ملامح السياسة الإسلامية

الشيخ فاضل الصّفار

إن السياسة في معناها العلمي هي فن حكم الجماعة([1])

 

والحكم هنا لايعني مجرد الرئاسة ولا التشريف، وإنما يعني أساساً الإدارة، أي الخدمات والإنتاج، وهو يعني معرفة مطالب الجماهير والعمل على تحقيقها وحل المشاكل، والجماعة المقصودة تبدأ من الجماعة الأُولى، أي الأُسرة.

فالسياسة تعني: رعاية الأب لأُسرته وصاحب العمل لعماله والزعيم لحزبه ورئيس الدولة لشعبه وهكذا صعوداً ونزولاً.

وبرغم أن هذا هو آخر تعريف علمي للسياسة توصل إليه خبراء هذا العلم في القرن العشرين فإن الإسلام قد نص عليه وحدده قبلهم بأربعة عشر قرناً من الزمان، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ((ألا كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع عليهم وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) ([2]).

فالسياسة في الإسلام تعني إدارة شؤون الدولة والشعب ورعايتها، وعلى حد تعبير بعض الفقهاء والمراجع المعاصرين في تعريفه للسياسة هي إدارة البلاد والعباد([3]). وقد سبق الإسلام كل ماعرفه التأريخ من نظم الحكم في تحديد مسؤولية الحاكم ووظيفته واعتباره مسؤولاً عن تصرفاته أمام الشعب الذي اختاره، وأمام الله سبحانه الذي يلزمه بقانونه الشرعي، ويراقب أعماله والتزاماته. هذا هو المعنى الحقيقي لكلمة السياسة،فهي الادارة الصحيحة والنظام المتوازن الذي تشكل جوهره مجموعة مبادئ وقيم سليمة تتساوى فيها العلاقات، وتتكافأ فيها الفرص والمنافع المتبادلة بين الجميع عبر خدمات وإنتاج، وأخذ وعطاء، وحقوق وواجبات بلا تعد أو تطرف أو تفريط.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ((حسن السياسة قوام الرعية)) ([4]) و: ((حسن التدبير وتجنّب التبذير من حسن السياسة)) ([5]) و: ((ملاك السياسة العدل)) ([6]).

ويعتبر الإسلام العدل وتوازن التدبير من الواجبات الشرعية والعقلية التي يتقوم بها نظام الحياة؛ ولهذا ورد عنهم (عليهم السلام): ((دولة العادل من الواجبات)) ([7]) و: ((العدل قوام الرعية، والشريعة صلاح البرية)) ([8]).

بل إن العمل السياسي الصالح خير عند الله ثواباً ومنزلة من مزيد العبادات المندوبة، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ((عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة قيام ليلها وصيام نهارها)) ([9]).

فالإسلام يختلف عن غيره من الأديان في أنه للدين والدنيا معاً، ولم يدع مجالاً من مجالات الحياة إلاّ وجعل له نظاماً، وهو الدين الوحيد الذي أقام دولة وحكومة مثالية، وأتى بنظام متزن وعادل للرياسة والحكم، بل إن الله سبحانه يأمر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)أمراً بأن يقيم نظاماً للحكم مبيناً على القرآن، فيقول تعالى:

(إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللّهُ) (10).

ويأمر سائر الناس بإقامة دولتهم وكيانهم على أسس الدين القويم والشريعة الصالحة، ويجعل من إقامة الدين طريقاً لكسب السعادة (أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ) (11).

والإسلام بعد هذا هو الدين الوحيد الذي يجعل العمل الدنيوي الصالح في منزلة العبادة والتقرب الى الله، وأغلب أوامر الإسلام لاتفصل بين القيادة والعبادة، وبين خدمة الجماهير وإقامة الصلاة، وبين العمل الدنيوي والعمل الديني، فالله تعالى يقول: (الّذِينَ إِنْ مّكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَـاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الاُمُورِ)(12).

فالله تعالى يربط بين الصلاة التي هي فريضة عبادية وبين الزكاة التي هي فريضة اقتصادية وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي هي ممارسة سياسية اجتماعية.

وهكذا نرى القرآن الكريم كلما ذكر العبادة ربطها بالعمل الدنيوي وخدمة الناس وكل عمل يؤديه الحاكم المسلم أو المسؤول أو الموظف يقدم فيه خدمة لشعبه وأبناء جلدته ـ أي سياسة ـ يعتبره عبادة.

