ليلة سقوط دبي

عباس عبود سالم

خلال وبعد اجازة عيد الاضحى المبارك، فجرت امارة دبي قنبلة اعلامية، واقتصادية، غير مألوفة، ليس بتشييد اعجاز معماري جديد، او استضافة نهائيات كاس العالم لكرة الماء، او للتزحلق على الرمال، او لتنظيم مسابقة ملكات جمال العالم للمواشي، او اي امر آخر.

هذه المرة دبي برمتها تتزحلق بأتجاه السقوط، بعد ان تلقفت الصحف ووسائل الاعلام الغربية بالتحديد، انباء عجزها عن تسديد ديون واستحقاقات، شركة دبي العالمية، والبالغة اكثر من 60 مليار دولار، الامر الذي انذر بحدوث ازمة مالية تهددها بالافلاس، وبالتالي سقوط تجربة مشروع تنموي عربي، او بعبارة ادق نموذج نجاح عربي.

ورغم ان امارة دبي شيء.. وشركة دبي القابضة شيء آخر.. لكن يبدو ان الشركة اهم من الامارة رغم انها مملوكة لها، ليس لكونها من اكبر الشركات القابضة في العالم، حسب، بل لانها تضم وتدير مجموعة مؤسسات، اكثر اهمية من المؤسسات الرسمية التقليدية، و ابرزها موانيء دبي العالمية، ونخيل للعقار، ومدينة دبي للاعلام، وسما دبي العقارية، ودبي لاند، والجميرة، وغيرها من الاسماء، والمسميات، التي نطالعها في الصحف، ونشاهدها عبر الفضائيات، باعلاناتها المبهرة، وهي بالطبع اكثر اهمية من دوائر ووزارات امارة دبي.

وكدليل على نجاحها، قامت هذه الشركة بتشييد صروح هندسية، اقرب الى الخيال، حققت للامارة شهرة عالمية، ونهضة عمرانية وتنموية لامحدودة، وبدل من ان يبحث اثرياء الخليج عن مدن اوربا، وامريكا، للاقامة، او الدراسة، او للسياحة، او استثمار الاموال، جلبت (دبي الشركة) لهم مايريدون، ووفرت لهم مايتمنون على ارض (دبي الامارة).

اراد محمد بن راشد المكتوم، بديكتاتوريته الناعمة، وخبرته الاقتصادية، وطموحاته اللامحدودة، ان يخرج بامارته الصغيرة من (طور الاستهلاك) الذي ميز بلدان الخليج، الى (طور الانتاج) الذي ميز نمور آسيا، وتمكن من خلال دبي الشركة، من نقل دبي الامارة، الى مصاف المراكز الاقتصادية المتقدمة في العالم، بعد ان كانت مجرد مرفا لصيادي اللؤلؤ والاسماك.

وعلى هذا الاساس صنعت دبي الشركة، اعاجيب لم يألفها الخليج، الذي طالما كان عنوانا للحروب، والصراعات، وبدل من ان تتباهي دبي الامارة، بتشييد قواعد للصواريخ بعيدة المدى، او بناء قواعد برية وبحرية وشبكات للانذار المبكر، على سواحلها، لتعزز سيادتها الوطنية، اخذت تباهي العالم بانجازات دبي الشركة، مثل انشاء جزيرة صناعية وسط الخليج، وفنادق غاطسة تحت مياه البحر، وابراجا هي الاعلى في العالم، اضافة الى تشييد كيان ضخم من المؤسسات المالية، والشركات المتخصصة في قطاع الخدمات.

واذا صدقت التحليلات الغربية وسقطت دبي، فنكون امام سقوط نموذج آخر، من ازدواجية (الدولة- المنظمة)، ولكنه هذه المرة نموذج اقتصادي غير مألوف في الاوساط العربية، وحتى في حال سقوط دبي الشركة، فان دبي الامارة التي لاترتكز على انتاج او احتياطي نفطي كحال ابو ظبي وسائر امارات الخليج، تكون قد ورثت بنية تحتية هائلة القوة، وكوادر مدربة، حاصلة على مهارات نادرة، وسمعة دولية حسنة.

