العلاقات العربية الكردية وحق الانفصال عن العراق

علي الأسدي

" إذا اخترتم الانفصال عنا فليس لنا الحق في فرض محبتنا عليكم أو وقف كراهيتكم لنا "

 

كثيرون منا يؤمن بهذا الرأي، وبدون شك أيضا، هناك كثيرون يخالفونه، وهو أمر طبيعي، فالناس أحرار فيما يعتقدون، ولكل رؤاه ومبرراته في تبني ما يراه صائبا. أتاحت الديمقراطية المتواضعة في بلادنا خلال السنوات الست الماضية، أن نشهد ونسمع ونشارك دون خوف او حرج  الأراء المتباينة داخل وخارج العملية السياسية، وان يكون لنا حق المشاركة في إبداء أرائنا في موضوعاتها عبر المؤسسات والمنابر الديمقراطية في البلاد برغم حداثة تكوينها وتواضع منجزاتها.

 لم يكن هذا الأسلوب الديمقراطي متاحا في العقود الماضية، وكانت السلطة القمعية وليست المؤسسات الدستورية من يقرر ويضع الحلول التي يراها للمشاكل القائمة في البلاد، وكان التعامل الفج والهمجي مع حق تقرير المصير للأقليات القومية نموذجا صارخا على الكيفية التي تصرفت بها قيادة الحكم السابقة مع الأماني القومية للأقليات في ذلك الحين.

الآن وقد طويت تلك الصفحة من ذلك التاريخ الشائن، لم يعد ملائما ابدا السير على ذات الخطوات التي خطاها ذلك النظام الجائر، ولم يعد بإمكان أي قوة أو حزب أو فرد أن يعتبر ممارسات ذلك النظام أنموذجا للاعتداد به، فذلك النموذج لم يعد يتلائم مع تطورالتاريخ ومستجداته، ومن يحاول تجاهل الواقع الحالي وما أنجز على الأرض هنا في بغداد وهناك في كردستان،  بعد التغيير العاصف في 2003 لن يكون قادرا على السير قدما أو العيش في ظل الواقع الجديد.

 لقد تركت ممارسات النظام السابق جروحا عميقة في ضمير ووجدان الكرد، ولا يجب أن نستغرب حرصهم واندفاعهم لحماية مكتسباتهم القومية، وتطوير مؤسساتهم الديمقراطية التي بدأت في التجذر في أجواء السلام والثقة بالنفس.  وينبغي على العرب العراقيين أو غيرهم أن لا يستكثروا ذلك على الكرد، فما بذلوه من تضحيات يصعب قياسه أو تقييمه، لقد كان بكل المعايير باهظ الثمن، وان التاريخ  سيشهد لهم بذلك، بصرف النظر عن من لم يدرك هذه الحقيقة بعد. بعض الأطراف العربية داخل وخار ج العملية السياسية، وبتأثير مشاعر الغلو القومي المنفلت  يتحينون الفرص لاستعادة حق السطوة على الكرد، مثل تلك المشاعر قد عفا عليها الزمن، وينبغي على حملتها أن يدركوا أن التاريخ قد تقدم كثيرا وتغير كثيرا، وعليهم أن يتعظوا من دروسه، وأن الوقت الحالي غير ملائم أبدا لثقافة الاقصاء التي ذهبت بالنظام السابق إلى الجحيم، والتي ما زالت تبعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية تقض مضاجع العراقيين جميعا.

تنشر في الصحافة بين الحين والآخر مقالات تتعرض بالنقد للسياسات التي تتبعها حكومة إقليم كردستان، سواء تلك التي تتعلق بالمناطق المتنازع عليها، أو مشكلة كركوك، أو قوات البشمركة، أو العلاقات القنصلية والدبلوماسية بين بعض الدول والاقليم أو تقاسم الثروات الطبيعية. بعض تلك المقالات كتبت بنوايا حسنة، حيث عبرت عن مخاوف مشوشة بصدد خطوات وقرارات ومطالب مشروعة، لم تكن متداولة بشكل واسع كما الآن.

