حتى لا يقود بادئ الرأي الأمة

زهير الخويلدي

إن المغرب و المشرق ليسا معطيين أوليين أو وحدتين ذاتيتين أو منطقتين متمايزيتين يعكسان مفهومين للوحدة وتجربتين إقليميتين متباينتين بل هما جناحان لعالم واحد هو العالم العربي أو إن شئت العالم الإسلامي.

 د حسن حنفي

 

تبدو الأمة هذه الأيام في حاجة ماسة إلى بيان افتتاحي يعيد النظر في الأسس التي تركزت حولها وتقتض أيضا الاعلان عن قول فصل بعد أن ظهرت بوادر الفتور والارتداد عن المكاسب التنويرية الحداثية وبعد أن دبت روح الشقاق والانقسام ووصل الحال إلى تغليب مصلحة اللعبة على الانتماء إلى الملة وجعل ماهو ظرفي أمر رسمي و تحويل ماهو رسمي إلى أمر ظرفي.

ولعل السؤال الأكثر إلحاحا بعد هذه القرقعات وبعد أن تلبدت سماؤنا بالغيوم هو: من نحن؟ أو يا ترى من نكون؟ ومن هم أصدقاؤنا ومن هم أعداؤنا؟ إلى أي حضارة ننتمي؟ وماهي الثقافة التي تخصني؟ وماهي الروابط التي تجمعنا بمن يقاسمنا الانتماء؟ وماهي آداب الانتماء؟ وكيف نحافظ على العروة الوثقي التي تشد عناصرها كالبنيان المرصوص؟

غني عن البيان أن الأمة العربية الإسلامية هي التي تمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي مرورا بالبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والبحر الأسود وبحر العرب والمحيط الهندي وتبدأ رمزيا من مراكش لتنتهي في جاكرتا ومن جبال القوقاز إلى الجزر والصحراء الإفريقية وتضم شتات من الجاليات الكثيفة العدد في أوربا وأمريكا الشمالية واللاتينية والوسطى واستراليا ولو انطلقنا من جملة الأديان التي تضمها والأعراق التي تتكون منها واللهجات واللغات التي تنطق بها والثقافات المحلية التي تغذيها فإننا نلاحظ أنها جميعها تدعو إلى التوحد والتكاتف والتواصي بالصبر والتناصح بالحق حسب عبارة البروفيسير أبي يعرب المرزوقي.

 ولا جدال أن كل من المؤتمرات والجامعات والندوات والجمعيات قد تعثرت في رأب الصدع ولم تتمكن من لم الشمل ومنع تفجر النزاعات الحربية أو حتى المشاحنات الإعلامية والتحرش الاثني من الطرف المستعلي على الطرف الآخر المعتدى عليه ولم ينفع التبشير بالحوار القومي- الإسلامي وتدشين صفحات من الحوار العلماني -الديني والحوار اليساري- الإسلامي لكي يتم تفادي مثل هذه الانقسامات وإنهاء الخلافات وكأن قدرنا هو أن نتشرذم وننكفىء على أنفسنا ونسارع عجلة التفريط والتجزيء في ظل زمن معولم ملتهب يقوم على التكتل والتحالف وتجبيه القوى ويستوجب الاقتصاد في المدخرات من الطاقة والمياه والرأسمال البشري.

لكن السبب الرئيسي لهذه الموجة الشديدة من التشققات ونشوب أشكال من الخلاف بين الدول العربية ليس مجرد التنافس على الفوز في مباراة رياضية كما هو الشأن بين مصر والجزائر وإنما هو أن الذي يقود الأمة هو خليط فكروي وقع تنميطه من قبل الدعاية التجارية والاعلام الغوغائي و أن من يمتلك سلطة القرار يعتمد على بادئ الرأي وغير مكترث بصوت العقل ولغة الضمير ومهمل لمنطق الحكمة ونصيحة الواقع.

 لكن ماهو بادئ الرأي الذي انقادت له الأمة؟ وأليس من الضروري الآن العمل على تخليصها من الانقياد إليه وإعادتها إلى صراط العقل وهدي المنطق بماهو محك النظر وميزان العمل وقسطاس مستقيم؟

يقر الفارابي أن الملة تعلم الأشياء بالتخييل والإقناع ويحصل لها ذلك ولو كانت الأقاويل الاقناعية مغلوطة والطرق جدلية مبنية على مقدمات ظنية ويفسر ذلك أن الإقناع حصل بمقدمات هي في بادئ الرأي مؤثرة ومشهورة ومحل إجماع من الجمهور ومستمدة من المعارف المشتركة ولكنه يتعقب بادئ الرأي ولا يحمل المسؤولية للجمهور والملة وإنما للذين يعتمدون طرق خطابية دون توثيق ومع غياب اليقين وخاصة السوفسطائيين من بائعي الكلام ومروجي الشائعات وصانعي الدعايات المغرضة. وخطيئة هؤلاء أنهم جعلوا القوة الجدلية والسوفسطائية تتقدمان الفلسفة وما تمثله من تحري وتثبت وتعقل واتزان. ولو عدنا لما أصاب الأمة اليوم فإننا نجد أن السفسطة عمت الفضاء العمومي واكتسحت منابره وفقدت الأنظمة عقلها وبرز روح ثقيل ينزع نحو التدمير والهيمنة والاستئثار ويقضم ما تبقى من ذيله ويستهلك نفسه.

