ثقافتنا.. ضخامة في الإدّعاء وضآلة في التجسيد

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: في محاضرة له في اتحاد الادباء والكتاب العراقيين، يذكر الناقد العراقي المعروف الدكتور مالك المطلبي وآخرون يتفقون معه على أن الثقافة لاتنحصر بمن يكتب في الاجناس الادبية ولا بمن ينتج لوحة تشكيلية متميزة وما شابه، بل الثقافة هي منظومة سلوك وفكر تنضوي تحتها امة او شعب او جماعة.

وبهذا ستنأى الثقافة بنفسها عن التجيير لصالح من يكتب قصيدة او قصة او رواية او بحث نقدي وما شابه، لتصبح نسقا حياتيا شاملا لأمة ما من الامم او الشعوب او الجماعات، وهنا يمكن لنا أن نعرّف المثقف بأنه المنتج الثقافي الذي يؤثر في وسطه المجتمعي ويغيره فكرا وسلوكا الى مرتبة أعلى من خلال تحويل الادّعاء الثقافي الى منتج فعلي يبدأه هو قبل غيره، فيأخذه عنه الآخرون ليكبر ويتنامى فيكوّن منظومة شاملة (معصرنة) يتلاقح في إطارها فكر معاصر وسلوك إنساني متحضّر.  

وتأسيسا على هذه الرؤية للمثقف، ستبدو لنا الفوارق كبيرة على ارض الواقع، حيث يبدو مثقفونا بعيدين عن الانتاج الثقافي الفعلي وقريبين من الادعاء الثقافي الضخم، على العكس مما يتطلبه الراهن العراقي او العربي عموما، حيث المثقف هو من يكتب او يرسم او يقول، ولا علاقة له بتفعيل الواقع المجتمعي بصورة ملموسة لا مقروءة، بمعنى أن دور المثقف هنا شكلي ويعاني من (احادية التأثير) بسبب توافر اللغة او المعنى وما شابه وغياب الفعل الثقافي المرئي او الملموس على وجه أدق.

وبسبب هذا الغياب (الطوعي) لدور المثقف التجسيدي، تنتشر بين عموم الناس سلوكيات وافكار لا علاقة لها بواقع العصر، بل كأنها تنتمي الى حقب مندرسة مضى عليها آلاف السنين، حيث يترفع (المثقف) عن الهبوط من علياء (القول المجرد) او الكتابة الخاملة، الى حقول الممارسة والتفعيل الملموس للافكار والسلوكيات المتطورة، ولذا لم يستغرب أحدنا حين يرى أكوام القمامة تتكدس أمام بيوت العامة ومن يدعون الثقافة على وجه العموم.

ولا يستغرب أحدنا حين يبصق الناس وهم يسيرون في الشوارع العامة، أو يخدشون الحياء بمفردات لغوية ساقطة، بل لا يستغرب أحدنا عندما يرى الآخرون يتمتعون بنزعة ذاتية متجبرة، تمنعهم عن مد يد العون لمن يستحقه رجلا كان او شيخا او امرأة او حتى طفلا.

ولم يستغرب أحدنا (كما حدث معي قبل أيام) أن تجلس عائلة من اب وام وطفلين بنت وولد في حوض سيارة حديثة وفارهة ثم فجأة تنزل النافذة ويلقي أحد الطفلين بأربع قناني عصير فارغة بعد أن احتستها العائلة (الجاهلة) الى وسط الشارع المزدحم بالسيارات.

إن مثل هذا الفعل وغيره كثير، لم يأت اعتباطا، إنه قائم على منظومة سلوك متردية فوضوية يغيب عنها دور الثقافة والمثقف كليا، وهنا لا أقصد ثقافة الادعاء بل ثقافة التجسيد الفعلي للمنتج الثقافي، فلو كنا نتحصل في تكويننا الاجتماعي على المثقفين الفاعلين المؤثرين بمن يحيط بهم من الناس ويجسدون أقوالهم وكتاباتهم ذات الطابع الثقافي الى ملموس فعلي، فإننا حتما سنصل الى ما نبتغيه في هذا المجال.

ومع اننا نؤمن بالتدرج والتطور الهادئ السليم، إلا أن ذلك لا يبرر مطلقا هذا الغياب المخيف للشخصية المثقفة المؤثرة بالآخرين، ولعلها ظاهرة او حالة من الغرابة بمكان بحيث تجعلنا جميعا ننتساءل، أين نحن من أولئك العظام الذين حولوا مجتمعاتهم من واقع زريبة الماشية الى حاضر متحضّر يليق بقامة الانسان بوصفه كيانا معنويا وعمليا متفردا بين كائنات الارض؟.

وليس من العيب مطلقا أن نؤشر نواقصنا، فحين نبدأ بإصلاح النفس، سنكون بذلك قد خطونا الخطوة الاولى باتجاه الهدف المُبتغى، بمعنى حين نؤشر حضور المدّعي للثقافة وغياب المجسِّد لها، ليس في هذا تجاوز على احد بل هو تنبيه يجب أن نعي خطورته، وحين نعلن غياب المثقف المؤثِّر، فإننا نبدأ بأنفسنا اولا، على اننا نتفق كما جاء في صدر المقال على ان المثقف (قد يكون لا يُحسن القراءة والكتابة) ولكنه يُحسن السلوك والتفكير بالاكتساب والاحتكاك مع الآخر.

ولعل احدهم يتساءل ماذا يفعل كاتب القصة –مثلا- لكي يتحول من مدّعي للثقافة الى منتج تجسيدي لها؟ وهنا سنعود الى صدر المقال، حيث يقول الدكتور المطلبي، إن الثقافة هي خليط من الفكر والتجسيد، بمعنى أن يُصبح كاتب القصة، نموذجا فكريا سلوكيا فاعلا ومؤثرا في المحيط ، وبهذا ينتقل المثقف والثقافة من حالة النكوص والأحادية الى حالة السمو والتجسيد الشامل للمعنى والسلوك، الذي سيشكل بدوره مرحلة انتقال من منظومة سلوكية فكرية متردية الى منظومة معاصرة ترتقي بالامة او الشعب او الجماعة الى واقع لائق.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 11/تشرين الثاني/2009 - 12/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م