هذا المقال، قراءة وليس موقفا، انه محاولة لسبر اغوار فحوى هوية
الكيانات السياسية التي اعلنت عنها رسميا المفوضية العليا المستقلة
للانتخابات، لخوض الانتخابات البرلمانية القادمة، من اجل الكشف عن
اتجاهاتها، من خلال التعرف على الاجزاء التي تتشكل منها.
انه قراءة تمسك العصا من الوسط، فلا تميل لاحد او تتحيز ضد احد،
ابدا.
اتمنى على القارئ الكريم ان ياخذ كل ذلك بنظر الاعتبار، فينتبه الى
ما اردت قوله في هذا المقال، بلا تعصب او تحامل او تشنج او تربص،
فيحسبني على جهة ضد اخرى.
انه قراءة، ازعم دقيقة، للخارطة السياسية الجديدة، التي ستنزل
تفاصيلها في ماراثون الانتخابات المرتقبة.
ولان حجم المقال لا يسعفنا لقراءة كل الكيانات، ولذلك فساكتفي
ببعضها.
ففي اول نظرة لهذه الكيانات، سنلحظ انها اعتمدت الهويات التالية:
اولا: الدين، اذا كانت كيانات ذات ميول دينية، كما هو الحال مع
ائتلاف دولة القانون والتوافق العراقي والائتلاف الوطني العراقي وغيرها.
ثانيا: الاثنية، كما هو الحال مع التحالف الكردستاني والرافدين
وامثالها.
ثالثا: المذهبية، كما هو الحال مع دولة القانون والتوافق والوطني
العراقي.
رابعا: الايديولوجية، كما هو الحال مع اغلب الكيانات، منها اتحاد
الشعب (الشيوعية) و الحركة الوطنية العراقية (البعثية) بالاضافة الى
الكيانات المعروفة بتوجهاتها الايديولوجية كدولة القانون والوطني
العراقي والتوافق.
خامسا: ما يمكن ان نسميه بالكيانات التي تحن الى الماضي وخطابه
السياسي، كما هو الحال، مثلا، بالنسبة لائتلاف (احرار) وامثاله، الذي
نجح، وبامتياز، في تقديم خطاب ماضوي متشنج ملفت للنظر، سمعنا به وهو
يقرع طبول الحرب، فاعتمد نفس العقد التي كان يعيشها النظام البائد،
وانطلق منها، من دون ان يعني ذلك، الانتماء اليه كحزب، وانما كمنهج
وكخطاب.
سادسا: الحزبية، اذ ان جل الكيانات يمكن تسميتها باسماء الاحزاب
التي تقودها، فالتوافق يمكن تسميته بائتلاف الحزب الاسلامي، واتحاد
الشعب يمكن تسميته بائتلاف الحزب الشيوعي، ودولة القانون يمكن تسميته
بائتلاف حزب الدعوة، جناح المالكي، وذلك لطغيان صبغة الحزب على الكيان،
فمثلا، لو قرانا مفردات ائتلاف دولة القانون ومحتوياته، لوجدنا انه
يتشكل باغلبية حزبية دعوتية، وتحديدا جناح المالكي، باضافة عناصر من
هنا وهناك، اما باشخاصها او بمسميات تتمثل بالاشخاص، او بمسميات كانت
تنتمي الى حزب الدعوة الاسلامية مرحلة ما قبل الانشقاقات.
ولذلك فان هذه الائتلافات، ومنها ائتلاف دولة القانون، حسمت امرها
منذ اليوم الاول في ثلاث قضايا هامة، تحتاجها اذا ما حصلت على الاغلبية
البرلمانية وتم تكليفها بتشكيل الحكومة الجديدة، والقضايا الثلاثة هي:
تسمية رئيس الكيان، او الكتلة.
تسمية رئيس الوزراء.
تسمية الحزب الحاكم.
