى الناس ". عليكم أن تكسرون قيثارتكم التى لا توقع إلا
نغمة واحدة بغيضة، وإستبدلوها بقيثارة ذات الحان تبعث الامل وتدعو إلى
العمل، وتزيد الحياة قوة، وتزينها بهجة، ولا تشهروا برذيلة إلا إذا
أشدتم بفضيلة، ولا تسمعونا صوت المعاول إلا إذا أريتمونا حجر البناء،
مأ أحوجنا جميعا فى هذه الأونة إلى دعوة للعدول عن سقطاتنا والنهوض من
عثراتنا.
* بورسعيد – مصر
alynassef@yahoo.com |