جهاد الكلمة

الشيخ فاضل الصّفار

إن من أهم واجبات المواطن المسلم التي تتفرع على فريضة العمل السياسي ومعايشة الناس ودراسة مشاكلهم هو العمل على رفعها ووجدان السبل الكفيلة على حلها.

وأول خطوة يجب على المسلم اتباعها في هذا المجال هي الكلمة الحية الصادقة التي تشير الى مواضع الخطأ، وترشد الى الصواب، والتي يسميها الإسلام إبداء النصح وتقديم النصيحة للمعنيين بالمشكلة أولاً، سواء كان في سلك الدولة أو في سلك الشعب، وهو مايسمى في العصر الحاضر بالنقد السياسي والممارسة السياسية، سواء كان عبر الصحافة والإعلام، أو الكتب والمجلات، أو المدارس والجامعات، وكل مامن شأنه أن يرفع من مستوى الثقافة والوعي عند الجماهير أولاً، ومن مستوى الحكمة والمنطقية والاعتدال عند الدولة ثانياً، وكل هذا يدخل في دائرة الدعوة الواجبة الى الله والإسلام.

قال تعالى: (ادْعُ إلىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ).(1)

وقال رسول الله (صلى الله الله عليه وآله وسلم): ((الدين النصيحة... قالوا لمن يارسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه وأئمة المسلمين والمؤمنين وعامتهم)) ([2]).

فالمواطن المسلم الذي يقصّر في إبداء النصيحة ولايستخدم الكلمة الطيبة وسيلة لتحقيق العدل ورفع مشكلات الناس من بطش الحكومة أو بسبب السلبيه والانطواء والانعزال عن الناس يعتبر في نظر الاسلام آثماً متخلفاً عن واجبه الإنساني والوطني تجاه شعبه ووطنه، ويعد ذنبه كسائر المعاصي التي يرتكبها المفسدون والمضللون.

قال تعالى: (وَاتّقُواْ فِتْنَةً لاّ تُصِيبَنّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصّةً )(3).

أي أن العقوبة والجزاء لاتقع على المفسدين الظالمين وحدهم، بل تعم الأمة كلها حتى الصالحين منها إذا تواكلت وسكتت عن الخطأ والباطل، ولم تغير من واقعها بقول أو عمل، وهل الفتنة إلاّ تراكمات الباطل وضياع الحق وسحق المبادىء الصحيحة والابتعاد عن الدين؟

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((إن الله لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلاّ لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي والحلماء لترك التناهي))([4]).

وقال الإمام الحسين (عليه السلام) : ((اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار؛ إذ يقول: )لو لا ينهاهم الربانيون..) وقال: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل...) وإنما عاب الله ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة مما يحذرون، والله سبحانه يقول: (فلا تخشوا الناس واخشون)(5).

فالإسلام لايقبل من المسلم أن يكون ضعيفاً منهزماً في الحق مهما كان البطش والعذاب الذي يتعرض له جراءه، وهو يقبل للمسلم الهجرة والتشرد في أوطان الغربة بدلاً من الخنوع للباطل والرضوخ للظلم، حيث قال تعالى: (إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِيَ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً)(6). وهذه الآية وحدها تحمل أكثر من معنى عظيم من معاني الممارسة السياسية الحرة:

ـ فهي أولاّ تحث كل مظلوم ومضطهد على مقاومة الظلم والانتصار لحقه ولو بالكلمة.

ـ وهي تذكره بالموت والمصير الحتمي للبشرية{توفاهم الملائكة} ثانياً؛ لتخيره بين أن يقول كلمته ويطالب بحقوقه فيموت عزيز النفس وهو يقاوم الظلم والظالمين لينال درجة الشهداء، أو يتثاقل عن مسؤوليته وواجبه حتى يموت ذليلاً راضيا بالاستكانة والهوان.

ـ وهي تنذر المظلوم الخانع المستكين أيضاً، وتتوعده بأنه سوف يعامل معاملة الظالم الراضي بالظلم فيحشر معه في النار.