ما يعتبره البعض بانه نقطة قوة لمثل هذه الكيانات، لانها ستختزل
الوقت بعد الانتخابات، فلا تنشغل طويلا بالجدال الداخلي لتسمية مرشحها
للمنصب المرجو، فيما رحل آخرون خلافاتهم الداخلية لتتفجر بعد
الانتخابات، كما يعتبر البعض ان ذلك يساعد مثل هذه الكيانات على تسمية
مرشحين افضل في اطار التفاضل بعيدا عن المحاصصات، كونها تتشكل من لون
سياسي واحد تقريبا.
ففي حالة ائتلاف دولة القانون، مثلا، فان رئيس الكيان هو السيد
المالكي، ورئيس الوزراء المرشح هو السيد المالكي، اما الحزب الحاكم،
فهو حزبه، حزب الدعوة الاسلامية، جناح المالكي.
وهكذا بالنسبة الى بقية الائتلافات التي اعتمدت الحزب كمحور اساس في
تشكيلتها، فبمثل هذه الحالة، يلزم على الناخب ان ياخذ بنظر الاعتبار
انه اذا صوت لمثل هذه القوائم فانه يصوت في ذات الوقت لرئيس الوزراء
القادم، وللحزب الحاكم في آن.
كما ان هذا النوع من الكيانات، قلص مساحة الشراكة الحقيقية بدرجة
كبيرة، بالاضافة الى انه الغى التعددية الحقيقية بشكل او بآخر، فهي،
بطريقتها، تتجه صوب احتكار السلطة.
الا ان الامر يختلف بالنسبة الى كيانين آخرين اعتمدا كذلك الحزب في
تشكيلتهما، الا انهما لم يحسما امرهما في القضايا الثلاث المشار اليها،
والكيانان هما، التحالف الكردستاني والائتلاف الوطني العراقي، وربما
يعود السبب في ذلك الى انهما اعتمدا في تشكيلتهما على اكثر من حزب او
تيار اساسي، فالاول يعتمد في تشكيلته على حزبين رئيسيين هما، الاتحاد
الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، بالاضافة الى الاتحاد
الاسلامي الكردستاني، وهو حزب مهم على الساحة الكردستانية، اما الثاني
فقد اعتمد في تشكيلته على اكثر من حزب او تيار اساسي وهي، المجلس
الاعلى الاسلامي العراقي والتيار الصدري وتيار الاصلاح الوطني والمؤتمر
الوطني العراقي وجماعة علماء العراق ومجلس انقاذ الانبار وحزب الفضيلة
الاسلامي وغيرها.
فهذان الكيانان سيقسمان المواقع داخليا فيما بين اجزائهما، فسيكون
رئيس الائتلاف غيره رئيس الحكومة المرشح، والحزب الحاكم ستفرزه صناديق
الاقتراع، بعد ان اقر البرلمان نظام القائمة (المفتوحة) وليس بالتوافق،
وهكذا، ما يلمس فيهما الناخب نوعا من التعددية والشراكة الحقيقية.
هناك جديد في هذه الكيانات، هو افتراق الغرماء التاريخيين عن بعضهم،
بعد ان جمعهم فيما مضى الظرف السياسي الخاص، فحزب الدعوة افترق عن
المجلس الاعلى، والبعثيون افترقوا عن الشيوعيين، اما من يطلقون على
انفسهم بالعلمانيين، فقد تفرقوا طرائق قددا، لم يجمعهم هدف ولم يلم
شملهم تحدي ولم توحدهم شعارات، وكل ذلك على عكس ما ظلوا يتحدثون به
كونهم، مثلا، يفترقون عن التيار الديني الذي يتهمونه بالسعي للوصول الى
السلطة فقط، وما اشبه.
