الإسلام وجوهر الحرية المعاصرة

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: عندما نشط الفكر الانساني في مراحله الاولى، بدأ الانسان ينتقل من حالة أدني في العيش الى حالة أفضل، ثم أصبحت اللغة بديلا للاشارات، وانبثق دور التدوين وتم اكتشاف الكتابة لتبدأ البشرية قفزاتها المتسارعة صوب السمو والتنامي المضطرد الى ما هو افضل وأرقى من الحالات التي تهم الانسان على الصعيدين الفكري والعملي، ومنذ ذلك الوقت صعودا الى الراهن المُعاش، يؤكد المصلحون والفلاسفة والفكر الحر على دور الحرية الخلاق في ما انجزه الانسان عبر مسيرته الطويلة والشاقة من مكتسبات كانت لا تخطر على بال أحد إلاّ في ساحة الخيال فقط.

ولعلنا لا نأتي بجديد حين نقول بأن الاسلام -وهو خاتم الاديان السماوية-، إرتكز على نحو كبير ولافت على جوهر الحرية واعتمدها أساسا متينا في مبادئه وتعاليمه واكد على انها السبيل الأصوب والاقرب الى التحضّر والرقي وسلامة الانسان وتطوره وتشذيب نوازعة المغرضة في آن، ولعلنا نضع في مقدمة ما دعى إليه الاسلام وارتكز عليه في طروحاته هو مجال الحرية الجوهرية عبر الآية الكريم التي تعلن على رؤوس الملأ مبدأ: (لا إكراه في الدين).

إن هذه الآية القرآنية الكريمة حين تشخص أمام عيون الانسان (كائنا من كان) فهي لوحدها تعدّ ركيزة عظيمة تدل على ان الدين الاسلامي الحنيف قدم للبشرية جمعاء حلا مركزيا لشؤونها يمكنها اعتماده في معالجة وتذليل مشاكلها الشمولية التي تتعلق بالسياسة والفكر والاقتصاد والطب والعلوم الانسانية كافة، لأن هذه الحلول والمبادئ ركّزت على جوهر الحرية وجعلته أساسا راسخا وهاما لمقومات التطور البشري.

 ولعل في ذلك ميزة للاسلام كما نقرأ هذا في الكتاب القيّم الموسوم بـ (الحرية في الاسلام) لسماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي إذ يقول: (من أصول الإسلام المسلّمة والمؤكّدة مسألة حرية اختيار الدين؛ قال تعالى:" لا إكراه في الدين". بل ليكن معلوماً ـ قبل كلّ شيء ـ أنّ الإسلام وحده هو دين الحرّية. فحتّى المدارس والمبادئ الأخرى التي ظهرت منذ قرون وما زالت ترفع شعار الحرّية لا واقع للحرية فيها سوى الاسم).

ولذلك حين نقول ان الاسلام هو دين الحرية شكلا وجوهرا، فإن الوقائع والافكار والتوجهات تشير الى ذلك بوضوح، ولعلنا نجد في سيّر أنبيائنا وأئمتنا عليهم السلام وكل الافذاذ العظماء من الشخصيات الاسلامية الخالدة نماذج للحرية هي قمة في حضورها ووهجها الفكري الانساني الخلاق، ولعل الاشتراط الأروع والأجمل والأصح في ممارستنا للحرية الشخصية او الفكرية او غيرها، هو شرط عدم إلحاق الضرر بالآخرين او التجاوز على حقوقهم، وهذا هو ما يراه الدين الاسلامي ويؤكد عليه بقوة، حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه نفسه بهذا الصدد:

(يقول الإسلام: اعمل ما تشاء، فلك حرية العمل شريطة أن لا تضرّ غيرك؛ فإنّه «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» والإسلام يضرب بشدّة على يد الظالم ومَن يريد إلحاق الضرر بالآخرين، وبعد ذلك فأنت حرّ في كلّ أمورك، في ذهابك ومجيئك وسفرك وعلاقاتك، فلا ضغط ولا جبر ولا إكراه ولا كبت للحرية في الإسلام).

فما أروعها من سمة وما أجلّه من شرط انساني يتجلى فيه الصواب والمسار الفطري، إذ حتى السجية التي تسوق سرائر الانسان فهي توجهه بهذا الاتجاه الفطري الراكز في أعماقه، بمعنى ان الانسان بفطرته وخصاله الأصيلة يرفض التجاوز والاعتداء والإضرار بالآخرين رفضا قاطعا، وجاءت حرية الاسلام لتؤكد على هذا المبدأ الذي يفتح آفاق الحرية على مصاريعها لكنه يحمي الآخرين من الضرر الذي قد يلحقه بهم المتجاوزون في الفكر او التطبيق، في حين كانت الاديان الاخرى تقتل لمجرد إبداء الرأي كما حدث ذلك في اوربا (القرون الوسطى) حيث نقرأ ذلك في كتاب سماحة المرجع الشيرازي الذي يقول فيه:

(فلنقرأ عن الإسلام، ولنقرأ عن غيره أيضاً ثم نقارن بينهما. ففي القرون الوسطى كان العالِم في الغرب يُقتل لمجرّد إبداء رأيه في قضية ما وإن كانت علمية محضة لا علاقة لها بالدين وتشريعاته!).

لهذا سيبقى التركيز على جوهر الحرية قائما، بمعنى أننا سنظل باحثين عن الحرية ومطالبين بها كونها حجر الزاوية في الفعل الابداعي البشري على وجه العموم وهذا هو ما يدفع اليه الاسلام شريطة أن يحذر المفكر او الفاعل وهو يمارس حريته على ان لا يضر بالآخرين وهو مطلب انساني جوهري وكبير لا غبار عليه ابدا، وهو ما دأب عليه المصلحون والمفكرون والعلماء المسلمون وهم يضعون أفكارهم الجليلة في خدمة المجتمع الانساني عموما.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 21/تشرين الثاني/2009 - 23/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م