ومع أن الدستور قد أجاز للكرد حقوقا كثيرة ضمن سلطات الاقليم وتحت خيمة النظام الاتحادي، إلا أن كثيرين ممن أبدوا وجهات نظرهم المعارضة لبعض سياسات الاقليم لم يلموا بدرجة كافية بما كفله الدستور للشعب الكردي حقيقة، بل ان البعض لم يطلع أصلا على تلك البنود الدستورية التي تخص حقوق الأكراد. لكن الأسوء من كل هذا، هو ما تردده الأبواق الشوفينية العربية في داخل العراق وخارجه من تشويه وذم للحكم الاتحادي، تحت مبررات الحرص على الشعب العراقي ووحدة أراضيه على حد زعمهم. وعلينا في مثل هذه البلبلة الاعلامية توخي اليقضة والحكمة عند دراسة  تلك الكتابات والادعاءات التي يروج لها، وبضرورة التقصي عن حقيقة مطلقيها ومصداقية نواياها.

لايخفى على أحد حساسية الظرف الذي تمر به العلاقات بين الحكومة المركزية واقليم كردستان، وقد كنا شهودا على أحداث كانت ستودي بحياة مواطنين من العرب والكرد. وليس الوقت مناسبا أبدا للعب على العواطف وإثارة النعرات من أي صنف، وعلينا جميعا التحلي بالحكمة في معالجة سوء الفهم بين الجانبين. لقد تدخلت مجموعة الأزمات الدولية لتخفيف التوتر في مناطق التماس بين قوات الجيش العراقي والبشمركة الكردية، أنضم اليهم فيما بعد قادة عسكريون أمريكان أضطروا بسبب ذلك إلى تسيير دوريات عسكرية لوقف النزاعات عند الضرورة. ما يعني أن هناك بالفعل خطر نشوب صراع لا يسعى إليه الطرفان العراقيان العربي والكردي، لكن الخطأ وسوء الفهم قد يدهور العلاقة أكثر.

 لقد أضطر السيد مايكل كورين نائب وزيرة الخارجية الأمريكية المسئول عن الملف العراقي في وزارة الخارجية إلى التعبير عن مخاوفه من العلاقة المتوترة بين العرب والكرد في حديث له مع مراسل صحيفة " الاتحاد الاماراتية " في واشنطن يوم 2 /12 /2009. حيث قال : 

" إن الخلافات بينهما لن تحل بين يوم وليلة وإنما قد تستغرق سنوات، وإنه من الضروري بحث العوامل التي تهدد أمن العراق، واتفق مع الرأي القائل بأن تلك العوامل لا تأتي في اللحظة الحالية من المتشددين رغم أن تهديداتهم لم تتبدد بعد،بل من عناصر داخل التركيبة السياسية.  ولا أقصد الانقسام الطائفي الذي نلاحظ الآن تراجع حدته بسرعة، وإنما في المواجهة بين العرب والأكراد". وأضاف: "لدينا الآن 116 ألف جندي وسوف ينخفض هذا الرقم الى 50 الفاً في آب 2010 طبقاً لخطة الرئيس باراك اوباما. ان مجموعات إعادة التعمير المؤقتة المنتشرة في أنحاء العراق باقية حتى عام 2012 على الأقل، وان آخر القوات المنسحبة ستكون تلك التي تعمل في المناطق المتنازع عليها بين العرب والأكراد مثل كركوك"

 لقد جرت حوارات وشكلت وفود من الحكومة المركزية وحكومة الاقليم لبحث القضايا التي ذكرناها انفا، ولحد الآن لم يتوصل الفرقاء لاتفاقات حولها. ومع استمرار الجدل عبر الوسطاء الأمريكيين وممثل الأمين العام للأمم المتحدة ومجموعة الأزمات الدولية، تستمر بنفس الوقت الحوارات بين الكتاب وأصحاب الرأي عبر وسائل النشر والقنوات الاعلامية، وما يهمنا هنا الآراء التي يطرحها مثقفون عراقيون معروفون بمواقفهم المؤيدة للحقوق القومية للكرد عبر العقود الماضية، ولا أشك في أنهم ما زالوا عند مواقفهم.

