دعني اولا، عزيزي القارئ، ان اوضح ما اقصدة بالاغلبية في عنوان
المقال، قبل ان تتسرع وتتهمني بالطائفية او العنصرية، فالذي اقصده هو
الاغلبية السياسية، وليس الاغلبية الدينية او الاثنية او المذهبية،
لانني اعتقد جازما، بان جوهر الديمقراطية هو حكم الاغلبية (السياسية)
تحديدا والتي تفرزها صناديق الاقتراع في انتخابات حرة ونزيهة، وليست اي
شئ آخر.
ولذلك، فعندما ادعي في صدر المقال، بان الاغلبية في العراق لا تحكم،
اعني تحديدا ان الاغلبية السياسية لا تحكم، ودليلي القاطع على ذلك، هو
عملية النقض التي مارسها النائب الثاني لرئيس الجمهورية، السيد الهامشي.
بل حتى (التوافق) و (المحاصصة) لم تحكم في هذه الحالة، كيف؟.
لنعود الى البداية:
فعندما قرر مجلس النواب العراقي قبل قرابة اربع سنوات، عقب
الانتخابات النيابية الماضية، اختيار السادة طالباني وعبد المهدي
والهاشمي، ليشكلوا مجلس الرئاسة، فقد كان في تفكيره ان الاول يمثل
الكتلة الكردية في البرلمان وتحديدا قائمة التحالف الكردستاني
وبالتحديد حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، والثاني يمثل الكتلة الشيعية
وتحديدا الائتلاف العراقي الموحد وبالتحديد المجلس الاعلى الاسلامي،
والثالث يمثل الكتلة السنية وتحديدا كتلة جبهة التوافق وبالتحديد الحزب
الاسلامي الذي كان زعيمه آنئذ.
ولسبب ما ترك الهاشمي زعامة الحزب الاسلامي، وبشكل اوتوماتيكي جبهة
التوافق، فلم يعد يمثلها رسميا في مجلس الرئاسة، بمعنى آخر انه بات،
رسميا، لا يمثل الا نفسه.
وعندما مرر مجلس النواب العراقي التعديل الاول لقانون الانتخابات،
صوتت عليه كل الكتل، الكبيرة على الاقل، والتي هي التحالف الكردستاني
والائتلاف العراقي وجبهة التوافق، ثم بعثته الى مجلس الرئاسة، فامضاه
الرئيس ونائبه الاول بشكل سلس وبلا تمنع او تاخير، كممارسة (توافقية)
هي امتداد طبيعي لموقف كتلتيهما في مجلس النواب.
بقي النائب الثاني الذي ظل يمانع ويسوف ويؤخر الى ان اعلن انه قرر
نقض القانون واعادته الى مجلس النواب.
برايي، فان هذه الممارسة كانت، هي الاخرى، طبيعية، لانها عبرت عن
راي صاحبها حصرا ولم تعبر عن موقف الكتلة البرلمانية السنية التي صوتت
على القانون، والتي كان الهاشمي يمثلها في يوم من الايام في المجلس
الرئاسي.
وبرايي كذلك، فان هذا النقض لم ينسجم مع مبدا (التوافق) المعمول به
في العملية السياسية، اذ كان يجب على الهامشي ان يسعى جاهدا ليكون
موقفه منسجما على الاقل مع كتلته النيابية السابقة، والتي صوتت على
القانون اسوة ببقية زميلاتها الكتل النيابية الاخرى، فالنقض عادة هو
نتيجة لعدم التوافق تحت قبة البرلمان، يمارسه مجلس الرئاسة ليعود
القانون مرة اخرى الى مجلس النواب ليحقق التوافق، فاية كتلة برلمانية
لم تصوت على القانون مثلها الهاشمي بنقضه له؟.
كما انه لم يمثل حتى (السنة) عموما في نقضه للقانون، والدليل على
ذلك ان اشد المواقف معارضة لموقف الهاشمي هي تلك التي صدرت من ابناء
المحافظات السنية التي تعتقد بانها خسرت من النقض اكثر من انها ربحت،
على طريقة (اراد ان يكحلها فاعماها) فضلا عن المواقف الحادة التي صدرت
ضده من زعماء سنة كثيرون يقف على راسهم رئيس مجلس النواب وآخرون في
الصحوات وغيرها.
ان مبدا (التوافق) تجسد، في الحقيقة، تحت قبة البرلمان، عندما
توافقت جل الكتل النيابية على تمرير التعديل الاول بالصيغة المعروفة،
ولم يتجسد في النقض الذي لجا اليه الهاشمي، بل ان الاخير لم يفكر بان
يجسد (التوافق) حتى في مجلس الرئاسة، عندما لم يعر اي انتباه او اهتمام
لامضاء زميليه الرئيس ونائبه الاول، وبذلك يكون قد سجل سابقة خطيرة في
طريقة استخدام (حق النقض) والذي كان يجري عادة برد (المجلس) مجتمعا
للقانون الذي يرى فيه اي اشكال دستوري او لا ينسجم ومبدا (التوافق).