فالعدل بين الرعية ورفع الظلم عنهم عبادة في نظر الإسلام، وبناء المساكن لهم وفتح المدارس وإصلاح الطرق وإنشاء المصانع وتشغيل العاطلين يعتبر عبادة في نظر الإسلام، وكذلك إزاحة حجر أو شوكة أو عظم عن طريق الناس، وإيصال المعاش والرزق إلى الأرملة والعاجز والمسكين، وتأسيس الأحزاب والمؤسسات والنقابات لتثقيف الشعب وتوعيته، ونشر الصحف والمجلات وكل وسائل الإعلام الأخرى.

كل هذه الأمور التي هي من عمل أجهزة الحكم المتخصصة والتي تدخل في ضمن قاموس الخدمة والعطاء السياسي تعتبر في نظر الإسلام عبادة وتقرباً الى الله وعملاً صالحاً يثاب عليه في الدنيا والآخرة إذا قصد فيه وجه الله سبحانه وخدمة الناس.

وإذا حدث تقصير من المسؤولين عن هذا العمل فعلى الرعية المسلمة نصحهم وتوجيههم وتنبيههم الى أخطائهم، وهذا هو مايسمى في دين الإسلام بالنصيحة، ولعله يسمى في عصرنا بالنقد السياسي وحرية الرأي، وقد بلغ من حرص الإسلام على إيصال الخدمات والإنتاج الى الناس ـ أي العمل السياسي ـ أن جعل المقصرين في ذلك كالمكذب بدين الإسلام من أساسه، فالله تعالى يقول: (أَرَأَيْتَ الّذِي يُكَذّبُ بِالدّينِ* فَذَلِكَ الّذِي يَدُعّ الْيَتِيمَ* وَلاَ يَحُضّ عَلَىَ طَعَامِ الْمِسْكِينِ)(13).

ومعنى الآيات إن ترك أحد أفراد المجتمع الاسلامي جائعاً بلا عمل أو كفالة اجتماعية أو يتيما بلا مأوى ـ الى آخر ذلك من خدمات الدولة والتزاماتها ـ هو تكذيب عملي بالدين وإن لم يكذبه اعتقاديا؛ وذلك لأن المفروض من الملتزم بالدين أن يعمل بكل جوانبه الشخصية والاجتماعية، فيهتم بأمور إخوانه كما يهتم بنفسه وأموره، وهو مسؤول عنهم كما يسأل عن نفسه ((كل امرىء مسؤول عما ملكت يمينه وعياله)) ([14]).

ومن الامثلة الحية التي تربط بين الدين والسياسة وبين شعور الحاكم بالمسؤولية عن كل عمل سياسي هو تلك الكلمة التي جاءت على لسان أمير المؤمنين (عليه السلام)أيضاً في بعض توجيهاته لموظفيه الحكوميين: ((اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم)) ([15]).

وهكذا من الصعب بل أحياناً من المستحيل الفصل بين السياسة والدين في الإسلام، بل هما جوهر واحد وحقيقة واحدة نسميها تارة دين إذا قصدنا العبادة منه وسياسة إذا قصدنا الإدارة والمنهج والنظام منه.

وكل مواطن مسلم سواء كان حاكماً للدولة أو عضواً في حزب أو ناخباً يدلي بصوته أو مهندساً في مصنع أو طبيباً في مستشفى أو ناقداً صحفياً أو سياسياً فهو سياسي من جهة، ومتعبد بفرائضه والتزاماته الدينية من جهة أخرى.

وكل فرد في الأمة عليه واجبه أمام الله سبحانه من موقع عمله في إبداء الخدمة والعطاء والإنتاج لشعبه ودولته، وفي المراقبة والنقد والنصح والتوجيه والمساهمة في التثقيف والبناء والدفاع وغيرها من الأعمال التي توضع في قائمة العمل السياسي والنقد السياسي هي في الواقع عبادة، ومن صميم الدين الإسلامي الذي يرفض المبدأ القائل: ((أعط مالقيصر لقيصر ومالله لله)) ([16]) بل يعلن (قُلْ إِنّ الأمْرَ كُلّهُ للّهِ)(17).

