الحرية السياسية

السياسة والحرية السياسية

الشيخ فاضل الصّفار

نظراَ لعطش المسلمين إلى الحرية.. ولدورها الكبير في صناعة حاضر الإنسان وغده وسعادته فيهما معاَ.. وللتضحيات الجليلة التي قدموها ولازالوا يقدمونها في سبيلها.. ولبعض الإبهامات المحيطة بها من حيث المعنى.. والمعالم والضمانات الكفيلة بتحقيقها ثم بقائها بعيدة عن الزيف والتحريف.. وأيضاَ نظرا لعمليات المصادرة المستمرة التي تتعرض لها الحرية في بلاد المسلمين ومنذ تأريخ وتأريخ ما قبل الديكتاتورية السياسية في الداخل والاستعمار بكافة صنوفه وأشكاله في الخارج..

أقول: نظراَ لهذا وذاك، بل وأكثر.. رأيت أن أتناولها ببعض التفصيل والتحليل ورسم المعالم والضمانات في محاولتي البسيطة هذه.. لتكون نوراَ على الدرب يهدينا إليها.. ولأن الحرية حق من حقوقنا الإنسانية المشروعة.. والحق يؤخذ ولايعطى جاءت هذه الفصول العشرة مجموعة في كتاب لتوفر فينا بعض الدافع للعمل من أجلها والمطالبة بها ليلاَ ونهاراً.. سراً وجهاراً من أجل أن نستردها ونعيشها، وحينئذ يمكن أن نعد أنفسنا في القمة كما كنا بالأمس في القمة.. وذلك عندما يصبح أمرنا بأيدينا.. ونرسم مستقبلنا بأنفسنا.. ونبني حضارتنا بأفكارنا وأجيالنا.. وتصبح حياتنا حرة هانئة ووديعة.. يهجع في ضميرها الأمن والسلام، عند ذلك يمكن أن نقول: إننا بشر.. لا..!!

معنى السياسة

يعتقد بعض الناس خطأ أن كلمة السياسة تعني الغش والخداع، والمناورات الحزبية والكذب على الجماهير وتضليلهم بمعسول الكلام والخطب الرنانة واستخدام كل الأساليب والطرق اللامبدئية واللاإنسانية في سبيل نيل المصالح والرغبات!!.

وهذه فكرة خاطئة، بل خطيرة وهدامة صدّرت إلينا من قبل الاستعمار من أجل النيل منّا، فأقنع بها الكثير من ضعاف الوعي والثقافة من أبناء الشعوب الإسلامية، بل وتمكن من إقناع حتى بعض حكام المسلمين أنفسهم بها حتى أصبحوا يغشون شعوبهم، ويمارسون بحقهم كل الوسائل اللاإنسانية في سبيل تطويقهم أو استعبادهم بعيداً عن المبادئ والقيم الحقة من دون أن يجدوا في غيرها بديلاً، أو حلاً، وهم يتصورون جهلاً أن هذا من أُصول السياسة ومسلماتها([1]) حتى تأثرت فئة كبيرة من المثقفين المسلمين بهذه الثقافة السلبية، وبدت تزعم أن السياسة مقتصرة على التجارب والممارسات الميدانية منضماً إليها ذكاء السياسي وفطنته الخاصة في إدارة الصراعات واللعب السياسية وإجادة فن المساومة والدجل والنفاق.

بل وترقت في هذه الدعوى جماعة أُخرى ادعت أن السياسة والإسلام من قبيل المتناقضين اللذين لايوجد سبيل للتفاهم والاتفاق بينهما، وأن العالم بالشريعة مقتصر في علمه على بعض المواد الخاصة المرتبطة بالدين، كالتفسير والفقه والأُصول والتأريخ ونظائرها؛ ولذلك فهو لاربط له بالسياسة من قريب أو بعيد، لأنّ الدين يدعو إلى المعنويات والابتعاد عن الغش والتضليل، ويرفع من مستوى الإنسان إلى الفضائل والسلوك الأخلاقي القويم، وهو لاينسجم مع مسيرة السياسة والسياسيين، ولذلك توهموا أن السياسة ليست علماً من العلوم الإنسانية التي تتقوم بها حياة البشر.

