إنَّ سلوك الإنسان ناتج عن قرار عقلي مُسبق، يقود العملية
السلوكيّة. فالسلوك ليس خياراً آنياً طارئاً بدون وعي، وإنّما هو
انبعاث لتراكمات مجموعة من العناصر، التي تكون مرجعيّةً للسلوك
وموجِهَهً له.
وهذه العناصر، يُمكن تحدِيدها بما يلي(أولاً). الصفات الوراثيّة
والاستعدادات النفسية. (ثانياً). المنظومَةُ التربويّةُ. (ثالثاً).
البيئة الأسريّة والاجتماعيّة. (رابعاً). مجموعة القيم والافكار
والعادات والثقافات، المكتسبة من قبل الإنسان.
وهذا الكُلُ المُرَكَّبُ، يشكِّل النظام المعرفي للانسان. والقرآن
الكريم يرسِم لنا، معالم نظرية اكتساب المعرِفَة، بدقّة متناهية، فيقول
تعالى: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(صدقَ اللهُ
العليُ العظيم).
هنا تدخل الحواس كمجسات، لتَلَقي المعلومات الخارجيّة، و يقوم العقل
بمعالجَتِها، وتَصنيفها وخزنِها. وكلّما ارتقى الانسان، في نظامه
الحياتي، تطوّرت مدارِكُه الذهنيّة، وقابلياتُه في تفسير الاحداث. يذكر
أحد التَربويين، الفرضِيَة الطّريفَة التالية، فيقول:(لو انتقلَ سكانُ
الكرة الأرضية، الى المريخ، تاركين وراءَهم اطفالَهم الصغار، ثم عادوا
اليهِم بعد عشرين عاماً، لوجدوهُم قطيعاً من البهائم)(انتهى). وهذه
الفريضة تصوّر لنا، اهمية التواصُل بين البشر.
إنّ المعلومة المكتسبة، إذا ما استقرت في الأذهان، فإنّها ستصبح
يوماً مّا، قيمة فكريّة قدّ تُتَرجَم، الى سلوك فيما بعد. وهنا تَبرِز
مسؤوليّة المربين والمثقفين والمُصلحين، في تصحيح وتصويب وترشيد، الكَمِّ
الهائل منَ المعلومات، التي يتلقاها الانسان، مِن مصادِر معلوماتيّة
متنوعة. ومن هذه المصادر، وسائِل الإعلام، ومنها التلفزيون، تلك
الوسيلة الاتصاليّة الأكثر شعبية في العالم. وعندما يتحول هذا الجهاز
الساحر، من حالة المنجز العلمي، الى حالة المصدر الاستثماري، يصبح
مصدراً لا يؤمَنُ جانِبُه، من ورود الخطر منه.
وكلمّا تطورت، تقنِيَّة علوم الاتصالات، ازادت وتيرة المخاطر
القادمة منها. إنّ الافكار التي تطرحُها هذه التقنيات، والتي تعتمد على
اللغة التصويريَّة، البارعة في العرض، والزاهية في الألوان، تجعلهُا
ذات نمط أخّاذ، وممتع ومريح بالنسبة للمتلقي. الأمر الذي جعل المتلقي،
يتنازَل طوّعيّاً، عن مصادِر معرفيّة أخرى، مثل الكتاب والمجلة،
والندوة النقاشية، تاركاً للاسترخاء والراحة، أنْ يأخذا مداهما، إلى
ابعد حدٍّ في حياته، وهنا مكمن الخطر. فالمعلومات والافكار، التي
يستقبِلُها الفرد، وخصوصاً النَشْئ الجديد، صاحب التجربَة البَسيطة،
ستضَعُه تحت التأثير المباشر، لوسائل الإعلام، ووسائِل الترفيه، ومنها
الالعاب الألكترونيّة، واذا اخذنا بنظرِالاعتبار، بعض القنوات
الفضائية، التي لا تكُفُّ، عن عرض أفلام الحروب، والقتل والعنف، حتى
اصبحت سِياسَتُها الاعلاميّة، عرض افلام، ومسلسلات العُنف فقط. حتى
اصبحت مقولة، العُنف يأتي منَ الشاشة، مِنَ الحقائق المسلّم بها، في
الوقت الحاضر.
إنَّ تسويق الاسلوب العنيف، على المستوى التجاري، حرّك اهتمامات
الكثير، منَ العلماء والباحثين، في مجال الإعلام، وعلوم الاتّصال، لوضعِ
نظريات علميّة، تؤكد نتائِجُها، بأنَّ الانسان الذي يتعرض، لمَشاهِد
العنف، ولقطات الجريمة، يتأثر بحدود معيّنة، تختلفُ شِدَّتُها، اعتماداً
على الوضع النفسي، الذي يعيشُهُ المتلقي.
فتستعرض الدكتورة(نائلة عمارة)، في كتابها الموسوم بعنوان: (علم
النفس الإعلامي)، أهمَّ نظريات العنف في الإعلام، منها باختصار شديد: (أولاً).