دعوى باطلة

ومن هنا نفهم أن الدعوى الخاطئة القائمة في العالم الإسلامي اليوم للفصل بين الدين والدولة والإسلام والحياة السياسية والتي تغرر بها بعض أبناء المسلمين ما هي إلاّ دعوى مغرضة تقف وراءها حملات التبشير المسيحية بأهداف يهودية، وأطماع استعمارية قديمة تهدف إلى إبعاد إلاسلام والمسلمين عن مسرح العمل السياسي لتتسنى لهم الفرص الكافية لاستعبادهم ونهب ثرواتهم الغنية، حيث إنهم خطوا عدة خطوات في سبيل تكريس هذا المفهوم السلبي الخاطئ عن السياسة والعمل السياسي؛ إذ قاموا:

1ـ بتفسير السياسة تفسيراً منحطاً وخاطئاً يصورها مجموعة من الرذائل الخلقية والممارسات اللاإنسانية المليئة بالدجل والنفاق، والبعيدة عن القيم والمبادئ الحقة، ونشروا هذا التفسير بين المسلمين لكي يرفضه أصحاب الضمائر الحية والثقافة الحرة والمبادئ السامية فيتركوا هذا المجال المشوه في نظرهم، وينسحبوا عن الساحة ليخلو الجو لأصحاب المطامع والأهواء الذين لاتهمهم مبادئ الشعب ولاكرامته أو مصلحته فيتسلقوا الحكم في جنح الليل بواسطة الدبابات والمدافع والانقلابات العسكرية، أو بالثورات البيضاء!! والمخططات التآمرية التي ترسمها الدول الاستعمارية في الخارج، وتنفذ في داخل بلادنا بدعم وتأييد مباشر منها. هذه الظاهرة السيئة التي نشاهدها ونعايشها في بلادنا كل يوم.

2ـ إيجاد الانطباع السيء عن العمل السياسي كردة فعل مباشرة ناشئة من الممارسات الخاطئة والتطبيق السيء للقانون والدين معاً من قبل الحكام الذين يتصدرون سلطات البلد؛ إذ لا يجيدون إلاّ فن القتل والتعذيب والتجهيل وكل الأساليب القمعية الديكتاتورية البعيدة عن الأخلاق والإنسانية وعلى طول الخط، ولايعرفون إلاّ لغة العنف والنهب ومصادرة الحريات والكرامات وسحق الحقوق بأساليب تضليلية وملتوية رخيصة وتكرار هذه التجارب الفاشلة؛ إذ كل حكومة تعقب أخواتها تمارس نفس الأساليب، وتتبع نفس السياسة، الأمر الذي ولد ردة فعل عنيفة في نفوس الصالحين والأكفاء من أبناء الشعب ضد السياسة والسياسيين وجعلهم ينزوون عن المسرح بعيداً عن الأحداث متصورين أن السياسة تعني الغش والخداع، وهي لاتليق إلا بباعة الضمائر وتجار الشعوب.

3ـ المحاربة المستمرة والمتواصلة لعلماء الإسلام بالتصفيات الجسدية أو الإعلامية التشويهية والقضاء على نفوذهم في أوساط الجماهير وعزلهم عن الساحة وإبعادهم عن الحكم والوصول إلى السلطة دائماً. كل ذلك زرع في أذهان الناس ثقافة سلبية عن الإسلام ومبادئه تحصر مهمات رجال الدين والفقه والشريعة في أُمور الدين والمسائل والأحكام الشرعية الخاصة، وتعطي الآخرين الذين لايمتون إلى الدين بصلة جانب القيادة والحكم والسلطات العامة، والذي ساعد على ذلك هو غياب الوعي وانعدام الثقافة الدينية الحية لدى المسلمين، وكان هذا أكبر عامل ساهم مساهمة فعالة في انهيار المسلمين وانهزامهم في المعركة، حيث انحسرت مبادئ الإسلام الصالحة في الطهارة والصلاة وأمثالها من الأعمال المهمة، وبقيت الجوانب المهمة الأُخرى بعيدة عن الحياة.

