لا ينبغي، تحت أي مبرر منهجي أو مسوّغ تاريخي، عزل الظاهرة الحزبية
وتمظهراتها في العراق عن السياقات الحضارية والاجتماعية التي رافقت
تشكيل وتطوير النظم السياسية في الشرق الأوسط عموما ومنطقتنا العربية
خصوصا، في ظل دول عديدة عانت، على صعيد حكمها قبل استقلالها، من
تداعيات واضطرابات انتهت إليها بعد خروجها من قمقم سيطرة الإمبراطورية
العثمانية إلى الاحتلال الاستعماري العسكري أو الانتدابي على يد
بريطانيا وفرنسا التي تقاسمتا هذه الدول الناشئة كما تتقاسم الذئاب
فريسة حوصرت في مخدعها.
ونتيجة لهذه الحقيقة التاريخية المستندة إلى قراءة استقرائية واقعية
نزعم حياديتها وموضوعيتها، فان الأحزاب العراقية من حيث تشكيلها
التنظيمي وتاريخها الحركي وأدبياتها التنظيرية ونمطيتها السلوكية لا
يمكن أن تخرج عن خط مسار التمظهر الحزبي في العالم العربي والأجواء
السياسية التي تكتنفها والفضاء الاجتماعي التي نشأت فيها والبنية
الانتلجنسية للمفكرين والسياسيين الذين انشئوا هذه الأحزاب والتيارات
في هذا العالم المنقوع من رأسه حتى قدمه بدكتاتوريات حاكمة بأمر شهوة
امتلاكها وسيطرتها على كرسي الحكم!.
ومن الطبيعي أننا عندما نحاول استنطاق وقراءة الظاهرة الحزبية في
العراق فإننا نركز بوصلتنا على مرحلة ما بعد عام 2003 الذي اُسقط فيه
النظام البعثي الذي حكم العراق عقودا ثلاثة أوصلتنا إلى ما نحن عليه من
تخلف حضاري وتقهقر تكنولوجي وارتداد معرفي فضلا عن انحطاط جسيم في
البنية الاجتماعية والأخلاقية.
ومما لاشك فيه أن لرغبتنا ومحاولتنا أرضية تبررها وتعطيها سندا قويا
متجسدا في أن العراق لم يشهد قبل عام 2003 هذا الكم الهائل من أعداد
الأحزاب والتيارات التي أصبح عددها كثيرا لدرجة أن الواحد منا يصعب
عليه أن يقترح اسما جديدا لحزب دون أن يجد حينها أن هذا الاسم قد سُجّل
باسم شخص أخر ومن غير الممكن أن يكون هنالك اسم واحد لحزبين مختلفين!.
وبعيدا عن التفسيرات والتأويلات التي يمكن أن يطرحها المنظرون أو
يأتي بها الباحثون أو يستنتجها السياسيون في هذا المجال حول الأسباب
التي تقف وراء هذا الغزو " الحزبي " أن صح التعبير للمجتمع والفضاء
السياسي العراقي، نجد أن الدولة التي يحكمها نظام الحزب الواحد، والتي
ظهرت الموجة الأولى منها للوجود السياسي بعد الحرب العالمية الأولى
أبتداءاً بالثورة البلشفية عام 1917 في السوفيت ومرورا بالمانيا
النازية وايطاليا الفاشية، هذه الدولة تنزع نحو التشظي والتكاثر
والتعدد الحزبي أذا ما سقط نظام حزبها الواحد وتداعت أركانه وتفككت
بنيانه على يد قوى تؤمن الديمقراطية والتعددية الحزبية وحرية الكلام
والتعبير والتجمعات التي تعد أساسا وجوهرا لتشكيل أي تيار أو تجمع أو
حزب معين.
وهذا التعليل يعكس، في درجة كبيرة منه، حقيقة ما يجري في العراق من
ظهور أحزاب وتيارات نتفاجئ بها كل يوم في وسائل الإعلام مصرحة باسمها
ومبادئها وأهدافها التي غالبا ما تكون مجرد كليشهات وشعارات قرف منها
المواطن العراقي وسأم من تكرارها الفج على لسان الكثير من الأحزاب
والتيارات المبدعة، لحد الامتياز،في صياغة ديباجات البيان التأسيسي لها
في مؤتمرات يُصرف عليها ملايين لو وضعت في مجالات خدمية أخرى لكان أفضل
آلاف المرات بالنسبة للمواطن العراقي الذي يحتاج بشدة الى مثل هكذا
مشاريع خدمية وتنموية في الفترة التي أعقبت التحسن الأمني في العراق.