والغريب في (التيار العلماني) او (القوى الديمقراطية) كما يحلو لها
ان تسمي نفسها، انها شكلت ائتلافات غريبة في المعنى والمحتوى، قراها
البعض بنوع من حالات التخبط السياسي، فاحدهم يلبس العمامة وينادي
بالعلمانية، ما ذكرني حاله بالمزحة التي طارت في المجتمع الايراني عن
الحزب الشيوعي الايراني ايام انتصار الثورة الاسلامية في نهاية
سبعينيات القرن الماضي، فعندما التف كل الشعب الايراني حول الامام
الخميني، قائد الثورة، حاول الشيوعيون ركوب موج الشعب وثورته الدينية،
فقال عنهم الناس متندرين، بما ترجمته باللغة العربية (الحزب الشيوعي
السائر على خط الامام الخميني) وهو، الحزب الشيوعي، الذين لا يؤمن باله
او دين فضلا عن امام، فيما التحق آخر، كان الى الامس القريب زعيم حزب
ديني متشدد، بتحالف العلمانيين، وتحديدا البعثيين، بينما يحاول آخر
اعادة تفعيل دور العسكر في السلطة، من خلال استغلال وتوظيف موقعه
الرسمي في المؤسسة الامنية، وهكذا.
ان من الصعب تفسير تشتت العلمانيين، فكرا وصفا، الى هذه الدرجة،
بالرغم من كل هذا الضجيج الذي يحدثوه في وسائل الاعلام، خاصة على مواقع
الانترنيت، ووصفهم انفسهم بالتيار، فيما يعتقد البعض ان السبب في ذلك
يعود الى تهالكهم على السلطة، ومحاولاتهم دخول البرلمان من اية بوابة
ممكنة، بعد ان احسوا بافلاسهم في الشارع العراقي، ولقد ذهب البعض الى
القول بان هذه القوى حكمت على نفسها بالفشل مسبقا في الانتخابات
القادمة، فمن يخفق في تجميع شتاته سيخفق بالتاكيد في تجميع الناس من
حوله واقناعهم بمشروعه (الديمقراطي).
ان كل ذلك يعني اننا اليوم، مرة اخرى، نفتقد، امام الاستحقاقات
الانتخابية الجديدة، الى الكيانات ذات المحتوي الوطني الشامل، طبعا ليس
بمعنى المشروع او الخطاب، ابدا، اذ لا يحق لي ولا لاي احد ان يتهم هذه
الكيانات ويطعن في ولاءاتها، انما المقصود بغياب المحتوى الوطني، هو
تنوع الانتماءات التي كنا نامل ان نجدها في محتويات الكيانات بعدد تنوع
الطيف العراق في كل واحدة منها، ان على الصعيد الديني او المذهبي او
الاثني او حتى على صعيد الاتجاهات الايديولوجية، لنقرا العراق (المتعدد
الاطياف) في هوياتها وتشكيلاتها ومحتوياتها.
واذا كانت هذه القراءة صحيحة، فان بالامكان استنتاج امر في غاية
الاهمية يجب على العراقيين الانتباه اليه، وهو، ان هذا النوع من
الكيانات، في قسمه الاول، اقصد الحزبي احادي الهوية والذي اعتمد الزعيم
الرمز في تركيبته، يمكن ان يعود بالعراق الى حالة (الشخصنة) للعملية
السياسية، الامر الذي اعتبره شخصيا امر في غاية الخطورة، لاننا نعرف
جميعا مدى خطورة (شخصنة) الاشياء في البلد، خاصة كالعراق الذي يحتوي
على كل هذه التعددية والتنوع الواسع، وعلى مختلف الاصعدة.
ان على الناخب العراقي ان يحذر من المساهمة، من حيث يعلم او لا يعلم،
في صناعة ديكتاتوريات جديدة، تعود بالعراق الى المربع الاول، من خلال
المناداة بالقائد الضرورة والرمز الاوحد والحزب القائد، وغيرها من
المسميات التي جرت على العراق الويلات تلو الويلات.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان من الخطورة بمكان ان يسعى احد
لشخصنة الديمقراطية، فالديمقراطية مؤسسة وليست شخصا، ولذلك يجب ان
ينتبه الناخب العراقي الى هذا الامر جيدا، لان شخصنة الديمقراطية يعني
تدميرها والقضاء عليها نهائيا، فالشخصنة والديمقراطية امران متناقضان
لا يمكن ان يجتمعا ابدا، فهما كالخطين المتوازيين يحتفضا بمسافة واحدة
بينهما مهما امتدا، ولقد قال مرة احد الزعماء الاميركيين (ان الرئاسة
الاميركية مؤسسة ديمقراطية اكثر اهمية من الرجال الذين يتولون المنصب)
وبهذا الفهم والوعي يجب ان يتعامل الناخب مع مؤسسات الدولة كلما وقف
امام صندوق الاقتراع ليدلي بصوته.
