قد يكون مناسبا أن نبدأ الحديث عن أبسط وأسهل الخدمات البلدية، وهي
نظافة مدننا. لقد غدت قذارة شوارعنا وأحيائنا السكنية حديث الناس،
وكلنا يعرف أنها لا تحتاج لكفاءات علمية أو خبراء تقنيون. ولعلنا
متفقون أن ليس البعثيون ولا التكفيريون ولا سوريا ولا قوات التحالف تقف
وراءها أو تشجع عليها. فلم نسمع أبدا، لا من الناطق باسم قيادة الشرطة
والجيش العراقيين، ولا من الدكتور علي الدباغ الناطق الرسمي باسم دولة
رئيس الوزراء، ما يوحي بمسئولية تلك القوى عن تراكم النفايات والقمامة
في كل مكان من بلادنا.
ولو كانت البلاد نظيفة حقا لما أضطررنا للكتابة عنها أبدا، ففي
العراق مشاكل أخرى بالغة الأهمية تستحق الكتابة عنها أيضا. فالنظافة في
البيت والشارع وموقع العمل شرط لازم لتمتعنا بعافية وراحة نفسية، كما
وتعتبر شرطا للحفاظ على بيئة سليمة من الملوثات التي قد تكون قاتلة لو
تركت دون معالجة، فالهواء عندها يكون غير قابل للإستنشاق، وقد يسبب
التسمم وخاصة للأطفال وكبار السن.
نظافة أحياءنا السكنية قام بها عبر عشرات السنين الماضية عمال أميون،
وقد أدوها بكل إخلاص وعلى أتم وجه، ملتزمين بجدول عمل أعدته لهم بلديات
يرأسها موظفون بسطاء قد لا يحملون شهادة عالية، بل ولا حتى شهادة
متوسطة. لقد كان عمال النظافة منذ تأسيس الدولة العراقية معينون على
الملاك الدائم ويتمتعون بحقوقهم التقاعدية كاملة بعد بلوغهم سن التقاعد.
كانوا يقومون بتلك المهنة دون تهاون، وبفضل المراقبين المختصين فإن
وظيفة النظافة تؤدى دون تلكؤ، ولم ينقطعوا حتى أيام الأعياد والمناسبات
الشعبية، وكانت العوائل تحسب لخدمتهم الهامة حسابا خاصا، فتتذكرهم أيام
الأعياد والأفراح وتكافئهم وتعاملهم معاملة حسنة.
مالذي تغير الآن ؟
في ظل مجالس المحافظات المنتخبة شعبيا تغير كل شيئ، وأصبحت نظافة
الشارع في رأي السلطات المحلية آخر ما يفكرون به من التزامات، ولذلك
أسبابه، كما سنشرحه في مقالنا هذا. كما نعرف أن الحكومة المركزية هي من
يخصص الموارد المالية للمحافظة التي تقوم هذه بدورها بانفاقها على
مشاريع الاعمار والخدمات، لكن الذي يحصل الآن أن مجلس المحافظة
والمحافظ يتعامل مع تلك الأموال وكأنها ملكية خاصة. يقوم بناء على ذلك
هو والمقربين منه، للتصرف بها كما يحلو لهم دون جدول ملزم بالأولويات
تحدد فيه الاهداف الاقتصادية والخدمية والاجتماعية، ومما يسهل على هذه
الجهات تصرفهم هو ضعف الرقابة المالية وربما انعدامها تماما. واصبحت
مهمة المحافظ في فترة ولايته مستفيدا من فهمه الخاص لمبادئ النظام
الفيدرالي اتباع كل السبل للالتفاف على النظم المالية والاجراءات
الادارية لصالح تحويل جزء من الأموال المخصصة لاعمار المحافظة لحسابه
الخاص وحساب المتعاونين معه.
ولهذا نلاحظ إن رؤساء مجالس المحافظات والمحافظين يهملون واجباتهم
التي انتخبوا من أجلها، و يوجهون اهتمامهم لتوقيع عقود مع الشركات
الأجنبية من أجل أي شيء.
إن الشركات الأجنبية العابرة للقارات تعرف جيدا كيف تتعامل مع
العناصر الفاسدة في الدول النامية، مستغلة هشاشة شعورهم بالكرامة
الوطنية، واستعدادهم ولهاثهم وراء العمولات مقابل صفقات تجارية ليست
بالضرورة مهمة للمحافظة. تقوم الشركات الاجنبية بإرسال ممثليها
التجاريين لمقابلة المسئولين الكبار ذوي النفوذ في مجلس المحافظة
محملين بالهدايا السخية، عارضين عليهم خلالها ما في جعبتهم من سلع
وخدمات. كأن تكون مشاريع ترفيهية مثل : حدائق وبحيرات صناعية، مدن
العاب، ملاعب رياضية، فنادق خمسة نجوم وأعلى، سيارات خاصة مقاومة
للرصاص والمتفجرات، أسلحة ومعدات عسكرية، مشاريع بناء إدارية وسكنية
وأسواقا مركزية وغيرها، ولا يشترط أن تكون كلها مشاريع حقيقية، بل
ووهمية أيضا.
