ليس من شك أن لكل مدنية جانبان، جانب نسميه الجانب المادى، وجانب
آخر نسميه إن جازت التسمية الجانب الروحى.
فالجانب المادى ما نعنى به القوة الحسية، من قوة التسليح والمخترعات
الحديثة، والمبانى والبواخر والقطارات والطائرات وما تم إختراعه من
صنوف الترف واستخدام التقنيات الحديثة فى تنظيم الاعمال وكل ما نشهده
من مدارس وجامعات ومستشفيات واستخدامات للوسائل التكنولوجية الحديثة فى
الاتصالات واستخدامات الانترنت والعلوم المتطورة فى المجالات المختلفة،
فكل هذا ما رسمه الجانب المادي على المدنية وأضفى عليها شكلا من النعيم
والترف وهو ما نعبر عنه بالقوة المادية.
أما الجانب الأخر وهو الجانب الروحى، فتحركه ايضا قوة تتجلى فى رسم
المثل الأعلى للإنسان، والسعى فى الوصل اليه، والعمل على إصلاح النوع
الإنسانى من الناحية الفردية والاجتماعية والسياسية , وكيفية تعويد
الإنسان أن يفكر ويشعر ويعمل لخير الإنسانية، وكيف يخفق قلب الإنسان
بحب الناس جميعا، ويحب الخير العام لهم، لذلك وضعت نظم وطرق التربية
والقوانين والمعاهدات ما يحقق هذه الغاية أو على الاقل الاقتراب منها،
وبما يعنى بالمجمل تغذية الروح بحب الخير للإنسانية.
ولا أظن أن تعد المدنية مدنية راقية إلا إذا وجد فيها الجانبان،
وكانا معا راقيين متوازيين. لقد نجحت المدنية فى الجانب المادى نجاحا
فاق ما كان منتظرا، وفشلت فى الجانب الروحى فشلا أبعد ما كان ينتظر؟
فقد تبدى أمام كل من يهمهم حسن الشكل والمتعة المادية ما جعلهم يصفقوا
للمدنية الحديثة حتى تعبت أيديهم من التصفيق، وبحت أصواتهم من نداء
الاستحسان، أما الذين يهمهم من الإنسان روحه لا جسده، ومن المادية
روحها لا مادتها، فنالهم شئ غير قليل من اليأس.
فإن تحدثت عن المدنية فحدث عنها ولا حرج، فكل المظاهر البراقة التى
نراها وما أتى به التقدم العلمى والمخترعات التى لا تحصى ولا تعد،
والعجب منها لا ينتهى أبدا، ولكن لا تخدعنك هذه المظاهر، فالمثل العامى
يقول : لا يعجبنك البيت وتزويقه، فساكنه قد جف ريقه، لا تنظر إلى
المكان وأنظر إلى السكان.
هؤلاء الافراد العاطلين، وهذه الملايين من البائسين، وهذه الحروب
الطاحنة، وهذه الدول التى تتسلح لتقذف بأبنائها فى أتون من نار مساحته
الارض كلها، والكثير مما لا يعد من ضروب الشقاء، سر هذا كله يعزى فى
مجمله إلى طغيان جانب المادة على جانب الروح، حتى عجزت المدنية الحديثة
أن تنظر إلى الإنسان كوحدة على الرغم من أنها قربت بطرق الاتصالات
والمواصلات والمعاملات بين أجزاء العالم حتى اصبح قرية صغيرة. فقربت فى
المكان وباعدت بين السكان، تقدمت فى علم الجغرافيا ولم تتقدم فى علم
الاجتماع، استكشفت الانهار والبحار والوديان والجبال والصحارى، ولم
تستكشف قلب الإنسان، عملت على وحدة الانسان جغرافيا، وعملت على تفريقه
اجتماعيا، فما أعجب ما صنعته المدنية..!!
لقد منحتنا المدنية كيف نعيش , وحسنت فى ذلك، ولكن لم تمنحنا كيف
يجب أن نعيش وما الغاية التى لأجلها نعيش، فكان العلم وتقدمه وسيلة
لتحسين كيف نعيش، فالأخلاق اساسها هذه المادية، ومالية الدولة مشلولة
بالأغراض الحربية، والآلات المخترعة جعلت أصحاب المال والحكومات ينظرون
إلى الانسان نظرتهم إلى ترس فى آلة، حتى استغرقت المادة تفكير المفكرين
من اقتصاديين وماليين وعلماء وحكوميين، وأى من اتسع تفكيره لإصلاح روحى
أو إصلاح إجتماعى صدم بميزانية الدولة التى تأسست على النظرة المادية،
وصدم بالحالة العالمية العامة على الرغم من الطلاء الكاذب من المناداة
بالحرية، فالاوضاع الاقتصادية المادية سلبت الناس حريتهم، وجعلتهم
يعانون أشد المعانة فى سبيل العيش، وكلما زادت المدنية زادت مطالب
الحياة، وتعقدت سبل الحصول عليها وشعر الناس بضيق وشدة الضغط، حتى
يساورنى الظن بأنه قد ظهرت موجة علت نفوس الناس تشعرهم بأنهم لم يكونوا
بعد العلم وتقدمه أسعد مما كانوا قبله، وقد أشعرتهم المدنية بأنها
ينقصا شئ كبير.
هذا الشيء هو الذى أشرت اليه فى البداية بالجانب الروحى، ولست أتنكر
لمميزات العلم وفضله ولكن أعتقد أنه وحده لا يكفى، خاصة وإنني أفهم من
المدنية معنى خاصا هو أنها التقدم الذى يقوم به الناس فى كل جانب من
جوانب الحياة، وفى كل وجهة من وجهات النظر المختلفة، فإذا انحصر التقدم
فى المادة وحدها والعلم وحده، كانت المدنية ناقصة، كما إذا انحصر
التقدم فى الروحانية وحدها.
وما من شك أنه قد رجحت فى المدنية كفة المادية، فعلينا أن نضع فى
الكفة الثانية الجانب الروحانى لتتوازن الحياة عن طريق أن يخفق القلب
بحب الإنسانية كلها، فليس هناك عبد ومستعبد، ولا اسود وابيض، وأن يتجه
من بيدهم زمام الامور إلى الخير العام لا الخير الخاص. تعالوا نلغى
الحدود الجغرافية إعتباريا والحدود الجنسية، والحدود المالية والدينية،
وما نحوها من حدود، ليكون المبدأ العام الإنسان أخو الإنسان يكد ويعمل
لخيره، حتى يكون مبدأ الإنسانية دينا يبشر به ويعمل من أجله، وتنشط فى
ذلك مناهج التعليم وقواعد الاخلاق.
لو فعلنا ذلك لزالت أكثر شرور المدنية الحديثة ولتعاون الناس جميعا
بإختلاف مذاهبهم وأوطانهم، ولشعر الإنسان بأن أفق تفكيره قد أتسع، وشعر
أن الارض كلها وطنه، وكل الناس اخوانه، ولشاع الحب ارجاء الارض وعم
السلام على ربوعه فإن لم نصل إلى هذا فأننا نعيش أكذوبة الحياة.
* بورسعيد - مصر
ALYNASSEF@YAHOO.COM |