انتشرت منذ نصف القرن السابق في أوربا وفي بريطانيا بالذات تجارة
البيع عن طريق الإعلان في الصحف والمجلات وكل وسائل الإعلام الورقية،
وهو ما أطلق عليه في ذلك الوقت " التجارة الصحفية ". وقد لاقت هذه
التجارة رواجا لا نظير له في ذلك الوقت لأنها أتاحت للمستهلك الأوربي
أن يشتري ما يحتاج إليه وهو جالس على كرسيه في البيت ومن غير أن يكلف
نفسه عناء الذهاب إلى الأسواق لاقتناء ما يرغب فيه والذي من الممكن أن
يجده أو قد لا يجده.
وقد تطورت هذه التجارة بمرور الوقت ومع تراكم المنجزات التكنولوجية
عصرا بعد عصرا فأصبحت التجارة الصحفية ذات أبعاد مختلفات وأوجه متنوعة
متسقة مع عصر الميديالوجيا التقني الحاضر القائم على الشبكة العنكبوتية
الافتراضية التي مدت أيديها في كل أنحاء العالم ودخلت البيوت بدون
استئذان من غير كوابح أو مصدّات تمنع سيل وتدفق هذه المعلومات التي غزت
العالم تحت وضح النهار.
ويظهر أن بعض المؤسسات الصحفية والوسائل الإعلامية في العراق،
ولأسباب عديدة لا يتسع المجال الآن للخوض في حيثياتها، قد حذت حذو هذه
الصحف الأوربية في المتاجرة والبحث عن الربح والشهرة و"تمشية " بضاعتها
على المتلقي وجمهورها الخاص بها الذي يتابع أخبارها ويقضي أوقات فراغه
متسمرا أمام شاشتها الفضية بغض النظر عن القيمة الحقيقة للبضاعة التي
تشتغل عليها. فهي ترغب، دون أدنى شك، أن تزيد في معدل مشاهديها وجلب
الإعلانات لها،أما الرسالة الإعلامية والسياسية التحريرية فهي قضية
مائعة تخضع للأخذ والرد بيد أصحاب هذه المؤسسة الصحفية.
ومن المؤسف حقا أن تتاجر بعض من هذه الوسائل بدماء الإعلاميين
والصحفيين حينما يسقطون مضرجين بدمائهم أثر عمليات اغتال آثمة تطال
هؤلاء على يد تلك الوجوه المقنعة التي لا تعمل الا في الظلام وعلى حين
غرة حينما تتراخى الأجهزة الأمنية العراقية التي قطعت شوطا لا بأس به
في قتال أمثال هؤلاء القتلة الشراذم الذين أذاقوا العراقيين الماسي
وأغرقوهم في حمامات من الدم ستبقى شاهدا على وحشية أعداء العراق
والصفحة السوداء التي سجلها الإرهابيون في هذا العصر.
الذي حدا بي للحديث عن هذه المتاجرة المُخجلة، ما حدث من محاولة
اغتيال مروعة للسيد عماد العبادي مقدم برنامج " حوار بلا أسوار" في
قناة الديار الفضائية ,الذي نتمنى له الشفاء العاجل والخروج من محنته،
حيث انتهز الكثير هذه الحادثة الإجرامية من اجل تصفية حساباته مع
خصومهم الحقيقيين والوهمين على حد سواء. فاستغلوا دم عماد، وجرحه مازال
ينزف ووضعه الصحي مازال في خطر، ومن غير أي مراعاة مهنية للحقائق
ومعطياتها او إنسانية عماد وعائلته، واستخدموا الحادث كأداة للتصفيات
السياسية كالهجوم ضد الحكومة العراقية والأجهزة الأمنية وحتى بعض
الأحزاب الذي اعتقد هؤلاء بأنه من الممكن أن يقفوا وراء حادث اغتيال
عماد الأسبوع المنصرم.
ولم تكن حادث اغتيال العبادي هي الأولى في مجال المتاجرة التي تقوم
بها المؤسسات الصحفية بدماء الضحايا ونخشى أنها سوف لن تكن الأخيرة،
والأمثلة التي من الممكن أن نسوقها في هذا الصدد كثيرة ومتعددة بعضها
من منظمات ومؤسسات في داخل
البلد، وبعضها من أخرى دولية تُعنى بالشأن الصحفي ك" منظمة مراسلون
بلا حدود" حينما قامت بعد حادث التعرض للمذيعة في قناة العراقية زهراء
الموسوي، بإصدار بيان في 13 أكتوبر الماضي حشرت فيه اسم ابن السيد
رئيس الوزراء نوري المالكي في الحادث استنادا إلى كلام سيف الخياط
الذي لم يأت بدليل ولا برهان على صحة ما قاله سوى ادعاءات شفهية.
