تركيا والسلوك السياسي المزدوج

د. محمد مسلم الحسيني-بروكسل

تميّزت السياسة التركية ومنذ زمن سقوط الإمبراطورية العثمانية ولحد الآن بصفة السلوك المزدوج أمام القضايا العالمية والعلاقات مع الدول المتباينة في السياسات والرؤى، فقد حاولت تركيا ومنذ زمن أول رئيس للجمهورية التركية،" مصطفى كمال أتاتورك"، أن تفتح صفحة من العلاقات الجيدة مع دول الغرب وفي الوقت نفسه تبقي على علاقات طيبة مع دول الشرق.

كان هذا واضحا من خلال سياسات هذا الرجل التي كانت منصبة على تحرير أراضي الأناضول من قبضة الحلفاء بشكل سلمي وآلت جهوده الى توقيع حلف مع البريطانيين والفرنسيين عام 1939م. هذا من جانب ومن جانب آخر، فإنه قد سعى الى تعزيز علاقاته مع دول الجوار والدول العربية وذلك من خلال مشروعه الذي لم ينجح في حينه، وهو إقامة حلف آخر لكنه عربي تركي هذه المرّة.

بين عام 1938 و 1955 م إستمر النهج التركي في السياسة المزدوجة من خلال التعاون المستمر مع الغرب الذي أدى الى وصول تركيا الى عضوية حلف الناتو من جهة، والى تعضيد علاقاتها مع دول الشرق الأوسط التي تتوجت بإقامة حلف بغداد عام 1955م من جهة أخرى. وقد كان للحزب الديمقراطي التركي القدح المعلى في الوصول لهذه الإنجازات. بقيت هذه السياسة المميزة واضحة إبان المراحل التأريخية لتأريخ تركيا الحديث، فقد أبلى الزعيم التركي توركوت أوزال، الذي جاء الى سدة الحكم في عام 1983م، بلاءا حسنا في توطيد علاقات تركيا مع دول الغرب ودول الشرق على حد سواء وذلك من خلال إرساء دعائم إقتصادية متينة بين تركيا وهذه الدول من جهة ومن خلال الدور السياسي الهام الذي لعبته تركيا وتمخض عن إعتراف الأتراك في دولة فلسطين وأخذ دور ريادي في العملية السلمية بين الدول العربية وإسرائيل ودور هام أيضا في حرب الخليج الأولى.

 سياسة توركوت أوزال في الإصلاح الإقتصادي والسياسي إستمرت وأعتمدت من قبل حكومة حزب العدالة والتنمية التي جاءت الى الحكم عام 2002م.

 السيد رجب طيب أوردغان رئيس وزراء تركيا الحالي وزعيم حزب العدالة والتنمية لعب نفس الدور ونفس المنهج المعروف في السياسة المزدوجة في علاقاته مع دول الغرب و دول الشرق منذ البداية. فقد نص الخطاب السياسي لحكومته على إعلان خطط للإصلاح الإقتصادي والسياسي وعلى تفعيل لعملية إنضمام تركيا الى عضوية دول الإتحاد الأوربي وعلى إبراز دور تركيا الهام كقوة إقليمية ذات بنية إقتصادية وصناعية ولها تأريخ طويل وموقع جغرافي متميز ومصالح ونفوذ في شرايين الكثير من الدول المجاورة والقريبة بل حتى البعيدة عنها.

رغم حرص الأتراك على حفظ الموازنة في منهج السياسة المزدوجة في علاقاتهم الخارجية إلا أن بوصلة السياسة تميل بين الفينة والأخرى بإتجاه طرف دون الآخر. فهي تميل وطرا الى الغرب ووطرا آخرا نحو الشرق وذلك حسب متطلبات الحاجة وأحكام المرحلة. ففي عام 1964م حصلت أزمة قبرص التي إستشاط لها الغرب غضبا مما أدى بالرئيس الأمريكي جونسون الى تهديد تركيا بأن يجعلها وحيدة أمام خطر الإتحاد السوفيتي ! كما أن دول الغرب الأوربي كانت منحازة بشكل واضح الى اليونان في هذا النزاع.

هذه الأمور دفعت تركيا الى تقوية علاقاتها مع دول الشرق خصوصا الدول العربية والإسلامية من أجل كسب التأييد والمساعدة في موقفها أمام العالم وإزاء تلك المرحلة.

برز هذا الميل في بوصلة السياسة التركية مرة أخرى في عهد الحكومة التركية الحالية، حيث كان الخطاب السياسي التركي منحازا للقضية الفلسطينية خصوصا في أعقاب الهجوم الإسرائيلي الشرس على قطاع غزة الأعزل، والذي تمخض عن مشادة كلامية بين رئيس وزراء تركيا والرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز على هامش مؤتمر دافوس الإقتصادي في سويسرا. إضافة الى رفض تركيا مؤخرا مشاركة إسرائيل في المناورات العسكرية المبرمجة في فضائها وعلى أراضيها والذي كان بمثابة صفعة قوية لإسرائيل ولحلفائها.

كما أن تقوية وشائج التعاون السياسي والإقتصادي بينها وبين بعض الدول المجاورة كسوريا والعراق وإيران، وتصريحاتها المدافعة عن حق إيران في إستخدام الذرة وغيرها من الأمور بينت صبغة التحول الواضح في الستراتيجية والسلوك التركي الذي صار يختلف عن ذاك الذي تعود العالم عليه سابقا.