إن بادئ الرأي لا يعنى الدهماء والسواد الأعظم والسوقة والأغلبية الصامتة ومثل هذه التصنيفات تنم عن أرستقراطية معرفية مضللة ونظرة طبقية مقيتة ولكن يعني الشعب الكريم والحشد والناس والجمهور الذين هم في حاجة أكيدة إلى التنوير الآخر وآخر التنوير ومتلهفون إلى الحريات والتمتع بالحقوق من أجل استعادة الإنسانية التي فقدت منهم بفعل فاعل السلطة والاستقطاب الإيديولوجي والثقافة الآثمة.

إن إعادة التفكير في مفهوم الأمة هو أحسن الطرق الممكنة من أجل الرد على هذه الموجة من التشويهات التي تعرض لها الإنسان في حضارة اقرأ والآتية ويا للأسف من الداخل المصاب بالزكام والمانع لكل هواء نقي يريد الدخول إلى أروقة الذات لكي يجدد لها شبابها ويبعثها من رقادها.

ماهو منطقي أن كل التشنجات تنتهي وكل سوء التفاهمات تزول وكل الحروب تخمد وكل التنازلات تلغى وكل التراجعات تسرتد وكل الأشياء النفيسة الضائعة تسترجع وتبقى الأمة شامخة مواصلة المسيرة دون كلل أو ملل وذلك بفضل سواعد أبنائها وتضحياتهم واعتصامهم بعقولهم وبضمائرهم وإرادتهم الصلبة.

إن حضارة اقرأ لا تهتز ولا تتهاوي بفعل حفريات في كهوفها الجغرافية ومواقعها الأثرية طالما ظل الأمر القطعي الذي أسسها حيا منبعثا مدويا في السماء تتلقفه الأفواه وتنظر بفعله العيون إلى النصوص باحثة عن المعاني متصورة للأفكار بالعقول مسطرة بالأيادي ما اختزنته الذاكرة وباح به الوجدان.

ان ثقافة العرب والمسلمين ليست كتلة واحدة متجانسة ولا وحدة أقنومية جامدة بل منظومة تعددية ونقطة التقاء بين ثقافات جمة وهذه التعددية  هي التي تجعلها تمتلك هوية مركبة عصية عن كل تقوقع أو تشظي وهي ما انفكت تتفاعل مع مكوناتها ومع كل العناصر الوافدة من المحيط الذي يلفها دون إقصاء أو تهميش. وفي الحقيقة هناك علاقة جدلية عميقة وغامضة بين المعنى الديني والمعنى الاجتماعي التاريخي للأمة في التكوين النفسي الثقافي الذي تحمله المجتمعات العربية من تاريخها الطويل، القديم والحديث.

إن المطلوب ليس التنكر للعروبة ولا التملص من الإسلام حتى نبرأ أنفسنا من ذنوب ارتكبها غيرنا عن جهل وقلة تبصر وحتى ننتمي إلى الراهن ونواكب روح العصر وانما نمنح العروبة السرد اللازم لجعلها تصنع التاريخ الخاص بالمعمورة دون تمركز أو وله ذاتي ونطلق عنان الاجتهاد في القرآن والحديث لننتج تنويرا أصيلا ونفضي المكان لميلاد الإنسان بكل ما يحتمله من فردية وشخصانية وآدمية.

إن الخطر الذي يهدد الأمة ليس الخارج النيوكلياني ولا اشتداد الصراع بين دعاة التقليد ودعاة التجديد ولا امتلاك بعض الجهات الاقليمية عناصر القوة والمنعة فهذه علامة صحية وتصب في اتجاه استئناف التجدد الحضاري ولكنه يوجد في الداخل ويتمثل في هذا الجحود بالصلات والروابط والاستخفاف بالقريب وشيطنة الشريك وتجريم الحليف وإقصاء الصديق والتغافل عن التحديات والمهالك وإلغاء آداب الصحبة وواجب الأخوة، فكيف نصير أشداء على بعضنا البعض رحماء مع من يبحث لنا عن المضرة؟

وفي ظل التبجح بالقطرية والتمييز بين القومية والوطنية والكونية أليس من الضروري البحث عن شروط لبناء كيان سياسي فيدرالي فعلي بين مكونات الأمة؟ ألا ينبغي إعادة طرح إشكال الوحدة وتراوحه بين الإقليمية والاندماجية؟ ألم يقل عابد الجابري في ذلك الحوار الشهير مع حسن حنفي: ما أريد أن أخلص إليه أن فكرة الوحدة هي اليوم في حاجة إلى إعادة تأسيس في الوعي العربي. ؟ فما أحوجنا اليوم إلى حوار بين مثقفين والى وحدة ثقافية بين مكونات الأمة تخرجنا من مغالطات بادئ الرأي وتعيدنا إلى حديقة العقل وأنوار المدنية والتقارب؟ أليس الانتماء إلى المقاومة ومناصرة القضايا العادلة للأمة هو وحده الذي يبعد شبهة التعصب إلى المذهب أو الاثنية الطائفية؟

* كاتب فلسفي

......................................

المراجع:

حسن حنفي- محمد عابد الجابري، حوار المشرق والمغرب،نحو إعادة بناء الفكر القومي العربي، مجد بيروت 1990

ناصيف نصار، مفهوم الأمة بين الدين والتاريخ، دار الطليعة بيروت، طبعة خامسة، 2003

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 2/كانون الاول/2009 - 14/ذو الحجة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م