ــ وهي تفتح أمام المجاهدين وأصحاب المبادئ الحرة أبواب الهجرة والفرار بعقائدهم من وجه الظالم المتجبر حرصاً على واجبهم وأداء لمسؤوليتهم الدينية، فأرض الله واسعة، والمبادئ الحرة النبيلة لاتحدها أرض ولاوطن، ولاتحبسها قضبان السجان.

وهكذا نرى أن كلمة الحق ـ الكلمة الحرة الناقدة والرأي الصائب السديد ـ تعتبر في نظر الإسلام جهاداً، وفريضة على كل مسلم، ويتعاظم ثواب كلمة الحق هذه كلما كانت مهمتها شاقة وعسيرة، فرسول الحرية الإنسانية يقول (صلى الله الله عليه وآله وسلم): ((أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)) ([7]) والامام الباقر (عليه السلام) يقول ((من مشى الى سلطان جائر فأمره بتقوى الله ووعظه وخوّفه كان له مثل أجر الثقلين الجن والإنس، ومثل أعمالهم)) ([8]).

والمجاهد في سبيل كلمة الحق وإبداء الموقف الصائب كالمجاهد في سبيل الله، وإذا مات في سبيلها فهو شهيد وأجره مثل أجر الشهداء، فرسول الله (صلى الله الله عليه وآله وسلم) يقول: ((سيد الشهداء حمزه بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)) ([9]).

هكذا يحترم الإسلام الكلمة، ويقدس مكانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد بلغ من روعته واهتمامه بممارسة حرية النقد السياسي أن يحذر من انهيار الأُمم وبداية زوالها عندما يحجم علماؤها وأصحاب الرأي والحكمة فيها عن معارضة الحاكم المستبد، أو يعتزلون المجتمع والسياسة، ويقصرون عن قول الحق في وجهه أو إبداء النصيحة له. يقول رسول الله (صلى الله الله عليه وآله وسلم): ((إذا رأيت العلماء تهاب أن تقول للظالم: ياظالم فقد توّدع منهم)) ([10]).

ومن هذا كله نرى أن الإسلام يحثنا مراراً ودائماً على الالتحام بالحياة ومعايشة مشاكل الشعب وآلامه وآماله، وعلى ممارسة كل أنواع العمل السياسي، سواء ظهر هذا العمل والممارسة السياسية بصورة خدمات نقدمها للجماهير أو عطاء وإنتاج يرفع من مستوى الدخل القومي او الفردي للبلد، أو نقد ونصيحة نرجو بها وجه الله ومصالح المسلمين، أو كلمة حقه نقصد منها توعية الشعب وإرشاده إلى سبل العظمة، وغيرها وغيرها من أساليب السياسة والنشاط السياسي، فمثل هذه الأعمال السياسية تعتبر إلزاماً وفريضة على المسلم يجب أن يؤديها حتى لاتكون فتنة في الأرض، ويكون الدين والأمر كله لله.

ومن الواضح أن الإسلام إذا كان يلزم الرعية المسلمة بممارسة السياسة ومزاولة نشاطاتها فمن البديهي والمنطقي أيضاً ان يهيئ لهم حرية ممارستها، ويكفل لهم كافة الضمانات لحرية الرأي وحرية النقد والتوجيه، ويحارب في سبيل ذلك الاستبداد بكل أنواعه.

والسؤال الذي يطرح هنا ويطلب جواباً هو: ماهي السبل الناجحة التي يسلكها الإسلام من أجل طرد الاستبداد والقضاء على كل خيوطه وخطوطه وشبكاته؟ وكيف يضمن لنا حياة سياسية هانئة يسودها العدل والحرية والسلام؟

* فصل من كتاب الحرية السياسية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

................................................

([1]) النحل: 125.

 ([2]) روضة الواعظين: ص424.

 ([3]) الأنفال: 25.

 ([4]) نهج البلاغة: ج2، ص156.

 ([5]) الوسائل: ج16، ص130، ح21960، باب2باب اشتراط الوجوب بالعلم بالمعروف.

 ([6]) النساء: 97.

 ([7]) كشف الخفاء: ج1، ص153.

 ([8]) فقه الصادق: ج13، ص225.

 ([9]) مجمع الزوائد: ج7، ص266.

 ([10]) العهود المحمدية: 406؛ التوفيق الرباني: 6.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 19/تشرين الثاني/2009 - 21/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م