بل أن هذه الحادثة وما حصل بعدها من تأويلات وتفسيرات وإشاعات
ومتاجرات دفعت زهراء للخروج عن صمتها والإدلاء بتصريح لصحيفة الشرق
الأوسط قالت فيه " تم استغلال هذه الحادثة من قبل بعض الأحزاب السياسية
والأشخاص لأغراض انتخابية أو انتقامية، وهناك مواقع عراقية على شبكة
الإنترنت قامت بتهويل القصة وتحميلها أكثر من طاقتها، كما قام البعض
بكتابة تفاصيل غير حقيقية وذكر أسماء لا علاقة لها بالحادث ".
المتاجرة الصحفية في هذا الصدد تخرق مبادئ إعلان تشابولتيبيك
العالمي الذي وافقت عليه الدول الأمريكية لمواجهة ضغوط حرية التعبير
الذي كفلها البند ال19 من ميثاق الأمم المتحدة، حيث أشار الإعلان إلى
ربط " مصداقية الصحافة بالتزامها بالحقيقة وبالتزامها السعي لتحقيق
الدقة والنزاهة والموضوعية والتمييز الواضح بين الإخبار والدعاية ".
فلا مصداقية حقيقية من غير مجاراة الدقة وتبني الموضوعية في طرح
المواضيع والقضايا بعيدا عن التوجهات السياسية والطائفية حتى لا يمسي
الصحفي جسرا لتحقيق مكاسب سياسية او تجارية سواء فعلوا ذلك بأنفسهم او
استخدمتهم مؤسساتهم الصحفية لهذه الإغراض من غير أن يشعروا.
هذه الظاهرة الخطيرة، وأكاد أصفها بالمخزية، تختصر في ثناياها
موبقات جمة وسلبيات كثيرة ومثالب كبرى تمس جوانب المهنة الصحفية
والنواحي الإنسانية على حد سواء، حيث نرى أن أبجديات المهنة الصحفية
تقتضي وتتطلب من الصحفي أن يتحرى الدقة والموضوعية والاستقلالية والبعد
عن التحريض والتلفيق والاستغلال غير المشروع لقضيته، وهي " القاعدة
المقدسة" على حد تعبير الصحفي والروائي الفائز بجائزة بولتز الشهيرة
جون هيرسي حيث قال " إن هنالك قاعدة واحدة مقدسة للصحافة..وهي انه
الكاتب يجب أن لا يلفق ".
وفي هذه المتاجرة بالدم الصحفي العراقي تلفيق وكذب وتحميل للموقف
دلالات أكثر مما يستحقها حينما يحاول هؤلاء أن يبيعوا دم الضحية الصحفي
في مستشفى اهؤاءهم السياسية ورغباتهم الشخصية بل وحتى في ملعب
التخمينات والتكهنات غير المبنية على أساس صحيح كما تنصح بها الصحفية
المخضرمة مارغريت سوليفيان المخضرمة نائب رئيس الاتصالات والشؤون
الخارجية في المعهد الجمهوري الدولي حيث كانت تكرر أن "على الصحفي أن
لا يرتجل، لا يتكهن ولا يخمن.... فالصحفيون الجيدون والمحترفون يتحرون
الحقائق فالخطأ يدمر المصداقية".
أما على المستوى الإنساني والأخلاقي فأجد، مثلما يجد غيري ويتفق
معي، انه من المعيب حقا والمخجل يقينا أن يحاول الآخرون أن ينتفعوا من
مأساة غيرهم ويستفيدوا من دموعهم ويستغلوا إحزانهم ويحاولوا أن يرفعوا
حسابات أرصدتهم الإعلامية والسياسية والمالية عبر دماء الإعلاميين
الذين يسقطون من اجل، وهذه حقيقة أكثرهم، لقمة خبزهم الذي توفرها لهم
مهنة الصحافة خصوصا وأنا أنظر لهذه المهنة من منظار واقعي استقراءي لا
مثالي طوباوي يحاول أن يسوق لنا نظرية وهمية مفادها أن كل من يعمل في
مجال الصحافة على انه ذا رسالة عظيمة مقدسة، في حين أن الحقيقة على عكس
ذلك، فهي مهنة ووظيفة شأن شأن أي عمل أخر في مجالات الحياة الأخرى.