في حين نجد في تعاليم الإسلام وثقافته الاجتماعية المفاهيم العديدة ضد الغش والخداع بكل أنواعه، بل وتعتبره من أكبر الجنايات وأعظم الكبائر، فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ((من غشنا فليس منّا)) ([2]) و: ((ليس منّا من غشّ مسلماً أو ضرّه أو ماكره)) ([3]) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ((شر الناس من يغش الناس)) ([4]) والإمام الكاظم (عليه السلام) يقول: ((ملعون من غش مسلماً أو ماكره أو غره)) ([5]).

وأمّّا الغش السياسي فله تركيز خاص في مبادئ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته الاّ حرم الله عليه الجنة)) ([6]) وفي هذا المجال يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً في عهده للرؤساء والموظفين السياسيين:(( إن أعظم الخيانة خيانة الأُمة، وأفظع الغش غش الأئمة))([7]).

فإن الإسلام نصّ على السياسة في نصوص خاصة، وجعلها من أبرز سمات عظمائه ومشرعيه، حيث وصفهم بالساسة والسياسيين، فمن الأوصاف الكثيرة التي صرّح بها الإمام الرضا tواشترط أن يتصف بها الإمام هي العلم بالسياسة: ((عالم بالسياسة)) ([8]) وفي زيارة الجامعة الكبيرة من أوصافهم% أنهم ((ساسة العباد)) ([9]) وفي وصايا أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر نص على السياسة حيث يقول (عليه السلام): ((فاصطف لولاية أعمالك أهل الورع والفقه والعلم والسياسة)) ([10]).

وأيضاً: ((فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً، وأجمعهم علماً وسياسة)) ([11]).

وله كلمة أُخرى إلى معاوية مفادها أن الإمام العادل هو السياسي الصحيح والشرعي الذي يرتضيه الإسلام، وكل حاكم غير عادل لايستحق لفظ السياسي وإن اصطلح عليه ذلك باعتبار أن السياسة من السوس وحسن التدبير، وحسن التدبير لاينسجم إلاّ مع العدل وإلاحسان والتعامل الحر النزيه، فقال (عليه السلام): ((متى كنتم يامعاوية ساسة الرعية؟))([12]).

وهي صيغة الاستفهام الاستنكاري التي يستفاد منها المفهوم المخالف للمنطوق، والعبارة أي إن معاوية لايمكن أن يكون سياسياً للشعب، بل إن الإمام العادل الصالح هو الجدير بالسياسة لاغير، وغير ذلك من النصوص الشرعية الكثيرة الواردة بنفس لفظة سياسية.

ومن الواضح أن لفظة السياسة لاتهمنا هنا للدلالة على إيمان الإسلام بالسياسة والممارسات السياسية؛ وذلك لوجود تعابير مختلفة في القرآن والسنة الشريفة كلها تشير إلى هذا المبدأ المهم والحساس الذي لايمكن أن تتخلى عنه أُمة من الأُمم، مثل: ((الامام)) و((الخليفة)) و((الحاكم)) و((القاضي)) و((القائد)) و((الرائد)) وغيرها من العبارات التي تؤكد على تفاهم الإسلام مع السياسة وتلاحمه معها وعدم الانفصال بين الدين والدولة التي يصر الاستعمار على إلقائها في نفوس المسلمين من أجل أن يحكمهم هو، ويبعدهم عن المسرح السياسي؛ إذ هذه كلها اصطلاحات ولامشاحة في الاصطلاح وإن اشتهرت اليوم لفظة السياسة على الألسن أكثر من غيرها.

 من هذا نفهم أن الدين يعني السياسة ولكن لا كل سياسة، وإنما السياسة العادلة الحكيمة التي تؤمن بالإنسان والقيم الإنسانية طريقاً وهدفاً في الحياة، السياسة التي جاءت بها رسالات السماء، ودعا إليها الأنبياء والصالحون، وبذلوا كل جهدهم وجهيدهم من أجلها، وقد قال سبحانه وتعالى:

(وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ) (13). و: (وَمَن لّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(14).