السؤال الذي قد يطرح نفسه في هذه الظروف وعلى ضوء المستجدات السياسية هو: ما هي ماهية وأسباب التحول في السياسة التركية الحالية، وما هي دواعي ميل بوصلة السياسة التركية هذه المرة الى الخانة الشرقية دون المنصة الغربية؟.

قد يجيب المحلل السياسي على هذا السؤال بتحليل الكثير من الأسباب، أوجز منها ما يلي:

أولا: لقد تعبت الحكومة التركية كما تعب الشعب التركي من الركض وراء الغرب والتوسل بهم من أجل الإنضمام الى عضوية دول إتحادهم " الإتحاد الأوربي". فقد سئم الجميع سياسة الأخذ والرد بين تركيا ودول الإتحاد حتى بدأ الصبر ينفذ ! وهكذا أرادت الحكومة التركية أن تعطي إشارة ساخنة لدول الإتحاد بأن تقرر وتحسم الموقف، فقد أقض الإنتظار الثقيل مضاجع الأتراك. كما إنها أرادت أن توحي بأن تركيا سوف لن تضمحل أو تموت إن لم تلتحق بركب دول الإتحاد الأوربي فهناك بدائل ناجعة تنتظرها وقد تستطيع أن تعوض الفائدة المكتسبة من الإنضمام الى عضوية دول الإتحاد بوسائل وطرق أخرى. وربما ستكون دول الإتحاد هي الخاسر الأكبر في هذه المعادلة، بل ستتشجع هذه الدول للرجوع الى تركيا وضمها الى عضوية الإتحاد الأوربي إن قوت شكيمتها وتصالحت وتعاونت مع الدول المحيطة بها.

ثانيا: في ظل التحولات الظرفية والأحداث والتغيرات المعاصرة في النهج السياسي والعسكري والإقتصادي والتجاري العالمي، خصوصا تورط الأمريكان في العراق وأفغانستان وتورط الدول الغربية بشكل عام في محاربة الإرهاب وفي مناحرة الأزمة المالية والإقتصادية، بدأت تركيا تستشعر بأهميتها الستراتيجية بفضل موقعها الجغرافي المحوري ووزنها وثقلها السياسي والعسكري في تغيير موازين القوى ومراكز الإستقطاب. وهذا ما جعل القادة الأتراك لا يتطلعون فقط لموقع إقليمي مميز لتركيا فحسب وإنما يصبون لموقع عالمي مرموق يستطيعون من خلاله النفوذ والأنتشار في ساحات متعددة وفي أركان مختلفة من أجل الصعود ببلدهم الى هامات عالية تقضي على أسباب الركود الإقتصادي وتحل مشكلة البطالة وتفتح قنوات جديدة أمام النسغ التركي الصاعد. هذه الطموحات لم تكن متخفية عن الأنظار والأسماع فقد صرّح وزير خارجية تركيا أحمد داود أوغلو وفي عدة مناسبات ان تركيا تطمح أن تكون قوة عالمية عظمى يعلن عنها عام 2023 م أي بعد مرور مائة عام على ولادة الجمهورية التركية.

المتابع للنشاطات السياسية التركية يجد بان الطموح التركي يتطابق تماما مع الحراك السياسي للحكومة، فهي تلعب دور الوسيط الفاعل في عملية الحوار غير المباشر بين سوريا وإسرائيل، وهي الوسيط الكامن بين الغرب وإيران. كما إن موقعها الجغرافي الذي يربط الشرق بالغرب ويطل على دول البلقان ودول البحر الأبيض والأسود ودول بحر قزوين ودول القوقاز ودول وسط آسيا ودول الخليج فضلا عن دول الشرق الأوسط يجعلها تتحرك بحرية في مناطق متعددة وبنفس الوقت.فهي حلقة الوصل في إيصال البترول والغاز القادم من دول بحر قزوين وروسيا ودول القوقاز ودول الشرق الأوسط عبر أراضيها مما يجعلها تلعب دورا رياديا في تأمين نقل الطاقة الى الدول الغربية وهذا ما يعزز دورها على الساحة العالمية. كما ان الأقليات التركية المنتشرة في هذه الدول تعتبر عمقا ستراتيجيا لها وإحتياطي بشري لوقت الحاجة!.

 كل هذا قد يعطي لتركيا زخما هادفا قد يلعب دورا مركزيا على المستوى التجاري والإقتصادي والأمني العالمي، مما يحتم على تركيا سياسة الإنفتاح العام على الدول المجاورة والإقليمية بل على الكثير من دول العالم كي تتبوأ مكانتها العالمية المرموقة التي تسعى من أجلها، ولا تبقى محبوسة ضمن أجندات ثابتة وإلتزامات ضيقة قد تعيق من خفة حركتها وسرعة إنطلاقها.

ثالثا: الحكومة التركية الحالية ترفع شعارات إسلامية وتلتزم بمنهج إسلامي، فلا عجب في أن تتصرف على ضوء المبادىء الإسلامية الحقيقية وتتبع أرشادات الإسلام وأصوله، فتنتصر للحق وتستنكر للباطل. فهذا هو ديدن الإسلام الحقيقي وهذه هي صفاته. تقوية وشائج التعاون والمحبة مع الدول العربية والإسلامية فريضة شرعية ينادي بها الإسلام ويحث عليها، فلماذا لا نصدق بمن يتبناها !؟.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 24/تشرين الثاني/2009 - 26/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م