مما تقدم، يمكن التكهن بنتائج الانتخابات القادمة سلفا، والتي ستكون
على النحو التالي:
اولا: ستبقى الكيانات الحاكمة الان هي نفسها الحاكمة في المرحلة
القادمة مع بعض التغييرات الطفيفة.
ثانيا: ستبقى الاصطفافات المذهبية والاثنية كما هو عليه الحال الان،
مع بعض التغييرات الطفيفة، التي ستتمثل باضافة الهوية المناطقية لها،
كما هو الحال بالنسبة للصحوات مثلا.
ثالثا: ستبقى مبادئ (المحاصصة والتوافق والفيتو) سيئة الصيت على
حالها، ربما مع بعض التغييرات الطفيفة التي لا اعتقد انها ستغني او
تسمن من جوع.
رابعا: سيبقى مجلس النواب العراقي يعمل بطريقته السلحفاتية المعهودة،
وبطريقة (برلمان شيخ العشيرة) يرفع النواب ايديهم اذا رفع الشيخ يده
مصوتا، والعكس هو الصحيح، يمتنعون عن التصويت اذا لم يلحظوا ان يد رئيس
عشيرتهم ارتفعت للتصويت.
خامسا: سوف لن نلحظ تغيرا كبيرا في المنهجية، بالرغم من اننا قد
نشهد تغيرا ملحوظا في الاسماء والوجوه، الا اذا نجح الناخب في حمل
شخصيات قوية بذاتها وليس فقط بكياناتها، قادرة على التغيير، وقبل ذلك
قادرة على التاثير في داخل كيانها، بما يساهم في تغيير العقلية وطريقة
التفكير.
وكل هذا بسبب عدم اعتماد مجلس النواب، في تعديلات قانون الانتخابات،
على نظام القائمة المفتوحة وبشكل حقيقي وبكل معنى الكلمة، وليس كما هو
عليه الحال الان.
اتمنى ان لا يدفع ذلك الناخب العراقي الى العزوف عن المشاركة في
الانتخابات، فان مثل هذا الموقف اخطر بكثير من الواقع المر، وان على
الناخب ان يوازن بين المصالح والمفاسد بشكل دقيق حتى لا يكون هو السبب
في التفريط بالمنجزات والمكتسبات التي حققتها العملية السياسية لحد
الان، وبجهود وتضحيات العراقيين.
ولقد قلت في مقالة سابقة، ان التصويت لاسماء المرشحين حصرا وليس
للقوائم، كفيل بان يقلل من مخاطر قانون الانتخابات الجديد، لنضمن فوز
مرشحين يمتلكون رصيدا شخصيا معقولا، ينبع من ثقة الناخب مباشرة وليس من
القائمة التي رشحته او ينتمي اليها، ما يساعده على ان يكون ذا شخصية
معنوية قوية تحت قبة البرلمان، فلا يكون امعة شعاره (حشر مع الناس
عيد).
طبعا، لا اريد ان احكم هنا على كل الذي حصل لحد الان بالخطا، فان
هناك بعض الاخطاء التي ارتكبتها الكيانات السياسية مضطرة من باب (مكره
اخاك لا بطل) بسبب ان المجتمع العراقي، والعملية السياسية برمتها، لا
زال يعيش مخلفات وآثار العقود وربما القرون الماضية، التي اثرت بشكل
كبير في صياغة الشخصية العراقية بهذه الطريقة، بالاضافة الى مخلفات
سياسات النظام البائد التي من الصعب تجاوزها في ليلة وضحاها، الى جانب
مخلفات سياسات الحاكم المدني الاميركي بريمر، والتي دامت عاما كاملا
بعيد سقوط الصنم، والذي استفاد من مخلفات الحقبة الماضية ليمرر
سياساته، فكرس امراض الماضي، ولم يمرر سياساته التي كانت تدور في ذهنه،
الا اللمم.
[email protected] |