هل السياسة علم؟

نعم، السياسة في الإسلام كسائر العلوم الإنسانية الأُخرى؛ وذلك لأنها تشترك مع باقي العلوم في الموضوع والغاية، إذ إن العلم عبارة عن كشف الحقائق ومعرفتها وإلالمام بأسبابها ومسبباتها وأعراضها وعوارضها والنتائج المترتبة عليها وإن كان دورها وأهميتها يختلف من علم لآخر؛ وذلك لأن أهمية العلم ترتبط ارتباطاً وثيقاً وجذرياً بمدى النتائج والمكتسبات والضمانات التي يؤمنها للإنسان، ويسد بها حاجاته، ويرفع من مستواه الجسمي أو النفسي.

فالعلم الذي يحظى بالدرجة الأُولى من الأهمية ويتصدر قائمة العلوم ذلك الذي يضع تحقيقاته ونتائجه العلمية في خدمة إلانسان، ويوفر له السعادة الدينية والدنيوية، ويسلك به سبل الحرية والسلام باعتبار أن الإنسان أهم المخلوقات وأعظمها في هذا العالم تكويناً وتشريعاً، بل هو العلة الغائية والهدف الأسمى الذي يفسر لنا حكمة الحياة ونظام الخلق وأصل الوجود.

((خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي))( 15) و: (وَسَخّرَ لَكُمْ مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً) ((16.

فالعلم الذي يوفر للإنسان وسائل وخدمات أكثر تساعده على التكامل والرقي هو العلم الأهم، ثم تتنازل درجة الأهمية كلما هبط مؤشر العطاء العلمي ودوره في حياة الإنسان؛ ولذلك قالوا: إن علم الكلام ((أُصول الدين)) أشرف العلوم وأعلاها من الناحية الاعتقادية، لأنه يؤمن للإنسان سبيل الاعتقاد الصحيح، ويبعده عن الجهل والخرافة في المذهب والاتجاه، وعلم الفقه أشرف العلوم من الناحية العملية؛ لكونه يضمن للإنسان طريق الحياة السعيدة والسلوك القويم في التعامل مع الأشياء.

ومما لا شك فيه أن العقيدة والعمل الصالحين من أهم حاجات الإنسان وضرورياته، ومن بعدهما تأتي سائر العلوم الأُخرى.

بعد هذه المقدمة الوجيزة لا نملك أن نؤمن بأن السياسة ليست علماً من العلوم الإنسانية فقط، بل من العلوم التي نالت درجة الأهمية القصوى في حياة الإنسان؛ وذلك لاحتوائها على سمات العلم وميزاته، سواء في الموضوع أو في الغاية، وقد أشرنا بنوع من التفصيل إلى أهمية السياسة ومدى تأثيرها على حياة الإنسان الشخصية والاجتماعية، فراجع.

مميزات العلوم

أولاً: الموضوع

كما قلنا سابقاً: إن العلم عبارة عن كشف الحقائق الكونية الخفية وإزاحة الستار عنها، والحقائق الكونية لا تخلو من ثلاث:

1ـ الحقائق الخارجية: وهي الأُمور المتأصلة المتحققة في الخارج، سواء يحس الإنسان أعيانها وتشخصاتها الخاصة بحواسه الخمسة كالشمس والقمر والتراب والطعم واللون والرائحة وغيرها، أو يدركها ويتلمس وجودها الخارجي عبر أثارها ومظاهرها الخارجية وإن لم يحسها بحواسه الخمسة، كالجاذبية والإلكترون وباقي الأُمور الشفافة أو المجردة.