فريضة العمل السياسي

أكّد بعض فقهاء الإسلام ان لم يكن أكثرهم على العمل السياسي وممارسة السياسة، واعتبروها من أهم الواجبات الشرعية الإلزامية على المسلم، وخاصة العلماء أنفسهم؛ إذ صرحوا بوجوب إقامة الحكم الإلهي الشرعي وتولي الفقهاء العدول زمام الحكومة وأمر الناس تطبيقاً للعدالة الإسلامية والانسانية، وإلغاء للظلم والجور والفساد الناشىء من المبادىء الوضعية والحكام الظلمة، وفي هذا الصدد قال المرجع الديني الأعلى السيد الشيرازي (قدس سره) في الفقه السياسة:

فالواجب الشرعي على العالم الديني كوجوب الصلاة والصيام أن يهتم لإبعاد الحكام الظلمة عن الساحة الإسلامية ليمسك زمام الأمة العلماء الراشدون، فيسيرون بالأمة كما أراد الله سبحانه.

ثم علق سماحته بقوله: وهذا مافعله العلماء في هذا القرن الأخير ـ مع الغض عن القرون السابقة ـ أمثال السيد المجاهد والميرزا الكبير الشيرازي والآخوند صاحب الكفاية والميرزا الثاني وغيرهم، فإن في ترك الأمر كله بيد الحكام الظلمة هدماً للإسلام كله، وإحياءً للكفر والفسق كله.

قال الامام علي (عليه السلام): ((لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وماأخذ الله على العلماء أن لايقاروا على كظة ظالم ولاسغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها))([18]).

وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ((إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه، وإلاّ فعليه لعنة الله)) ([19]).

وفي هذا الصدد يذكر مسألة أخرى يوجب فيها على كل مسلم الاضطلاع بالسياسة ومداخلاتها صيانة لكرامة الإسلام والمسلمين فيقول: مسألة: يجب اضطلاع العالم الديني بالعلم السياسي، بل ذلك وظيفة كل متدين على نحو الوجوب الكفائي؛ وذلك لأنه يتوقف عليه إدارة أُمور المسلمين، بل إنقاذ المستضعفين من براثن المستكبرين ونشر الإسلام وهداية الناس من الظلمات إلى النورــ اللذان هما واجبان أيضاًــ قال سبحانه: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ)(20).

وقال تبارك وتعالى: (ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(21)، إلى غيرها من الأدلة الأربعة الدالة نصاً أو بالمناط على الإنقاذ والهداية([22]).

وقد لخص لنا الإسلام جميع الممارسات السياسية الإيجابية والوظائف الاجتماعية الهادفة التي يجب على المسلم أن يؤديها في المجتمع بكلمة((المعروف)) حيث أمر به، كما اختصر جميع السياسات السلبية والمواقف الهدامة والأعمال التي تتنافى مع إنسانية الإنسان ووجدانه الحر النزيه بعبارة واحدة سماها((المنكر)) حيث نهى عنه، فقال تعالى في القرآن الكريم: (وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(23)، والمعروف: كل أمر حسن ((خير)) عقلاً وشرعاً.

والمنكر: كل أمر قبيح ((شر)) عقلاً وشرعاً.

فيكون الأمر بالمعروف عبارة عن الحمل على الطاعة قولاً أو فعلاً، والنهي عن المنكر عبارة عن المنع من فعل المعاصي قولاً أو فعلاً([24]).

ومن الواضح أن كل خير يسديه الإنسان لإخوانه يعتبر في نظر الشريعة طاعة لله سبحانه، بل كل خدمة يقدمها لذي روح إنساناً كان أو حيواناً تسجل في قائمة أعماله طاعة من الطاعات التي تقربه عند الله، ويحصل في مقابلها على الثواب، وبعكسه يكون المنكر والمعصية، وبهذا لا يبقى مجال لأحد في أن يدعي أن المقصود ((بالمعروف والمنكر)) في الإسلام هو مراقبة أعمال الناس الخاصة ودفعهم للالتزام بأوامر الدين الأولية كالصلاة والصوم والخمس والزكاة ومحاربة الربا والخمر والزنا وباقي المفاسد الأخلاقية الأُخرى؛ لأنها دعوى تتنافى مع طبيعة الإسلام وأهدافه الإنسانية العليا،وإنما الأمر بالمعروف كما يشمل الصلاة والصوم وأمثالها كذلك هو أمر عام وشامل للدعوة إلى العدل والإصلاح والنقد والنصيحة وكل عمل ينسجم مع طبيعة الإنسان، ويلبي حاجاته الضرورية في الحياة، في السياسة والاقتصاد والتنظيم والاجتماع وأمثالها.

