الغدير بين المنهج والمشاعر

 في رؤية المرجع الشيرازي

عبد الكريم العامري/ باحث اجتماعي

 

شبكة النبأ: روي عن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) أنه قال: يوم غدير خم افضل اعياد امتي وهو اليوم الذي أمرني الله  تعالى ذكر فيه تنصيب أخي علي بن أبي طالب علما لأمتي يهتدون به من بعدي، وهو اليوم الذي أكملَ الله فيه الدين وأتم على امتي فيه النعمة ورضي لهم الإسلام دينا.

من هذا المنطلق تم استحضار مجالس علمائنا المليئة بالمعارف والعبر، منهم محاضرات سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، فلطالما أتحف مستمعيه وزواره وقراء محاضراته. وكانت كلماته تبث من وعي فكري وعقيدي دروسا تربوية ترد المؤمنين الى الاقتداء بأهل البيت (عليهم السلام) والسير على نهجهم عقيدة وفكرا، ادبا وخلقا، ومنها تصوراته عن الغدير، حيث يرى سماحته: عيد الغدير ليس يوم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وحده، بل هو يوم الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) أيضا، بل يجب القول بأنه يوم الله تعالى، لأن مراد الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في طول مراد الله تعالى.

الغدير فريضة:

لقد ذكر الله تعالى هذا اليوم فقال (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). حسب هذه الآية الكريمة فإن كمال الإسلام حصل عندما أعلنت ولاية علي (عليه السلام) كفريضة.

روي عن الامام محمد الباقر (عليه السلام) أنه قال: آخر فريضة أنزلها الله الولاية( اليوم أكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) فلم ينزل من الفرائض شيء بعدها حتى قبض الله رسوله(صلى الله عليه وآله).

وروي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قوله: (وكانت الفرائض ينزل منها شيء بعد شيء، تنزل الفريضة ثم تنزل الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر الفرائض فأنزل الله عز وجل: "اليوم أكملت...") يقول الله عز وجل: لا أنزل عليكم بعد هذه الفريضة فريضة، قد أكملت لكم هذه الفرائض.

وفور النعمة:

مما يثير الانتباه في هذه الآية الكريمة- والحديث للسيد المرجع الشيرازي- أن الله تعالى قد ربط إتمام نعمته على الخلق بموضوع الولاية، أي كما أن تحقق كمال الدين ارتبط بالولاية فإن إتمام النعمة انيط بإعلانها من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله). والمقصود بالنعمة جميع النعم، ظاهرها وباطنها مثل العدل والمساواة والاتحاد والأخوة والعلم والأخلاق والطمأنينة النفسية والروحية والحرية والاحساس بالأمن، بعبارة موجزة جميع أنواع العطايا.

لذا، فموقف أولئك الذين سعوا الى تفسير النعمة في الآية الشريفة واعتبارها مجرد مسألة معنوية محل تأمل ونظر، لأن الآية المذكورة لم تتطرق لمسألة أصل النعمة ، بل الحديث يدور حول (إتمام النعمة)   فأينما ورد ذكر إتمام النعمة في القرآن الكريم كان المراد منها النعم التي يصيبها الانسان في الدنيا.

العلاقة بين الولاية ونِعم الله تعالى:

توجد علاقة مباشرة بين ولاية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والتمتع بالنعم الدنيوية، واحدى الشروط المهمة والرئيسية للوصول بنا الى مجتمع الحرية والبناء القائم على أساس العدالة والاخلاق وسيادة القيم والفضائل الاخلاقية الانسانية أن نسلم لما بلغ به رسول الله (صلى الله عليه وآله) في يوم الغدير، وأن نقبل عمليا بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام). بعبارة اخرى: إن الأخذ بولاية أمير المؤمنين له أثر تكويني، يوجب سبوغ البركات والخيرات على الناس من الارض والسماء.

يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) المائدة/66.

لذا يؤكد المرجع الشيرازي بالقول، لو أردنا أن نشرح الغدير في عبارة موجزة نقول: الغدير هو الوعاء الذي تصب فيه جميع تضحيات الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) وهو مخزن الأحكام والآداب التي اوحى الله تعالى بها الى رسوله الأمين، وفي اشارة الى هذه الحقيقة يقول جل وعلا: ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) المائدة/67.

العقيدة والغدير:

ويَعتبر المرجع الشيرازي، الغدير روضة من الفضائل والأخلاق والمكارم والمحاسن بل هو المكارم بعينها، ويدين التطور الحضاري والمعنوي له بذلك، لأنه أهم عامل في حفظ كيان الدين والملة، ويعد انكاره بمثابة إنكار لجميع القيم الاسلامية السامية على ارض الاسلام الواسعة.