2ـ الحقائق الانتزاعية: وهي الأُمور التي لاتوجد بنفسها في العالم الخارجي، ولاتتقرر في وعاء العين، وإنما توجد في عالم الذهن والعقل البشري منتزعة ومستنبطة من الخارج؛ إذ إن لها منشأ انتزاع متحقق في الخارج يتمكن الذهن الإنساني الدقيق أن ينتزع منه في وعائه الخاص مفهوماً آخر مغايراً له ولكن مرتبط به أيضاً، كالزوجية والفردية في الأعداد، والفوقية والتحتية وغيرها؛ إذ لا أحد يشك أن العدد(4) عدد زوجي والعدد(3) عدد فردي ولكن هل الزوجية متحققة في العالم الخارجي ام في عالم الذهن؟ كما لا أحد يجهل بوجود الفوقية والتحتية ولكن هل الفوقية والتحتية متأصلة في عالم الوجود الخارجي أم في عالم العقل؟ نحن في الخارج نعلم بوجود الأربعة كما نعلم بوجود الفوق أو التحت، ولكن هل زوجية الأربعة أيضاً موجودة في الخارج أم الذهن البشري يحكم على الأربعة بأنها زوج عندما يرى أن العدد(4) ينقسم الى متساويين.

وهكذا عندما نجد سقفاً مرفوعاً للغرفة نتحسس وجود السقف العالي، ونحكم عليه بأنه فوق مقابل أرض الغرفة الذي نسميه تحت، ولكن هل فوقية السقف أيضاً نتحسسه في الخارج أم عقلنا يحكم بالفوقية للسقف والتحتية للأرض؟ وهكذا

فإذاً الزوجية والفوقية وامثالهما أُمور غير متأصلة في الوجود الخارجي، ولكنها متحققة في عالم الذهن والعقل فقط، أي العقل ينتزعها من منشئها ومصدرها الموجود في العالم الخارجي؛ ولذلك يقولون: الأُمور الانتزاعية ليست موجودة في الخارج وإنما موجودة بوجود منشأ انتزاعها.

3ـ الحقائق الاعتبارية: وهي الأُمور التي لاوجود لها في الذهن ولا في الخارج وإنما وجودها اعتباري ومعنوي فقط؛ إذ إنها توجد باعتبار المعتبر فقط، كالأوراق النقدية التي نتعامل بها، إذ إنها لاتختلف عن الأوراق العادية بشئ إلا أنها نالت اعتبار الدولة أو البنك فأصبحت تكافئ مبلغاً قدره كذا وكذا، وأما لو لم تعتبرها الدولة ولم تجعل لها نصيباً من التقدير لم تتجاوز مكانتها أي ورقة بيضاء أُخرى.

والفرق الجوهري بين الحقائق الانتزاعية والاعتبارية هو أن الأُمور الانتزاعية لايتوقف وجودها على وجود المنتزع أو المتعقل لها، فسواء كان إنسان عاقل موجوداً على هذه الأرض أو لم يكن موجوداً فإن الأربعة إذا تحققت كانت عدداً زوجياً، والثلاثة عدداً فردياً.

أما الأُمور الاعتبارية فوجودها وعدمها متوقف على وجود المعتبر وعدمه، فإذا كانت الدولة التي اعتبرت الورقة معادلة لفئة (دينار) مثلاً موجودة كان لها ذلك الاعتبار والتقدير، فإذا سقطت الدولة أو مات المعتبر سقط اعتبارها أيضاً، وأصبحت ورقة عادية.

هذه هي خلاصة الحقائق الكونية الموجودة في هذا العالم، والعلوم الإنسانية تدور مدار كشف هذه الحقائق ومكنوناتها، فبعض العلوم تهتم بكشف الحقائق الخارجية، كالطب والصيدلة والزراعة والصناعة وغيرها، فإن الطب يبحث عن جسم الإنسان الخارجي، والصيدلة عن الدواء الخارجي. وهكذا.

وبعض العلوم تدور أبحاثها حول الحقائق الانتزاعية، كعلم الحقوق والهندسة والحساب وأشباهها، فإن علم الحقوق يبحث عن العقود والإيقاعات والشروط والضمانات، كما أن بعض العلوم مهمتها التعامل مع الاعتباريات كمسائل النقد والمال وبعض المسائل الاقتصادية والحقوقية أيضاً والفقه وأمثالها.

