الحج وقاعدة التفوق البشري

استلهاماً من وصية الإمام الصادق (ع) للحاج

السيد محمود الموسوي

وصية الإمام الصادق (ع) إلى الحاج وصيةُ إمام معصوم لشيعته الذين يريد منهم أن تتحوّل شعائر الله في أنفسهم، إلى برنامج تربوي تصنع إنساناً ذا صفات إلهية . . إنساناً يسير في طريق الكمال الذي يؤّدي به إلى النجاح في آخرته وفي دنياه، كل ذلك من خلال شعيرة الحج (ليشهدوا منافع لهم) الذي قال عنه أهل البيت (ع) أنها تعطي خير الدنيا والآخرة ..

إذاً فهو برنامج لصناعة إنسان متفوّق وناجح وفق المواصفات الإلهية الحقيقية .. وهذا هو النجاح الكامل، حيث قال الإمام الصادق (ع): (عليكم بحج هذا البيت فأدمنوه، فإن في إدمانكم الحج دفع مكاره الدنيا عنكم، وأهوال يوم القيامة)..

الوصية التربوية للإمام الصادق (ع) للحاج تجيب على سؤال الكيف في شعيرة الحج .. كيف يقوم الحج بفعله في نفس الإنسان؟

كيف تقوم تلك الشعائر بأثرها في صناعة الإنسان؟ و بأي آلية تخترق تلك الأعمال عمق الإنسان، وكيف تتحوّل الطقوس إلى طاقة دافعة نحو صياغة النفس؟

لذلك فهذه الوصية مهمة، فهي برنامج تربوي يشعر الإنسان بالحج الحقيقي.

قاعدة التفوّق

إن ما يجمع هذه الوصية هي قاعدة واحدة، إذا أمسك الإنسان بزمامها فإنه يستطيع أن يتحكّم بذاته و يحدد موقعه و موقفه من صفاته بل حتى من الصفات السلبية التي تلاحقه.

هذه القاعدة تعتمد على قوّة الخيال لدى الإنسان، وذلك بأن يحلّق بتصوره ويجسّد الصفات المعنوية في قالب مادي محسوس، هذه قاعدة التفوق البشري لصناعة إنسان ناجح متحكم بنفسه وقواها، ومتحكّم بجميع التحديات السلبية التي تواجهه.

قد يودي الخيال بصاحبه ويرديه صريع أحلام اليقظة أمام واقع مليء بالسلبيات، فعندما يستخدم الإنسان خياله في خلق عالم سوداوي محطّم، فإنه بلا شك سيتجه نحو التحطّم، و إذا استخدم خياله في صناعة عالم لا مسؤول مغرق في التواكل، شبيهاً بأحلام طفل لا يعي معنى التحدّي و بذل الجهد، فإنه سوف يصاب بإحباطات الواقع و سينهزم أمام أبسط سلبياته.

للخيال دور كبير في تحديد مسار الإنسان، و أثره الواسع، وإن لم يكن بذي تشخّص ملموس، لأنه يتعامل مع النفس، و النفس هي التي تحدد هوية الإنسان، فعندما يغلب عليها روح التفاؤل فستكون منطلقة وفاعلة، أما إذا غلبت عليها روح التشاؤم فقطعاً سوف تكون متراجعة متقهقرة، قال تعالى (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا).

لنرجع الآن إلى الوصية، وصية الإمام الصادق عليه السلام إلى الحاج، لنرى كيف أن الإمام يدعو الحاج إلى أن يحلّق بخياله، لا ليرسم أحلاماً وردية لا واقع لها، و إنما لكي يجسّد الحقائق المعنوية ليتمكّن بعد ذلك من البدء بالعملية التغييرية في النفس، وهو يمر بمختلف المشاعر الربانية في فريضة الحج.

كيف يتم التأثير، و ما الذي يحصل ؟

هذه القاعدة باختصار هي : التحكّم بالذات من خلال تجسيد المعنويات.

أما الأمور التي تؤديها هذه القاعدة بشكل سريع وفاعل فهي كالتالي :

* تحدد المعنويات التي قد تشوّش رؤية الإنسان نحوها إذا فكر فيها بماهيتها الأساسية، فيتعرّف عليها بوضوح.

* تحديدها يعني حصرها، لكي لا تتضخّم صورتها لدى الانسان، ليتعرف على إمكانياته تجاهها، فكل معدود محجّم، والتحجيم يقرّب إمكانية السيطرة عليه.

* إذا تصوّر الإنسان المعنويات مجسّمات و ملموسات، يتحدّد بالتبع مكانها، و هنا تحديداً، يمكن للإنسان أن يقرّر أين يجعل نفسه منها، فيحدد موقفه و موضعه المتصور من تلك الصفة.

هذه الصورة التقريبية لقاعدة التفوّق البشري المذكورة، تجعل الإنسان وكأنه يحدّد موقفه من المشهد، فهل يكون مرتبطاً و متمسكاً بتلك الصفة المعنوية ؟ فهو لابد إما أن يندمج فيها، أو أن يحدد لنفسه موقفاً سلبياً منها، وبالتالي فلا بد من يخلّص منها في عالم التصور والخيال، أي أن يتخلّص منها بصورتها المجسّدة، لكي يشعر نفسه بأنه بالفعل تخلّص منها.

هكذا يبدأ الإمام ..

عندما يبدأ الحاج بغسل الاحرام للحج، فإن الوصية تدعوه إلى أن يتصور الماء، وكأنه ماء التوبة، وأن يتصور الصفات المعنوية (الصدق، والصفاء والخضوع والخشوع) وكأنها لباساً يلبسه .. يقول الإمام (ع) : (ثم اغتسل بماء التوبة الخالصة من الذنوب، والبس كسوة الصدق و الصفاء والخضوع والخشوع).

و في الهرولة في المسعى تتضح لنا تلك القاعدة بجلاء، عندما يجسّد الإنسان هواه، و حوله و قوته، ثم يحدد موقعه منها، ويفر هارباً مهرولاً من تلك الصفات .. فالهرولة هي فرار من معنويات .. وبالتالي فإن النفس تتبع هذا التصور و تتأثر به.

أما إذا خرج إلى منى فإن عليه أن يتصور نفسه واقعاً في وحل غفلته و زلاته، ثم يخرج منها متجهاً إلى منى .. وتلك الذبيحة التي يذبحها، يتصور حنجرتها هي حنجرة الهوى والطمع، ثم يذبحها .. فإنه بذلك يكون قد ذبح ذلك الهوى والطمع في نفسه .. وهكذا تستمر علمية التصور إلى الرمي حيث يقول الإمام في وصيته : (وارم الشهوات و الخساسة والدناءة والأفعال الذميمة عند رمي الجمرات).

هكذا يمكن أن تكون أعمال الحج ذات عمق وتأثير عميق في نفس الإنسان، فماذا يرجو من رمى سلبياته بالحجر، و ذبح طمعه، و فره من هواه ..إلا أن يتخلّص من تلك الأفعال الذميمة ويهجرها، ثم يملأها بالوحدانية والطاعة و الصفات الحميدة ..

فهذه قاعدة التفوق البشري في شعيرة الحج، ويمكن أن يطبقها الإنسان في تطبيقات أخرى في سائر أفعاله اليومية و في عباداته الأخرى، ليكون لها تأثيراً حقيقياً على النفس.

www.mosawy.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 25/تشرين الثاني/2009 - 27/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م