المواءمة بين الفطرة والسلوك وصنع الشخصية المتوازنة

قبسات من فكر الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: يتفق العلماء من المعنيين والباحثين في النفس البشرية على ان الانسان يتمتع بخصال أصيلة غير مكتسبة يحملها معه منذ النشأة الاولى، ثم يكتسب عبر مسيرته في الحياة خصالا أخرى قد تكون متوائمة مع خصاله الاصيلة او تتضاد معها، وكلما كان التقارب حاصلا بين الاثنين (الأصيل والمكتسَب) كلما كانت شخصيته اكثر توازنا وحيوية واستقرارا، وكلما كانت متضادة ستتولد عنها الشخصية المأزومة المنفصمة.

وطالما ان الانسان هو النواة الصغرى لتكوين المجتمع العالمي، فإن طبيعة شخصيته هي التي ستحدد طبيعة شخصية المجتمع العالمي، بمعنى أن شخصية الانسان الفرد اذا كانت متوازنة وناشطة وعملية سينعكس ذلك على طبيعة المجتمع عموما، بيد أن ثمة تساؤلا يلوح في الأفق مؤدّاه: من الذي يسهم بتشكيل طبيعة النفس البشرية؟ واذا كنا قد ذكرنا دور المتوارَث وأهميته في هذا الباب، فإن دور المكتسَب عبر الاحتكاك والتجربة والتعليم ربما يكون أكثر أهمية في هذا المجال.

بكلمة أخرى أن ما يتلقاه الانسان من افكار وتعاليم  سوف يتدخل بصورة كبيرة في صنع استقرارية الشخصية او تذبذبها، وهنا تكمن الخشية من الافكار التي تتحكم بطبيعة الانسان في حالة كونها غير ملائمة لهذا الدور الهام ، ولكن ما هو مقياس الملائم من غيره، وهل هناك معايير اجتماعية ثابتة يمكن اتباعها بهذا الخصوص؟، هنا يقول الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) بكتابه القيّم الموسوم بـ (الصياغة الجديدة):

(من الضروري: أولاً: أن نعرف طبيعة الإنسان.

وثانياً: أن نعرف ماذا يلائم طبيعته، وماذا ينافرها؟

وثالثاً: أن ننظر هل الاجتماع مكوّن من الملائم أو المنافر؟ فليس من الصحيح أن نقول: يجب اتباع الأكثرية، كما أنه ليس من الصحيح أن نقول: يجب الحياد بعدم الاتباع والمخالفة، كما أنه ليس من الصحيح أن نقول: يجب المخالفة، فإن كل شيء في موضعه حسن، فإذا كانت الأكثرية مستقيمة يجب اتباعها، وإن كانت منحرفة يجب مخالفتها، وإن لم تكن مستقيمة ولا منحرفة، وإنما بين ذلك سبيلا، فالواجب اتباع الصحيح ومخالفة المنحرف).

إذن فالأكثرية قد لا تشكل معيارا لصحة السلوك من عدمه، بل على الانسان ان يتوخى الدقة في هذا الجانب، على اننا يجب أن نضع في حساباتنا الميول الفطرية للطبيعة البشرية، فمن غير المعقول الغاءها تماما واعتماد معايير الاكتساب بصورة كلية، وهنا يحذر الامام الشيرازي من هذا التوجه الذي اتبعه بعض العلماء حين قال:

(فكما أن فطرة الحيوانات تختلف عن فطرة الأشجار.. وكما أن فطرة الأشجار تختلف بعضها عن بعض، فكذلك للإنسان فطرة خاصة، بينما نرى الآن في العالم جماعة من المفكرين والسياسيين وهم يظنون أن الإنسان صفحة بيضاء يمكن أن ينقش فيها أي نقش، ولذا يتهافتون على قضايا غسل المخ وعلى مسائل الدعاية والتبليغ كيفما شاءوا).

فلا يجوز وضع الحسابات في بناء النفس والمجتمع بمعزل عمّا تنطوي عليه الفطرة الانسانية من توجهات، لأن النتائج ستقود الى انتاج شخصية غير متوازنة (مغتربة) لا تجد تقاربا لا مع ذاتها ولا مع المحيط الذي تنشط او تنتمي إليه، وهو ما حدث فعلا في المجتمع الغربي (الرأسمالي) والمجتمع (الشيوعي) حيث يشير الامام الشيرازي الى هذه النقطة في كتابه نفسه قائلا: 

(ترى في البلاد الغربية ان كل الأجهزة منصبّة على توجيه الناس الوجهة الرأسمالية، وفي البلاد الشرقية ترى كل الأجهزة منصبّة على توجيه الناس الوجهة الشيوعية، وفي بعض البلدان التوجيه إلى الوجهة القومية أو ما أشبه، وذلك يسبب انفصاماً في الشخصية، فمن ناحية للإنسان نداء ضمير وصياح فطرة، ومن ناحية يعمل الإعلام على خلاف ذلك، فهؤلاء الساسة والمفكرون ـ الذين يرون أن الإنسان صفحة بيضاء يمكن أن ينقش فيها أي نقش أو أرض خالية يمكن أن يزرع فيها أي زرع ـ من هذا المنطلق يأخذون بزمام الإنسان مرة ذات اليمين ومـــرة ذات الشمال، مما يسبب الانفصام في الشخصية العالمية، فصار الإنسان أجنبياً عن نفسه).

وهكذا تتسبب حالة الاغتراب عن الذات من خلال فقدان الموائمة بين الفطرة والافكار التي تُفرض على الانسان سواء من لدن الساسة او العلماء او غيرهم لتصب في اهداف مخطط لها سلفا، وهي بمجملها لا تعتمد المصلحة الفردية بل غالبا ما يتحكم بها المنهج البراغماتي المنفعي، الذي يهمل مصالح الفرد ويقصي انسانيته في حين يلهث وراء منافعه المادية البحتة.

لهذا يؤكد الامام الشيرازي (رحمه الله) على أهمية أن يضع المعنيون حسابا هامّا لفطرة الانسان، فهو ليس صفحة بيضاء كما ذهب الى ذلك بعضهم، ومن خلال الموازنة بين النقائض واقصاء الفعل او الفكر المنحرف سنصل الى بناء الشخصية الفردية المتوازنة التي ستقود بدورها الى صنع مجتمع انساني متوازن ومستقر ومتطور في آن.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 15/تشرين الثاني/2009 - 17/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م