لكن ما نشره أخيرا الكاتب المرموق السيد حامد الحمداني المعروف بمواقفه التقدمية المساندة لحقوق الشعب الكردي، يثير بعض التساؤل حول مواقف الأوساط التقدمية العراقية من التطورات المتسارعة للعلاقات بين المركز وحكومة اقليم كردستان. فقد عبر السيد الحمداني عن مخاوفه من توجهات القيادة الكردية، وخص بالذكر السيد مسعود البارزاني رئيس الاقليم، جاء ذلك في مقاله بعنوان " الأهداف الحقيقية وراء دعوة البارزاني لتأليف جيش كردي " المنشور بتاريخ 28 / 11 /2009  في عدة مواقع صحفية، وللكاتب نفسه كتاب خصصه للقضية الكردية بعنوان ( لمحات من تاريخ حركة التحرر الكردية في العراق ). لقد جاء في المقال المذكور ما يلي :

" أثارت التصريحات الأخيرة للسيد مسعود البارزاني، التي عبر فيها عن حلمه بتأليف جيش كردي، الشكوك والقلق العميق حول الاهداف الحقيقية لهذا الجيش من لدن سائر العراقيين بمختلف أطيافهم، وزعزعت الثقة في نوايا السلطة القائمة في كردستان العراق حول مستقبل الفيدرالية، والتي تشير كل التوقعات إلى أن هذه الفيدرالية ليست سوى مرحلة انتقالية استهدفت من ورائها القيادات القومية الكردية تحقيق أقصى ما يمكن من المكاسب على الأرض من جهة، واستنزاف أقصى ما يمكن من مدخولات العراق النفطية من جهة أخرى لتعزيز وترصين الكيان القائم في كردستان العراق، وتعزيز قوات ميليشيا البسشمركة تدريباً وتسليحاً، وإعدادها للمرحلة القادمة التي تستهدف الضم القسري لمساحات شاسعة من محافظات الموصل وديالى بالإضافة إلى محافظة كركوك الغنية بالنفط قبل إعلان استقلال منطقة كردستان عن الوطن الأم "  وينهي الحمداني مقاله قائلا : " ولنمد أيدينا إلى بعضها، ونصفي القلوب من الضغائن، فهذا هو الطريق، ولا طريقاً غيره لخير وسعادة كافة ابناء الشعب العراقي بكل أطيافه تغمرهم المحبة، ويسود التآخي بين الشعوب جميعاً دون تمييز ". خاتمة جميلة، ليته انطلق منها في مناقشته للأفكار والسياسات التي تضمنها مقاله الأنف الذكر.

لقد اعتمد الاستاذ الحمداني في اعتراضاته الكثيرة على سياسة إقليم كردستان على الحدس والشكوك، وهو ما نختلف عليه تماما، فليس على الشكوك تبنى العلاقات وتتوطد الأواصر، وليس بفعلها يعم الخير وتغمر السعادة كافة أبناء الشعب العراقي التي تمناها الأخ الكاتب في ختام مقاله. وفي اعتقادنا الراسخ إن الاستاذ الحمداني لم يتوصل إلى استنتاجاته ورؤاه التي ضمنها مقاله عن قناعة تامة، فخلفيته الثقافية وتاريخه الوطني ينطقان بقيم ومنطلقات هي نفسها ما يسعى نحوها غالبية الكرد، الديمقراطية للاقليم والرفاه والازدهار والعيش بسلام مع أشقائهم من غير الكرد وبخاصة العرب. ومع أن المخاوف التي أوردها واردة وتناقش على،  نطاق واسع، لكن من الظلم تحميل الجانب الكردي وحده لما يجري، ففي الجانب الآخر من الصورة الراهنة للخريطة السياسية العراقية يوجد الكثير الذي يتطلب الشكوى والمعالجة والحسم.

ما ينبغي على السيد الحمداني أن يتذكره جيدا، أن القوى القومية التي فقدت السلطة والثروة هي في الانتظار الآن وتحلم، بالانقضاض على المكاسب الديمقراطية المتواضعة التي حصل عليها العراقيون عامة والكرد خاصة، ولا ينبغي نسيان الحقيقة الماثلة امامنا، أن ما تحقق للكرد من مكاسب لن تسر لا القوى الصدامية والعنصرية المتطرفة، ولا قوى الاسلام السياسي المتطرفة. أمام هذه المخاطر والقوات الأمريكية تخفض تواجدها في العراق، من حق الكرد أن يستعدوا للدفاع عن مكاسبهم، وهي كما تعلم عزيزة عليهم، فقد ضحوا بالكثير من أجلها، ومن الانصاف أن نقر لهم بحق الدفاع عنها كما دافعت أنت، وكما دافعنا عن حق تقرير المصير للشعب الكردي خلال العقود الماضية ومنذ تاسيس الدولة العراقية كما تفضلت.