ومن المعلوم أن السياسة لاتختص بجانب واحد من هذه الجوانب الكونية الثلاثة، بل ترتبط في جميعها ارتباطاً متيناً لايمكن الانفكاك عنه؛ وذلك لأن معرفة السياسة تحتاج إلى معرفة الكثير من العلوم الأُخرى التي لها علاقة بمهامها، مثل: علم الاجتماع والإدارة والاقتصاد وهي علوم مرتبطة بعالم الخارج، وعلم الحقوق والقانون وهو مرتبط بعالم الذهن والانتزاع، والنقد والمال وهو من الحقائق الاعتبارية، ومن هنا لابد للسياسي أن يدرس كل هذه العلوم حتى يستحق اصطلاح السياسة والسياسي.

وبعد كل هذا يظهر أن السياسة ليست علماً فقط، بل من أظهر مصاديق العلم؛ لأنه لايبحث حقيقة واحدة من حقائق الكون التي تبحثها باقي العلوم، بل يبحث أو يساهم في البحث عن جميعها أو أغلبها.

ثانياً: الغاية

إن الغاية الأساسية التي تتوخاها سائر العلوم والمعارف هي إيجاد قواعد وأصول ومسلمات دقيقة ومدروسة نرجع إليها عند الجهل أو الاختلاف في حل مشاكل الحياة، وتكون في الواقع الوسائل والطرق الصحيحة التي تعيننا على رسم المنهج السليم والنظام المعتدل الذي يتكفل بإيصالنا إلى الرقي والكمال الروحي والجسمي الذي هو أبعد غاية في الحياة الإنسانية، ولذلك فإن ميزة العلوم كل العلوم سواء كانت قواعدها([17]) دقيقة وشاملة عند التطبيق كالرياضيات والهندسة أو ظنية وغالبية غير شاملة كالطب والاجتماع وغيرها تكشف لنا عن ثلاثة أُمور مهمة تتفرع عنها علمية العلم هي:

1ـ كشف الضوابط والأصول لمعرفة الأشياء.

2ـ كشف المستقبل ومعرفة نتائجه.

3ـ إزالة الجهل وحل مشاكل الحياة.

وهذه الثلاثة كلها متوفرة في علم السياسة، فكما أن قواعد العلوم وضوابطها تفيدنا في تعاملاتنا الخارجية مع الأشياء كذلك السياسية فإن لها حسابات دقيقة أو غالبية تعيننا على التعامل مع الأشياء المحيطة بنا في المجال السياسي؛ إذ لها قواعد ثابتة أو نسبية في تنظيم العلاقات المتبادلة بين الحكومة والشعب والحكومة والحكومة الأخرى وهكذا، وأيضاً لها ضوابط خاصة للانتخابات والحريات والمشاريع السياسية والتعامل مع الأحزاب المعارضة وغيرها.

كما تكشف لنا السياسة مستقبل النتائج العملية لسياسة الحكومة والآثار المترتبة عليها، أو ترسم لنا جدولاً عملياً يساعدنا على تقوية البلد وتحصينه في الداخل والخارج، ويقضي على الأزمات مستقبلاً، فنقول مثلاً : السياسة الديمقراطية تضفي على الحكومة طابعاً جماهيرياً، وتمنحها البقاء والثبات الدائم المستقر، وأما الديكتاتورية فبالعكس.

أو تقول: إن توحيد الإعلام أو النظام الحزبي سيؤول بالبلد إلى ديكتاتورية متشددة تقضي على الشعب.

هذا في مجال السياسة الداخلية، وفي المجال الخارجي نقول مثلاً: كلما كان المستوى الحضاري للدولة أكمل تمكنت الدولة من فرض سيادتها على الدول التي لاتتمتع بمستوى حضاري مثيل.