نظريّة التحفيز، و تشير هذه النظرية، إلى أنَّ مَشاهِد العُنّف
تُحَفِّز المُشاهِد، على القيام باعمال عدوانية. (ثانياً). نظريّة
التّدعيم، أي أنّ مَشاهِد العُنّف تَدعم وتُرسِخ، سلوكيات العُنّف عند
الأفراد الأكثر استجابة لها. (ثالثاً). نظريّة التقليد، و تؤكد بأنَّ
التلفزيون، يُقدم رسائِل عنيفة، يُمكِن للاطفال، أنْ يقلِدُوها في
حياتهِم الخاصة. (رابعاً). نظريّة النموذج التطوّري، للتأثيرات
المُتبادلَة، والتي تَعتَبِر، أنَّ مَشاهِدَ العنّف، والسُلوك العدواني،
يُفَعِّل أحَدُها دورَ الآخر. فالاطفال الذين يشاهدون العنّف بكَثرة،
سيتخذون منَ العنّف، طريقاً لحل المشاكل.
إذن هذه النظريات تُسَلِم، بتوَحُدِ المُتعرِضين لرسائل العنّف،
ومنهُم الاطفال، مع الشخصيات العدوانيّة، فيخزِنُون في ذاكراتِهم،
التصرفات العدوانيّة، الأمر الذي سيؤثّر سَلباً، على نجاحِهِم الدراسي
والاجتماعي.
من جهة أخرى، تقول عالمة النفس (دوروتي سينفر)، كما جاء في كتاب
(الاعلام والسياسة الخارجية الأمريكية، للدكتور سلام خطاب الناصري)،
حيث تقول هذه الخبيرة مايلي:(واحدى الرَسائِل الموجودَة في افلام
كهذه(تعني افلام العنّف)، لا تستخدم العقل والنقاش أبداً، بل العُنّف،
وإنَّ صِوَر العُنّف المكثفة، تجعل الشباب يتّبعون سلوكاً اكثر
عدوانية)(انتهى). ويؤكد هذا الاتجاه(أريك ميغريه) في كتابه(سوسيولوجيا
الاتصال ووسائِل الاعلام) فيقول:(يعود سبب مختلف، مذابح التلاميذ، في
الولايات المتحدة وفي أوربا، الى معاشرة الانترنت او
التلفزيون)(انتهى).
وفي هذا الصدد، يُشير الدكتور نسيم الخوري، في كتابه(الاعلام العربي
وانهيار السلطات اللغوية) فيقول:(يُستخلَص من هذه الالعاب، ترسيخٌ
لاستراتيجيات القتل بشكل عامّ، وقتل المشارَكَة اللغويّة، او
التعبيريّة بشكل خاصّ.... ويقود مسح مضامين هذه الالعاب، والاقراص
الالكترونيّة، الى تَلَمُس قيم مشحونَة بالعنّف، تُشكِّل فلسفة الألعاب
الالكترونية، ووسائِِلِها المُتَنَوّعةْ. وتقترح هذه الالعاب، قِصَصاً
ومغامرات، تستقي أحداثَها من حروب فعليّة وقعت في فيتنام وافغانستان
الى نيكاراغوا وعاصفة الصحراء في الخليج، وتكادُ تقتصر على قتل الخصم
والغائِه كلياً. وتشيرُ الاحصاءآت التقديرية، في هذا المجال، الى أنّ
الطفل الأمريكيّ، يكونُ قدّ شاهَدَ على الشاشة، مع نهاية تحصيله
الإعدادي، ثمانِيَة آلاف حالة قتل، ومئة ألف مَشّهد عنف، تَخلِق لديه
صوراً وكوابيس، لا تَكُف إلاّ عند ممارَسَتِه القتل فعلاً، بواسطة
الألعاب الالكترونية، فيصل عدد الضحايا، مع بلوغه الثامنة عشرة، إلى
أربعين الفاً دون أية وخزة ضمير..... يألف الطفل لُعبَة القتل، وهذا
سلوك يُتَفِّهُ فكرة الموت، ويُفرِغُها من مضامينِها الفعليّة، التي
أرستها الديانات والفلسفات. انه الموت الذي يشابه التخدير في نتائجه،
ويقضّ مضاجع بعض الدول والمرجعيات التربوية، فالشاشة باتَت ملعباً
عالمياً، لممارسة فعل الموت العنيف.)(انتهى).
كما لا يَفُوتُنا في هذه العُجالَة، مِنْ أنْ نُوجِه أصابِع النَقد،
إلى مؤسَساتِنا التربويّة، التي عَجَزَت لحد لا يستهان به، مِنْ ايجاد
علاقة صَداقة بين التلاميذ، ومقررات الدّراسة من جهة، وبينَهُم وبين
مَوجُودات المدرسة، كصفوف المدرسة و رَحْلاتِ الدراسة، والسبورات
ووسائِل الايضاح، وبقية المرافِق الأخرى. يقول الدكتورُراسم الجمال، في
كتابه (الاتصال والإعلام في الوطن العربي):(فإنَّ المؤسسات الاجتماعية،
كالأسرَة والمدرسة وغيرها، لا تعطي أدب الطفل، وثقافة العِناية
الواجبة، بلّ قد يَكُون النِظام التعليمِيّ ذاتَه، في بعض الاحيان،
معوقاً أمام اقبال الطفل على القراءة.)(انتهى).
ونحن في خِضَمِّ هذه التحديات، ووجود تداعيات سابقة، افرزتها فترات
الحروب، والحصار الاقتصاديّ على العراق، جعلت البيئة الاجتماعيّة
العراقيّة بأمَسّ الحاجة، إلى عمليات الترميم والاصلاح، لتَحصين
أبنائِنا من هذا الخطر الداهم.
* كاتب وباحث عراقي
mj_sunbah@hotmail.com |