تاسيسا على هذه القراءة المنطقية والقانونية لما جرى ويجري اليوم
بشان قانون الانتخابات، يمكن ان نستنتج الحقائق التالية:
اولا: ان ما يسميه البعض بـ (الديمقراطية التوافقية) والتي تم
التاسيس لها في مجلس الحكم المنحل وتبناها (اللاعبون الكبار) في
الدستور وتحت قبة البرلمان، انما هي ضحك على الذقون، لدرجة ان شخص واحد
فقط قادر على نقض ما يتفق عليه كل العراقيين تقريبا، فكلنا نعلم جيدا
بان التعديل الاول لقانون الانتخابات صوت عليه مجلس النواب باغلبية
مريحة جدا، وقد جاء منسجما مع تطلعات ملايين العراقيين بكل مرجعياتهم
الدينية ومؤسساتهم المدنية وغير ذلك، اذا به يعود اليه مرة اخرى بركلة
غير محسوبة العواقب والنتائج من (واحد) فقط، فاية ديمقراطية هذه التي
تقف في ملعبها العريض الملايين مقابل واحد؟.
ثانيا: لقد اساء البعض التصرف بمبدا (التوافق) بدرجة ممجوجة، راحت
تعرض مجمل العملية السياسية للخطر، فمن الذي يتحمل مسؤولية كل ذلك؟.
اتمنى على من يسمون انفسهم بـ (الكبار) ان يتسلحوا بالشجاعة الكافية
ليخرجوا على الشعب العراقي ويعترفوا بالخطا، بل بالجريمة، التي
ارتكبوها في بداية نشاة العملية السياسية الجديدة.
واسميها بالجريمة، لانها بالفعل تحولت الى عفريت تقف على كفه
العملية السياسية مترنحة.
ولطالما حذرت شخصيا من خطر هذا الخطا ــ الجريمة، واتذكر عندما كان
زعماء (الكبار) يمرون على واشنطن للزيارة، بعيد سقوط الصنم وفي بدايات
تسنمهم لموقع الزعامة في العراق الجديد، وكانت الفرصة تسنح، في اغلب
الاحيان، للقاء بهم في مجالس خاصة، كنت، وغيري، نحذرهم من مغبة
الاسترسال مع هذا النوع من الديمقراطية، فكنا ننبههم الى ان الثالوث
المشؤوم (الفيتو والتوافق والمحاصصة) يمكن ان يعرض العراق لمخاطر كبيرة
وكثيرة، كانوا يردون علينا بقولهم (لا داعي للقلق، فالاتفاق على هذه
الطريقة مؤقت وستتغير الامور في القريب العاجل) اذا بنا نرى انها تتكرس
يوما بعد آخر، حتى وصل الامر الى ان الواحد، في ظل الديمقراطية
التوافقية، يساوي الملايين.
واتذكر مرة عندما حاصرت، وبعض الاخوة، احد زعماء (الكبار) في مجلس
خاص، لم يحر جوابا على الادلة والبراهين التي قدمناها له، في اطار حوار
هادئ ودقيق، ولما راى احد (مناصريه) ان صاحبه حوصر بالادلة المنطقية في
زاوية حرجة، تذكر طريقة الزبانية في انقاذ (الزعماء) من ورطة الحوار
المعقول، اذا به يقف هاتفا (مولانا، نحن نثق بحكمتكم، ونثق بوعيكم
الفريد والنادر، ولذلك اقول لكم، وباسم كل الحضور، سيروا ونحن من
ورائكم، بلا نقاش او جدال) ثم انتهى الحوار بالضربة القاضية، لينقذ
صاحبه من الحرج، وقد تمثل امامي تمثال الطاغية الذليل عندما يهتف
زبانيته (بالروح بالدم) امام جمع حاشد.
عندها قلت في نفسي، اذا كان (الزعماء الجدد) يلتف حولهم مثل هذا
النموذج القبيح، فعلى الديمقراطية السلام، وهذا ما نراه ونلمسه اليوم،
وللاسف الشديد.
من كل ما تقدم، اقول:
ان نتيجة الانتخابات البرلمانية القادمة، يجب ان تفرز نوابا اشداء
اقوياء قادرون على تغيير الخطا ــ الجريمة، والا فقد تكون الانتخابات
القادمة هي الاخيرة، في تاريخ العراق الجديد، هذا اذا مرت هذه المرة
بسلام، لان جرة صندوق الاقتراع اذا سلمت هذه المرة من (الديمقراطية
التوافقية) فليس من المعلوم انها ستفلت وتسلم في كل مرة.
ان هذا النوع من الديمقراطيات لا تستقر ابدا، انما تظل قلقة يشبه
حالها حال المخروط الذي يقف على راسه المدبب، اما الديمقراطية
المستقرة، فهي التي تعتمد المبادئ العقلية والمنطقية التالية:
اولا: صوت واحد لمواطن واحد.
ثانيا: حكم الاغلبية السياسية، اما الاقلية السياسية فمجال عملها
المعارضة والذي لا يقل اهمية وخطورة من مجال السلطة، فهي التي تراقب
وتحاسب وتفضح وتلاحق وتصحح.
ثالث: مجلس الوزراء يشكله رئيس الحكومة، والذي ترشحه اكبر الكتل
النيابية، وليس جوقة الاحزاب التي تفوز بمقعد او اكثر تحت قبة
البرلمان.
...... وبعد كل هذا، ينعتون الحكم في العراق بـ (الشيعي) وهم الذين
فشلوا ومعهم (الاغلبية السياسية تحت قبة البرلمان) في تمرير قانون
يتوقف عليه تقدم العملية السياسية.
انها سلطة الواحد يا صاحبي، اليس كذلك؟.
[email protected] |