وترتفع نسب العمولة طرديا مع رداءة السلعة وموديلها وتاريخ صنعها،
فتكون عالية في عقود السلع التي لم تلاقي رواجا في السوق العالمية.
ولأن العقود الموقعة بين الجانبين لا تتم وفق السياقات المعتادة،
المناقصات والمنافسة، بل عبر تفاهم وجها لوجه، حيث يتفق على
أسعارخيالية في صالح المورد، وعمولة لا يحلم بها المتعاقد العراقي،
إضافة إلى أن العقود الموقعة تكون مغايرة لتلك السارية في الدول
المتقدمة فيما يتعلق بتوفير قطع الغيار وخدمات الصيانة ومواصفات محددة
للسلامة وغير ذلك.
وكأمثلة على ما نقول، أعلنت وزارة التربية والتعليم باستيراد عشرات
الآلاف من السيارات الحديثة لبيعها للمعلمين التابعين لها، والوزير
يعلم أن التلاميذ في العراق محرومون من الكتب وأقلام الكتابة، و17%
منهم تركوا مقاعد التعليم لفقرهم،وأن آلآلاف من قاعات الدرس بدون نوافذ
أو أبواب في مدارس بدون مرافق صحية صالحة، وبدون مياه صالحة للشرب.
إن مثال وزير التعليم ليس الوحيد، فقد حذا حذوه محافظا الديوانية
والحلة في استيراد الآلاف من السيارات، في وقت يسكن الآلاف من العوائل
في الخرائب وبيوت الصفيح. وليس غريبا أن نسمع منذ سبعة سنوات عن عقود
بناء ملايين الوحدات السكنية، ونصب محطات طاقة، ومشاريع صرف صحي،
واجهزة ألكترونية وكامرات مراقبة، وعدادات اوتوماتيكية لقياس كميات
النفط المصدر، و الكثير من المشاريع الأخرى، لكن لحد الأن لم يعلن عن
إنجاز واحد منها.
إن جماهير الشعب أصبحت مدركة تماما لماذا تتردي مرافق الحياة
والخدمات البلدية الأساسية في أغلب مدننا، ولماذا لم تعد تنفع معها
الشكاوي والاحتجاجات، وبدأ الناس ينظرون الى دولة رئيس الوزراء
باعتباره المسئول الأول والأخير عنها. فنظافة المدينة مرآة للحكومة،
تجسم كل تفاصيل مسئولياتها الوظيفية والأخلاقية، وهي تتحمل المسئولية
عن الخلل الفظيع في خدمات إمدادات الطاقة الكهربائية وشحة وتلوث الماء
الصالح للشرب، والتلوث البيئي، ولم يعد المجتمع يتقبل التبريرات
الواهية عن ذلك التقصير الواضح.
ظاهرة تحميل رئيس الحكومة المسئولية عن الاهمال الحاصل في الخدمات
البلدية ليست غريبة وليست مبتكرة من قبل مجتمعنا العراقي، فهي ظاهرة
أوربية وأمريكية بامتياز، فلو حدث وأن تكدست القمامة لأي سبب في أي
مدينة أوربية أو أمريكية، ولم يعالجها الوزير المعني بمهنية وحرص، فما
عليه إلا أن يذهب غير مأسوف عليه، وعندها حتى رئيس الوزراء يلام بشدة
إن لم يعاقب وزيره في الوقت المناسب.
قد يختلف الوضع قليلا في بغداد، لكن قذارة شوارع البصرة وأحياءها
كما في مدننا الأخرى لم تعد تطاق. فالمواطن البصري يرى أكوام القمامة
في كل مكان، في كل منعطف وشارع، وعلى الأرصفة، حيث تترنح حولها الكلاب
السائبة والقطط الجائعة والحشرات والقوارض، بل وتوجد أكوام القمامة حتى
على بعد أمتار من مقر بناية المحافظة. ولا شك بأن المحافظ وأعضاء مجلسه
يمرون من أمام تلال القمامة تلك عدة مرات في اليوم، أي عشرات المرات في
الشهر، وربما آلاف المرات في الأربع سنوات القادمة، دون أن تزعجهم
رؤيتها ورائحتها. |