وكذلك كلمة النهي عن المنكر أيضاً لا تقتصر على محاربة الخمر والربا والفساد الأخلاقي فقط، وإنما هو نهي عن كل مايضر الإنسان والشعب المسلم، ويفرق بين أبنائه، ويبدد أموالهم وثرواتهم، أو يضعف من قوتهم، أو يضيع حقوقهم، وهكذا.

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني إقامة الدين بكل أبعاده وجوانبه، وهو الذي فرضه الله سبحانه على المسلمين في القرآن، حيث قال سبحانه: (أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ)(25)، الذي هو واجب تكليفي كسائر الواجبات الشرعية التكليفية التي تستفاد من صيغة الأمر ((أقيموا)).

ومن الواضح أن الدين لا ينحصر في بعد واحد من أبعاد الحياة، ولايختص بجانب معين من جوانب الإنسان، وإنما هو شريعة كاملة وشاملة تستوعب الحياة بأجمعها، وتلبي حاجات الإنسان المختلفة في كافة المجالات والأصعدة، وإقامة الدين لاتتم إلاّ بلملمة كل خيوط المعروف والعمل بجميع المحاسن التي من شأنها أن تجعل الدين حاكماً في سلوك الإنسان والحياة الإنسانية، وخاصة السياسية منها بعد القضاء على كل المساوىء الفكرية والنفسية والتصرفات البعيدة عن الحق التي من شأنها أن تحول دون ذلك.

وبهذا المفهوم الحقيقي الشامل وبهذه الرؤية العميقة التي ينظرها الإسلام للإنسان والحياة يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوعاً من الممارسة السياسية والنشاط الحكومي العام، وبه تصبح ممارسة السياسة والمساهمة في بناء الدولة القوية والمجتمع السليم فريضة على كل مسلم لايمكنه التهرب منها بالسلبية والانطواء والعزلة، بل عليه أن يراقب الحكومة والمجتمع معاً، وينقد الحاكم، ويأمره بالإصلاح، ويحارب الباطل والانحراف من أي أحد صدر، وبأي صورة كان. وبهذا العمل يكون قد التزم بالوجه الحقيقي للدين، وقدم لربه ولمجتمعه أفضل الطاعات والخدمات؛ لأنها (( فريضة الأمر بالمعروف)) عماد المجتمع، والأساس الذي به يضمن حريته وأمنه واستقراره.

قال الإمام الحسين (عليه السلام): (( اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه ))([26]) وقال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها هينها وصعبها؛ وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعاء الى الإسلام ـ أي دعوة الى الإسلام ـ مع رد المظالم، ومخالفة الظالم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها ([27]).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام): ((إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر)) ([28]).

ولأهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جعلها الإسلام ضمن فروع الدين العشرة وضرورياته التي لايجوز إنكارها أو التخلي عنها، حيث أفتى الفقهاء جميعاً بوجوبهما ولزوم العمل بهما على المسلمين على نحو الوجوب العيني، أي على جميع المسلمين فرداً فرداً، وهو رأي الفقهاء المتقدمين كالشيخ الطوسيHحيث قال: ومنهم ـ الفقهاء ـ من قال: إنه من فروض الأعيان وهو الصحيح على مابينّاه ([29]). والمحقق الحلي في الشرائع([30])،ولكن الفقهاء المتأخرين والمعاصرين يذهبون الى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نحو الوجوب الكفائي الذي لو قامت به جماعة من الناس سقط الوجوب عن الباقين.

قال السيد الحكيم: يجب الأمر بالمعروف الواجب والنهي عن المنكر وجوباً كفائياً إن قام به واحد سقط عن غيره، وإن لم يقم به واحد أثم الجميع، واستحقوا العقاب([31]).

وقال المرجع السيد الشيرازي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات الكفائية، فلو أقدم بعض على القيام به سقط عن الآخرين، وأما لو لم يقم به أحد عصى الجميع([32]).