وقد تعرضت سمعة الأحزاب السياسية في العراق سواء كانت دينية التوجه
أم علمانية المسار أم قومية الأفكار، إلى النقد الشديد، وفي بعضه كان
تهكما واستهزاءا، من قبل المواطن العراقي المثقلة ذاكرته بإرث شائن سيء
السمعة عن سلوكيات أعضاء حزب البعث وكانت هنالك أسباب عديدة لهذا
الموقف ربما يعتبر أهمها هو سلوك بعض الأحزاب واستئثارها بالسلطة
وبمواقع القرار التي تسنمتها بموجب سياسية المحاصصة الطائفية والحزبية
التي وسمت المرحلة الحالية التي يمر بها العراق.
ولهذا لا نجد حرجا ولا غضاضة في القول بان المواطن العراقي قد بدأ
بإعادة النظر في خياراته الانتخابية والمعايير التي تحكم من سوف يمثله
في البرلمان العراقي كما بدا ذلك واضحا في انتخابات مجالس المحافظات
التي جرت في كانون الثاني المنصرم والتي أفضت إلى نتائج استُبعدت من
خلالها الكثير من الأحزاب والتيارات التي كانت في صدارة السلطة الحاكمة
في تلك المحافظات لصالح أسماء وشخصيات وعناوين رأى فيها المواطن أنها
سوف تلبي طموحاته وأهدافه المرجوة.
وقد ظهرت مصاديق ما أشرت أليه أعلاه بصورة جلية في انحسار نفوذ
الأحزاب الدينية التقليدية كالمجلس الأعلى والتيار الصدري، في محافظات
الجنوب والوسط، أمام قائمة ائتلاف دولة القانون التي حققت نجاحات هائلة
في هذه المحافظات، مما أعطى دفعا جديدا وزحما كبيرا للتوجهات ال " انتي
حزبية " من ناحية فضلا عن ظهور نزعة جديدة تدفع المواطن للتصويت نحو
أسماء وليس قوائم معينة مغلقة لا يتضح من فيها من أسماء أو عناوين
سياسية وهو التوجه الذي دفع الكتل السياسية في البرلمان العراقي الى
تبني القائمة المفتوحة في الانتخابات القادمة.
وعلى الرغم من ذلك، فان هذه المرحلة التي حكمت العراق فيها أحزاب
متعددة وشغل مرشحيها، والذي هم قيادات نافذة في نفس هذه الأحزاب، كراسي
الوزارات والمؤسسات الرسمية، هذه المرحلة من مسيرة الحياة السياسية
للعراق كانت، من وجهة نظري الشخصية، حالة طبيعية لدولة خرجت من أتون
حكم نظام حزب واحد اختزل لصالحه كل شيء في البلد.إذ لم يكن ممكنا، مهما
تفاؤل دعاة الديمقراطية، أن يتحول بلد كالعراق عاش عشرات السنين تحت
حكم سلطوي الى بلد ديمقراطي من دون المرور بمرحلة انتقالية تقتضيها
سياقات تحولات الأنساق الاجتماعية والسياسية لدول ما تمر بمرحلة
تاريخية معينة من عمرها الحضاري.
في ضوء هذا كله يمكن لنا أن نضع سمات معينة امتازت بها اغلب الأحزاب
والتيارات والتجمعات السياسية في العراق بعد 2003، وهي يمكن أجمالها
بما يلي:
1. تعدد هذه الأحزاب والتيارات وكثرتها المفرطة.
2. عدم إيمان الشارع العراقي بها وفقدانها القاعدة الشعبية.
3. ارتباط بعض منها بدول خارجية تمنح صاحبها التمويل.
4. عدم وجود قانون لتنظيم شكل وعمل هذه الأحزاب.
5. تشابه برامجها وأنظمتها الداخلية واختلافها العديد منها في
الأسماء فقط.
6.انشقاقاتها الداخلية وتوالد أحزاب وتجمعات جديدة من ذاتها.
7.إخفاق اغلبها في الأهداف والغايات التي طرحتها في أجندتها.
8.وهمية الوجود الحقيقي للعديد منها، حيث ترى اسم لحزب أو تيار ولا
يوجد فيه إلا أسم مؤسسه!
* رئيس مشروع وزارة السلام العالمي في العراق
alsemawee@gmail.com |