ومن اللافت للنظر أن يحاول البعض فرض نصائحه بالنسبة للعراق فيما
يتعلق بالصحافة وحرية التعبير فيما كان حريا به فهم حقيقة ما يجري في
الأعلام العراقي وكيف تجري بواطن الأمور فيه وكيف تمارس بعض الصحف
والقنوات تجارة الأخبار المزيفة، كما حدث حينما طالب رئيس وزراء
بريطانيا السابق توني بلير، في تصريح أرسل بالأيميل، نقلته وكالة
اسوشييت بريس، الجمعة26 نوفمبر الماضي، الحكومة العراقية بدعم ومساندة
حرية الإعلام التي" قاتلت بريطانيا من اجلها" على حد تعبيره. وذلك بعد
تغريم صحيفة الغارديان البريطانية 100 مليون دينار بعد ما نقل مراسلها
المحلي غيث عبد تصريحا لأحد موظفي جهاز المخابرات العراقية يقول فيه
أن المالكي بدا ينحو منحى ديكتاتوري، وقد رفض الجهاز ذلك وقام بتكذيبه
ورفع، بالتالي، على الصحيفة هذه الدعوة التي جاءت نتيجتها لصالحه.
ولعل من المفارقات الغريبة والعجيبة أن تقوم هذه المؤسسات الصحفية
بهذه المتاجرة وعلى هذه الصورة غير الإنسانية وغير المهنية في حين أنها
تتمشدق ليلا ونهارا بالموضوعية والحيادية والمصداقية متناسية أنها تقوم
بهذه التجارة ال" وسخة " بكل معاني الكلمة المادية والمعنوية، وتمارس
بيعا مباشرا في سوق صحافتها لدماء الصحفيين سواء كانوا ينتمون إليها أو
يعملون لدى غيرها, والمتتبع لسلوكها وردات فعلها بعد سقوط كل أعلامي
على ارض الوطن يرى بوضوح حقيقة ما نقول به والذي يدل دلالة واضحة على
مدى استهانة تلك المؤسسات بالدم العراقي وعدم أخلاقية ضميرها المهني
فضلا عن عمق بعدها عن مصطلح "الرسالة الإعلامية السامية" التي تزعم
أنها تحملها !.
ونتيجة لهذه أو من اجل هذه، اعتقد أن على تلك المؤسسات الدخول إلى
مرحلة المساءلة الذاتية، فما دامت تلك المؤسسات تسعى وتحاول أن تحاسب
المسئولين الحكوميين، وهذا حق وذا أهمية كبيرة في تقويم عمل الحكومة
وتعزيز دورها وقوتها، لهذا عليها أن تطبق هذه المساءلة على سلوكها
السياسي وبرامجها الإعلامية خصوصا ونحن نعلم أن قاعدة المحاسبة تعتبر
من المبادئ التي وضعتها جمعية الصحفيين المحترفين حيث نص احد أهم
مبادئها على مبدأ " الخضوع للمساءلة". فالصحفي ومؤسسته التي تحاسب
وتنتقد، عليها في المقابل أن تكون خاضعة للمساءلة والمحاسبة من قبل
الرأي العام أولا والحكومة العراقية ثانياً.
ولان الرأي العام مفهوم عام وكيان مجرد لا يمتلك الأدوات الحسية
والأجهزة المادية التي يمكن أن تردع هذه المؤسسات التجارية أو الصحفية
لا فرق!!، لهذا يصبح لزاما على الحكومة عبر جهازها القضائي أن تحاسب أي
مؤسسة صحفية تحاول أن تحرّض أو تفرق أو تعمل على تمزيق وحدة الصف
الوطني أو تقوم بمحاولة تقزيم دور الحكومة العراقية وأجهزتها المختلفة
عبر أساليب تجارية بحتة من اجل تحقيق خبطات إعلامية رخيصة متبرقعة
بمفهوم الحياد الذي عده الباحث هربرت شيلر أسطورة وهمية وأساساً
للتضليل الإعلامي لتصدير الوعي المعلب.
* رئيس مشروع وزارة السلام العالمي في العراق
[email protected] |