على خلاف التجارب العربية الاخرى، التي مازالت منظوماتها الساقطة، عالقة في مزابل التاريخ، لاتجني سوى لعنات الشعوب، وهي تجارب ارتكزت على ثنائية سياسية- عسكرية، تكررت، في ليبيا، وسوريا، ومصر، والجزائر، واليمن، فالعراق حيث اوجد صدام نموذج (احتقار الدولة)، (وتقديس المنظمة)، وبالتالي اذلال الامة وتقديس الانا.

لكنه لم يقدم على تشييد شركة قابضة، منفتحة، منتجة، مثل دبي العالمية، بل شكل منظمة، مغلقة، قاسية، هادمة (قابضة على الاموال والارواح البريئة) تدعمها سيولة وارصدة نقدية يقال انها كانت عشية تسلمه السلطة تفوق ال300 مليار دولار، وكان العراق يرتكز على اقتصاد قوامه احتياطي هائل من النفط، والغاز الطبيعي، والكبريت، وبنية تحتية لمشاريع صناعية وزراعية طموحة، وكوادر وخبرات وطنية ماهرة، توارثها العراق منذ انشاء مجلس الاعمار عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.

وقد تمكن صدام بفترة وجيزة، من تفكيك مقومات القوة العراقية، وصهرها ضمن منظومته القائمة على القوة المسلحة، (الجيش، والحرس الجمهوري، واجهزة الامن، والمخابرات)، والافراط في التسلح، ليضع الدولة ومقوماتها، في خدمة الحزب، والعشيرة، والعائلة، ركائز (المنظمة القابضة) التي بعد سقوطها عاش العراقيون اجواء تفاؤل مفرط ظنا منهم انه زوال للمنظمة وبقاء الدولة.

 لكن الامر لم يكن بهذه السهولة، مع السعي لتوليد منظمات قابضة بمسميات جديدة، وعلى سبيل المثال، قدر خبراء اقتصاد بريطانيون عام 2003م، ان البصرة تمتلك مقومات نجاح، تفوق امارات الخليج، وربما تدخل لمنافسة دبي خلال خمس سنوات، اذا ماحصلت على فيدرالية، تمكنها من التخلص من اعباء المركز، والسير على خطى سنن آل مكتوم، وآل نهيان، وآل ثاني.

 وقد تفائل البصريون، وحلموا بما خبأه لهم القدر من نعم الله الوافرة، التي ستجعلهم سادة الخليج الجدد، اذا حكموا انفسهم بانفسهم، لكن ماتحقق ان البصرة بدل ان تجذب المستثمرين والطامحين، وتحقق القفزة المنتظرة، جذبت كبار المهربين المحليين والدوليين، الذين استقطبوا  محترفي القتل، ليبدا التنافس بالتصفيات الجسدية، ثم تشكيل الجماعات المسلحة، وتسييس مبرر وجودها، والتسابق لوضع اليد على المراكز الحيوية، والعمل من داخل الحكومة المحلية لشل سيطرة الدولة المركزية.

وبالتالي دخلت البصرة سجلات الشهرة العالمية وضربت الارقام القياسية ليس لمنافسة امارات الخليج انما لمنافسة اكبر مراكز القرصنة، والتهريب، والقتل، وتفشي الاوبئة، والفقر، في العالم، ولولا تدخل الحكومة، التي اعادت المدينة الى اهلها، قبل ان يقوم قراصنتها بأعلان تشكيل شركتهم القابضة، لكان للبصرة قصة سقوط، لاتشبه اي قصة اخرى!!!

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 10/كانون الاول/2009 - 22/ذو الحجة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م