إذن كل عقيدة لا تغرف من معين الغدير فهي ليست على شيء. الغدير بجوهره وروحه يعني مدرسة أمير المؤمنين (عليه السلام) التي تصلح لإسعاد البشر أجمعين. فأمير المؤمنين (سلام الله عليه) هو بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) أعظم آيات الله عز وجل ولا تضاهيه آية . يقول الإمام الصادق (سلام الله عليه) الذي أراد سبر معرفة الله بدون أمير المؤمنين : فليشرق وليغرب، أي لن يبلغ غايته ولو يمم وجهه شرقا وغربا. إنه لمن تعاسة الإنسان وسوء حظه أن يطلب العلم والمعرفة من غير طريق علي وآل علي (سلام الله عليهم). هذا العلم إن حصل فليس بذلك لأنه مفرغ من القيم الاخلاقية والمعنوية،  وبعيد عن روح الشريعة.

العاطفة الانسانية:

إحدى خصال علي (عليه السلام) خاصة في فترة خلافته، تعاطفه مع الناس. ويتجلى تعاطفه مع أفقر الناس من خلال عمله وقد قال: ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه.

فهو (سلام الله عليه) لم يضع حجرا على حجر، لم يسكن قصرا فارها، بل تحمل كل المصاعب والآلام لئلا يكون هناك فرد في اقصى نقاط دولته يتبيغ بفقره لا يجد حتى وجبة غذاء واحدة تسد رمقه، وهو القائل: ولعل بالحجاز او اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا له عهد بالشبع. لذا، فإنه لمجرد أن يحتمل (عليه السلام) وجود افراد في المناطق النائية من رقعة حكومته جوعى، لم يكن ينام ليلته ممتلئ البطن، وقد حرم نفسه حتى من متوسط الطعام واللباس والمسكن ولوازم الحياة العادية.

ويستنتج المرجع الشيرازي ان الإمام علي (عليه السلام) اراد بنهجه هذا تحقيق هدفين، الاول: أن يبعد عنه أي شبهة كحاكم اسلامي، ويسلب منتقديه، هؤلاء الذين أنكروا عليه حتى مناقبه، أي حجة تدينه.

الهدف الثاني: تذكير الحكام المسلمين بمسؤولياتهم الخطيرة تجاه آلام الناس وفقرهم في ظل حكوماتهم، وضرورة إقامة العدل والتعاطف مع آلامهم وعذاباتهم، والسعي بجد من اجل تأمين الرفاهية والعيش الكريم لهم.

ومن هذا المنطق، فإن مجرد احتمال وجود جياع في أبعد نقاط الحكومة الاسلامية يعتبر في ميزان الامام علي (عليه السلام) مسؤولية ذات تبعات، لذا فهو (عليه السلام) يؤكد على الحكام ضرورة أن يجعلوا مستوى عيشهم بنفس مستوى عيش أولئك، وأن يشاركوهم شظف العيش.

هنا تتجلى عظمة الغدير اكثر فأكثر، وتسطع انوار القيم والتعاليم السامية التي يحملها يوما بعد آخر، تلك القيم التي تؤمن التوازن السليم بين المتطلبات الروحية والعقلية والمادية والمعنوية للبشر، لتحقق السعادة للجميع أفرادا وجماعات، حكاما ومحكومين.

الجانب العاطفي للغدير:

ومن بركات الغدير هي الوقوف على الجانب العاطفي من شخصية الامام علي وابنائه (سلام الله عليهم) الذين نصبهم رسول الله (صلى الله علية وآله) لخلافته من بعده، ففيهم تتجلى الرحمة الإلهية على الخلق وهم التجسيد الحي لأسمائه الحسنى، حيث ورد في بعض الروايات أن الآية الكريمة: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) نزلت في شأنهم.

فمن شفقة أمير المؤمنين (سلام الله عليه) على الخلق أنه أعطى طعامه للأسير واليتيم والمسكين وبات جائعا هو وزوجته الصدّيقة الزهراء وولداه الحسن والحسين (سلام الله عليهم اجمعين) ثلاثة ايام متواليات، ولم يكن طعامهم سوى اقراص خبز. على فراش الشهادة أوصى (سلام الله عليه) بإعطاء مقدار من الحليب الذي كان يتناوله كدواء الى قاتله ابن ملجم، وأن لا يبخس حقه في المأكل والمشرب والمكان والملبس المناسب، بل كان يطالبهم أن يعفوا عن ابن ملجم فمن شفقة أمير المؤمنين (سلام الله عليه) على الخلق حيث قال لهم: إن أعف فالعفو لي قربة وهو لكم حسنة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 6/كانون الاول/2009 - 18/ذو الحجة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م