وبعد تحقق إجماع الفقهاء على أصل وجوبه لايهمنا إن كان وجوبه عينياً أو كفائياً بعد أن عرفنا أن الهدف الأساسي الذي يتوخاه الإسلام من فرضه هو تحقيق المعروف ودفع الناس اليه وإنكار المنكر وإزاحته عن مسرح الحياة والمجتمع.

فسواء كان الوجوب عينياً أو كفائياً فإن القدر المتفق عليه من قبل الجميع يحكم على جميع المسلمين بوجوب القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تطبق مبادىء الإسلام، وتحكم كل جوانب الحياة الإنسانية السياسية والاجتماعية والاقتصادية ولم يبق حتى مجال واحد يتعطش الى حل أو خال من التوجيه السماوي.

مسؤولية المسلم السياسية

وبذلك أصبح من اللازم على كل مسلم يدين بالإسلام مبدأً ونظاماً أن يهتم بشؤون المسلمين العامة وقضاياهم السياسية المختلفة، وعليه أن يدرس مشاكلهم وأزماتهم على اختلاف أسبابها وأنواعها، سواء السياسية منها كالحرب والسلام والشورى والديمقراطية، أو أزمة الحرية والمعارضة، أو أزمة التخلف والتنمية وباقي الأزمات العويصة المستعصية على الحل أحياناً. أو المشاكل الاجتماعية والنفسية، كمشكلة الطلاق والطفولة المشردة والمرضى والمحتاجين والخلافات العائلية والقبلية والطبقية، أو الحروب الأهلية وغيرها؛ أو المشاكل الاقتصادية، كمشكلة البطالة ورفع مستوى دخل الفرد، أو المشروعات الانتاجية والاستثمار لموارد الطبيعة ومكافحة الاستعمار الاقتصادي وتشغيل السوق المحلي وأمثالها، أو المشاكل الفكرية والثقافية كأزمة التعليم ومحو الأمية وتربية النشء وأزمة الإعلام ورفع مستوى الوعي عند المواطنين وماشابهها.

كل هذه الأزمات والمشاكل تقع مسؤولية حلها والقضاء عليها على عاتق الفرد المسلم، ولايحق له أن يتهاون في مسؤوليته الشرعية هذه أو يتخلى عنها مدعياً أنها سياسة، والإسلام لايرتضي السياسة بعد أن عرفنا أن السياسة من صميم الإسلام، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: ((من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في الأرض وخليفة رسوله)) ([33]).

ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((الأمر بالمعروف أفضل أعمال الخلق)) ([34]).

وفي موضع آخر يلمح الامام (عليه السلام)إلى بعض فلسفة الأمر بالمعروف فيقول: ((فرض الله تعالى... الأمر بالمعروف مصلحة للعوام والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء)) ([35]).

بل ويعتبر الإسلام المروق عن هذا الواجب المفروض توطيداً لنزول العذاب وشموليته للجميع.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):((لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليعمنكم عذاب الله)) ([36]).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام)لقوم من أصحابه:((إنه قد حق لي أن آخذ البريء منكم بالسقيم، وكيف لا يحق لي ذلك وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه، ولاتهجرونه، ولاتؤذونه حتى يتركه؟ )) ([37]).

بل إن ترك الممارسة السياسية والمراقبة الدائمة على المواقف والأعمال العامة ــ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ــ يجر إلى المجتمع النكبات والهزائم المتواصله في كافة المجالات والأصعدة في نظر الإسلام، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحذرنا من هذا التخلي أو التهاون فيقول: ((لايزال الناس بخير ما أُمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت عنهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء)) ([38]).