كما أن معرفة السياسة توفر لنا الضمان الكافي للحرية والاستقرار؛ لأن الذي يعرف السياسة لايتضلل بألاعيبها ومناوراتها الخادعة، وأكثر المشاكل السياسية والحيوية التي تعاني منها الشعوب ناشئة من الجهل بالسياسة ومداخلاتها، فنرى أن الشعب الجاهل المخدوع يصفق ويهتف بحياة قاتله، أو يستعبده الحاكم المستبد ويسوقه ترهيباً أو ترغيباً لتلبية أهوائه وأطماعه، أو هو نفسه ينجر وراء التيارات المشبوهة والمضللة نتيجة جهله وضياعه.

فلولا السياسة والمعرفة بأصولها وضوابطها لم نتمكن من معرفة السبل الناجحة لإدارة الدولة والشعب، ولم نحصل على الأمن والاستقرار يوماً ما، بل ولم نستطع أن نميز بين السياسة العادلة من غيرها. من كل هذا نفهم أن السياسة ليست علماً وحسب، بل علماً مهماً وخطيراً في حياة الإنسان؛ لأنه يؤمن له كشف حقائق الكون أولاً، ثم يضمن له سلامة الحياة السياسية الحرة بعيدا عن التضليل والخرافة ثانياً.

* فصل من كتاب الحرية السياسية

...................................................

([1]) ومن العجيب أن نتقبل هذه المفاهيم السلبية من الغرب في حين نجد أنهم في تعاملاتهم السياسية مع الحكام لو كذب رئيسهم أو حاكمهم على شعبه أو غشه أو قاده إلى خطة غير مدروسة لسقط إلى الأبد، وسحبت الثقة منه فوراً من دون أن يقدر على شيء، كقضية نيكسون(ووترغيت) وكارتر(صحراء طبس) وتاتشر في حرب الخليج الثانية(حرب النفط) وغيرها..

 ([2]) دعائم الاسلام: ج2، ص28.

 ([3]) البحار: ج 74، ص146، ح51.

 ([4]) عيون الحكم والمواعظ: ص 295.

 ([5]) البحار: ج 100، ص82، ح8.

 ([6]) سبل السلام: ج 4، ص190.

 ([7]) نهج البلاغة : ج3، ص27، الكتاب 26.

 ([8]) الكافي: ج1، ص202، ح1.

 ([9]) البحار: ج 99، ص180.

 ([10]) دعائم الاسلام: ج 1، ص361.

 ([11]) تحف العقول: ص 132.

 ([12]) نهج البلاغة: ج3، ص11، الكتاب 10.

 ([13]) المائدة: 49.

 ([14]) المائدة: 44.

 ([15]) شرح الأسماء الحسنى: ج 1، ص139.

 ([16]) الجاثية: 13.

 ([17]) لايخفى أن بعض العلوم ضوابطها دقيقة جداً لايمكن حتى لمسألة واحدة أن تتخلف أو تشذ عنها كمسائل المنطق والفلسفة إذا طابقت الواقع، والحساب فإن قواعدها لاتنخرم مطلقاً. فإن 2=1+1 دائماً لايقبل تخلفها في مورد دون آخر، وكذلك الكل أكبر من الجزء وغيرها.

وبعض العلوم قواعدها ليست شاملة لكل المسائل، بل قواعدها موضوعة حسب أغلبية الأفراد والمسائل؛ ولذلك يمكن فيها الشذوذ والتخلف، فمثلاً علم الاجتماع يقول في أحد قواعده: الحرب تسرع من عجلة العلم والتطور، ولكن هذه القاعدة قد تشذ أحياناً، فنجد بعض الحروب ليس لاترفع من مستوى العلم، بل تسقط الشعب نهائياً في الحضيض، أو الطب مثلاً يقول: الدواء الكذائي علاج للمرض الفلاني، ولكن هذا غالبي لاشامل؛ إذ قد لايعالج نفس الدواء مريضاً ابتلي بالمرض الخاص نفسه، وهكذا، وطبعاً هذه الغالبية ناشئة من أسباب وعلل ليس هنا محل لذكرها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 4/تشرين الثاني/2009 - 5/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م