إن الدستور العراقي قد وضع الخطوط العامة لخطة الطريق التي تجعل من الكرد شريكا أساسيا في في الدولة ومؤسساتها وثرواتها القومية، ومع أن انتقادات قد وجهت لهذا الدستور الذي أعد على عجل غير مبرر، غير أنه وضع أساسا عادلا لتقاسم الثروة في البلاد كلها،بجعله الثروة القومية في أي جزء من العراق مجال شراكة الجميع. ووضع ايضا مادة تتعامل مع المعضلة المثيرة للخلاف والجدل وهي كركوك عبر المادة 140. من دون شك أن واضعي البنود الدستورية لم يكونوا في انسجام تام مع الواقع، ولم يكونوا من ذوي الخبرة والتجربة في القانون الدستوري، ولهذا السبب، ظهرت المشكلات الحالية التي ينظر إليها البعض باعتبارها قنابل موقوته في طريق الوفاق والتآ خي العربي الكردي.

إن الكرد بثقلهم السياسي والفكري والبشري والأخلاقي يشكلون ضمانة لاستقرار وازدهار العراق، قد لا يتلمس البعض هذه الحقيقة بسبب الجهل بثقافة وتقاليد الشعب الكردي، و ليس هذا ذنب الكرد، بل ذنب من لم يسعى للتعرف على قيمهم النبيلة وتراثهم الثري. إن الأمانة والشهامة، وصفاء النيات، وسمو الأخلاق هي السمات الطبيعية التي ميزت الكرد، وإنه لمن القبح  وسوء النيات  والتعصب الأعمى أن نتجاهل ذلك.

وعلى العرب العراقيين وغيرهم أن يفهموا حقيقة راسخة، وهي أن الشعب الكردي مصدر قوة مجتمعنا العراقي وبالعكس، ولا يمكن لنا أن نتصور عيشنا بدونهم.  إننا بالشعب الكردي ومعه يمكننا إعادة بناء دولتنا التي خربتها الحكومات المتخلفة السابقة، وبالتعاون الحقيقي يمكننا معا تحقيق التنمية الاقتصادية والتقدم لبلدنا المشترك صعودا إلى مراتب الدول المتقدمة.

قد يرى البعض في هذا الرأي إفراطا في تفاؤل لا أساس له، أو ثقة في غير محلها، وهو أمر متوقع تحت تأثير هاجس الانفصال وتأسيس دولة كردية مستقلة عن العراق. إن مثل هذه المخاوف كانت وما تزال تتحكم في الموقف من حق تقريرالمصير أصلا، ووفق قناعات هؤلاء أن مثل هذا الحق   يتعارض مع وحدة العراق أرضا وشعبا.  لقد اختار الكرد اتحادهم بالعراق طواعية بعد التغيير في  عام 2003، لكن استمرار بقائهم في الاتحاد أو عدمه لا يعتمد عليهم وحدهم، بل يعتمد على مدى احترام السلطة المركزية ببغداد للقواعد التي قام الأتحاد الفيدرالي عليها.. فلو عادت السلطة المركزية ببغداد إلى سياسة التهميش السياسي، واستلاب حقوقهم القومية التي دفعوا في سبيلها ثمنا باهظا بدماء خيرة بناتهم وبنينهم، وإذا ما أخلت ببنود الدستور الذي اعترف لهم بالشراكة في هذا الوطن فإن الوضع الدستوري للإقليم سيتعرض للاهتزاز لا محالة. ففي هذه الأحوال، ليس على الكرد أن يطلبوا موافقة أحد لتحطيم الأسوار التي يراد لهم الاقامة داخلها، وانتظار النعم التي  لن تأتي أبدا.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 8/كانون الاول/2009 - 20/ذو الحجة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م