وبعد كل هذه الصرامة والتشديد التي أولاها الإسلام لهذه الفريضة المهمة لم يبق لمن يحاول العزلة عن مشاكل المسلمين ومآسيهم ومطالبهم المشروعة التي سحقتها سنابك الاستبداد المحلي والأطماع الخارجية ـ مدعياً أنه يريد التفرغ للعبادة وحدها وللدين وحده، أو لمشاكله الخاصة وأزماته العائلية ـ إلاّ أن يعلن انعزاله عن الدين أيضاً وتخليه عن بعض مبادئه وقيمه الحقة؛ لأن الدين يساوي في بعض مبادئه السياسية، فكل تعبد ديني من هذا القبيل لايتخلله شعور سياسي ومسؤولية سياسية يكون تكذيباً عملياً للدين ولو في بعض مبادئه، وكل ممارسة سياسية تتجرد عن مبادىء الدين ومثله وأهدافه المقدسة النزيهة تتجرد عن كونها سياسة حقيقية، وتصبح خداعاً وممارسات شيطانية بعيدة عن الضمير الحر والوجدان النبيل الذي يوفره الدين، وبذلك لايمتلك الفرد المسلم إلاّ أن يكون مسؤولاً جماهيرياً هادفاً يعيش في الناس ويعايشهم، فيدفعهم نحو الخير والعمل الصالح وبذل الإحسان المتبادل، ويردعهم عن المنكرات والمعاصي وكل مامن شأنه أن يعود عليهم بالعجز والهزيمة، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ((المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم خير من المؤمن الذي لايخالط الناس ولايصبر على آذاهم)) ([39]).

وسئل (صلى الله عليه وآله وسلم)عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولكنه يعتزل مجالس المسلمين ولايحضر صلواتهم فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ((خبروه إنه من أهل النار)).

ومن هنا نجد الإسلام حازماً وقاطعاً في أداء المسؤولية الاجتماعية للأفراد، ويرفض الرهبانية والانزواء واعتزال الناس.

* فصل من كتاب الحرية السياسية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

............................................................

([1]) وقد جاء تعريف السياسة في الموسوعة الألمانية أنها: فن التعامل بالمصالح الكلية للجماعة وصولاً إلى هدف السلام والرخاء العام ورعاية حاجات الناس من أجل تحقيق السعادة للكافة. ويعرفها المعجم الرائد بأنها: تولي أمر الناس وإرشادهم إلى الطريق الصالح وتدبير معاشهم عن طريق العدل. راجع الحرية السياسية في الإسلام: ص57.

([2]) سنن أبي داود: ج2، ص13.

([3]) راجع الفقه((السياسة)): ج105، ص39.

([4]) عيون الحكم والمواعظ:ص 227.

([5]) عيون الحكم والمواعظ:ص 229.

([6])عيون الحكم والمواعظ:ص 486.

([7]) عيون الحكم والمواعظ:ص 249.

([8]) مستدرك الوسائل: ج11، ص318، ح13146، باب 37 باب وجوب العدل.

([9]) البحار: ج72، ص352.

([10]) النساء: 105.

([11]) الشورى: 13.

([12]) الحج: 41.

([13]) الماعون: 1ـ 3.

([14]) عيون الحكم والمواعظ: ص396.

([15]) البحار: ج32، ص41.

([16]) العهد القديم والجديد: ج2، ص41.

([17]) آل عمران: 154.

([18]) نهج البلاغة: ج1، ص37، الخطبة 3.

([19]) الفقه (( السياسة)): ج105، ص46.

([20]) النساء: 75.

([21]) النحل: 125.

([22]) الفقه((السياسة)): ج105، ص48.

([23]) آل عمران: 104.

([24]) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: ج2، ص 409.

([25]) الشورى: 13.

([26]) الوسائل: ج16، ص130، ح21160، باب2 اشتراط الوجوب بالعلم بالمعروف.

([27]) المصدر نفسه

([28]) الوسائل: ج16، ص119، ح21132، باب 1 باب وجوبها وتحريم تركها.

([29]) راجع مجمع البيان: ج2، ص358 في تفسير قوله تعالى: { ولتكن منكم أمة }.

([30]) الشرائع: ج1، ص258.

([31]) منهاج الصالحين: ج1، ص350.

([32]) المسائل الإسلامية: ص448 المسألة 2284.

([33]) مستدرك الوسائل: ج12، ص179، ح13817، باب 1 باب وجوبهما وتحريم تركهما.

([34]) مستدرك سفينة البحار: ج7، ص184.

([35]) نهج البلاغة: ج4، ص55، الحكمة 252.

([36]) الوسائل: ج16، ص135، ح21173، باب3 باب وجوب الامر والنهي بالقلب.

([37]) الوسائل: ج16، ص145، ح21199، باب 7 باب وجوب هجر فاعل المنكر.

([38]) البحار: ج97، ص94، ح95.

([39]) سبل السلام: ج4، ص211.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 11/تشرين الثاني/2009 - 12/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م