بين من تلطّخت يده ومن تلطّخ فكره

محمد علي جواد تقي

يبدو ان صخب السياسة أفقدت البعض الرؤية السليمة للأمور، فبات يخلط عن قصد أو دونه، بين ما هو ثقافي ومعنوي وبين ما هو سياسي ومادي واعتباري..

 و ربما أراد هذا البعض بنواياه السليمة الدفاع عن القيم والمبادئ لكن بوسيلة سياسية أو سُبل مادية، وهذه بالحقيقة مشكلة قديمة – حديثة، نعاني منها منذ فترة طويلة، ولا يخفى على المطّلع أن السياسة وما يدور في منظومتها من سلطة وهيمنة وإدارة و... تُعد من الأمور الاعتبارية التي تنتهي بقرار أو انقلاب أو...، بينما الثقافة والفكر والعلم والاخلاق، تُعد من الأمور الحقيقية في الانسان، فلا يمكن قتلها أو إلغاؤها بانقلاب او وسائل قسرية، وإنما بوسائل مثيلة لها.

والقضية اليوم تتعدى النقاش والكلام، فهي على صلة مباشرة بمصير شعب وأمة بما تحمل من إرث ثقافي وحضاري، لذا أرى من الضروري جداً اليوم امتلاك البصيرة الكافية لمعرفة حقيقة المعاناة التي يعانيها العراق، أ سياسي منشأها أم ثقافي وفكري؟ وهل الصراع الدامي طوال الثلاثين عاماً والتي سبقت سقوط نظام صدام، كانت بدوافع شخصية؟ أم ماذا؟

لا أعتقد ان أحداً ممن أسهموا وشاركوا في مقارعة نظام حزب البعث البائد، وبمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم، سيجيب بالإيجاب على هذه الأسئلة، ويقول: نعم.. لقد كانت المشكلة سياسية، فكنّا نحن أجدر من حزب البعث في إدارة الحكم في العراق، أو إن المشكلة تنحصر في شخص (صدام) رئيس النظام البائد، لأنه بذلك سيعرض نفسه للتسطيح في التفكير، ويخيّب ظن الناس به، لأن ببساطة ربما سيقولون عنه: ومن يقول أنك ستكون أحسن منه...؟!

 من أجل ذلك كان الجميع يتحدثون بمفردات من قبيل (الدكتاتورية) و (التضليل) و (محاربة الدين) و...

إن أدبيات المعارضة العراقية في الثمانينات لاسيما الاسلامية منها، ما تزال محفوظة ومؤرشفة، وهي تعجّ بالمقالات والبحوث والمحاضرات التي تركز على المشكلة الفكرية والثقافية في العراق، وإن حزب البعث وأفكاره هو الذي أتى بصدام الى السلطة كما أتى بالعسكريين وتسلّق على أكتافهم وصولاً الى السلطة عام 1968، والأهم من هذا، إن صداماً لم يأت بشيء من عنده، إلا بما زرعه البعث في نفسه من أفكار وتوجهات وجد إنها – لأسباب كثيرة خاصة بنشأته وشخصيته- هي الكفيلة بحمل الانسان من الحضيض الى القمة..!

وبما ان العراقيين اليوم يريدون كتابة تاريخهم من جديد، فان الأجدر توفير المناخ والأرضية اللازمة، بدلاً من إطلاق التصريحات السياسية وتجاوز المراحل، والقول بامكانية التمييز بين البعثي الملطّخة يداه بالدماء وبين رفيقه الآخر الذي لم تتلطّخ يداه بالدماء، فاذا حاول صدام كتابة تاريخ العراق بثقافة بعثية، وليس بالتصريحات السياسية، وأخفق في مسعاه وسقط أرضاً في نهاية المطاف، فاننا ملزمون بان نكون أفضل منه، في إعادة الشعب العراقي الى جذوره الدينية والحضارية، والسبيل الى ذلك سهلٌ يسير، وهو أن نعرض تلك الأفكار التي جاء بها صدام على موائد النقاش والبحث في ندوات عامة وجماهيرية يشارك فيها الجميع سواء من تلطّخت يداه بالدماء أم من كانت يداه نظيفتين!

ففي تلك الندوات التي يمكن أن تسهم في الترويج لها وسائل الاعلام المختلفة، ستتاح للانسان الفرصة ليراجع نفسه، بل إن الشعب العراقي برمته سيتمكن حينها أن يقرر (عن بيّنة) المصير النهائي لحزب البعث وأفكاره، لأن القضية كما  أسلفنا آنفاً، لا تتعلق بجرة قلم من مسؤول حكومي، كما هو متبع لمواجهة بعض الظواهر الاجتماعية الشاذّة - ولو أنها أيضاً ذات خلفيات ثقافية- لأن الذي تلطخت يداه بالدماء خلال عهد صدام كان قد تلوث قلبه وتلطّخت ذهنيته بافكار البعث، فمعظم الذين تلطّخت أيديهم، لم يقتلوا أحداً ليسدوا جوع عوائلهم، إنما توصلوا بان القتل والوشاية والعنف في ظل البعث تُعد فضيلة ومنقبة لابد أن يتحلّى بها كل من يريد العيش في العراق.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 26/تشرين الثاني/2009 - 28/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م