في الصالحية وهي حي في بغداد الحبيبة (...كذا...) مواطناً قتلوا
غيلة وهم في وزارتهم ومساكنهم ومحالهم بين رجل وامرأة وطفل وشيخ... في
ذلك النهار كان الدعاء أن يعود المرء سالما إلى بيته عندما يخرج منه
للعمل أو للدراسة، أو للعلاج أو عندما يعود إليه... لكن الجميع كانوا
يشعرون بالأمان وهم في بيوتهم على الأقل.... وهم كسائر الناس يحملون هم
العيش ويحلمون بحياة أفضل، يحزنون ويفرحون كسائر الناس...
لم يفكر أحد منهم في ذلك النهار إن الأرض سوف تزلزل زلزالها، وان
السقوف التي ينظرون إليها وهم يتوجهون بالدعاء إلى الله أو يستدرجون
ذكريات الماضي أو يستحضرون آمال المستقبل... السقوف التي بناها لهم
الأجداد أو الآباء بعد أن ذاقوا عذابات الجهد حتى اخشوشنت الأكف
والأقدام...وحتى إن كان بناة الوزارات والمؤسسات الحكومية شركات أجنبية
لكنها قبضت الكثير من حقوق وأموال المواطن العراقي المحروم من ابسط
مستلزمات العيش...
هذه السقوف تحولت إلى مقابر جماعية مسحت الرؤوس والأجساد فيها أكداس
الطابوق والاسمنت والحديد والتراب أما الشظايا فقد سبقت هذه كلها لتمزق
زجاج النوافذ وتستقر في اللحم الآدمي... هكذا هو مصير الإنسان... نثار
من لحم ودم إذا اخرج من الأنقاض... إما الآخرون الذين ظلوا تحت الركام
فلقد اختلطوا بتراب الأرض ولسوف تزيلهم سكاكين الجرافات دون أن تفكر
طبعا بان هذا دم طفل رضيع وذاك دم معتمرة أو معتمراً جاء تواً من كعبة
الله... وآخر شاب ينشد موطنا آمنا أو كان يجهد نفسه بالدراسة ليحصل على
المنال وتلك كانت فتاة تحدثوا عن خطبتها لابن العم فكانت عند وقوع
الزلزال تسرح شعرها بمشط العافية... إنهم سيظلون إذن موتى دون قبور مع
الاعتذار للفيلسوف الفرنسي الراحل (جان بول سارتر) إذ استعرت عنوان
مسرحية له...
ولكن كم عدد هؤلاء ؟ الجثث التي (نجت) لتذهب إلى القبور(كذا) جثة
والأجسام المضرجة بالدم تجاوزت الـ (...)... وهكذا صرنا لا نأبه
بالأرقام.. فالعشرات الذين يموتون يمرون في الخيال كشعاع خاطف من غيمة
بعيدة... وحتى موت المئات لم يعد يثبت في المخيلة إلا قليلاً...
صار الموت عادة....
صار الموت مهنة....
صار الموت صديقاً يرافق الإنسان العراقي...في الحل والترحال.....
بل صار هو الإنسان...
و...
كنا ننام على الزعيق فمذ طغى صرنا ننام على الزعيق ونهجع...
أما المنازل التي كانت تهب العوائل دفء الشتاء ونسائم الصيف والتي
كان يسمع فيها صراخ الأطفال وضحكاتهم، ورنين الملاعق في أقداح الشاي (في
المقاهي المجاورة) فقد محق أكثر من (كذا) منزل فصارت قبوراً للساكنين
و(كذا) منزل تصدعت حتى لم تعد صالحة للسكن إلا إذا أراد سكانها أن تكون
قبوراً أخرى...
فهل يستحق أهل العراق ذلك ؟
وهم المواطنون الصابرون ؟
وهم الآمنون الحالمون؟
وهم الوطنيون والمتحضرون ؟
حتى الأسئلة لم تعد لها قيمة وليس هناك من يسمعها لكي يجيب...
ومع ذلك فهي تطرح كدخان سيجارة يلتف في الهواء ثم يغيب...
من فعل هذا ؟
إذا كان الفاعل من أدعياء الدين فبئس الدين الذي يدعون إليه فما كان
دين محمد (ص) إلا حياة وإلا رحمة للعالمين... وما كان دين محمد(ص) إلا
جنة تحيتهم فيها سلام... وليس في الإسلام عصابات للجريمة ولا مافيات
وحتى العصابات التي تمتهن الجريمة فإنها تقتل لمصلحة... أما أن تقتل
الناس بالجملة دون هدف فلم نسمع عن مافيا صقليه وآل كابوني أنهم فعلوا
ذلك...
إذن فهذا الذي يؤمنون به دين إبليس وليس دين الله الحق... وكل هؤلاء
الذين ماتوا غيلة أو في السيارات المفخخة أو الأحزمة الناسفة أو
القنابل الناسفة سيقفون أمام الله مع كل مؤودة ليسالوا... بأي ذنب
قتلوا؟ وحتى جدران المنازل التي محقت ستشكو إلى الله تعالى وستطالب أن
يذهب المجرمون إلى نيران الجحيم...
وإذا كانت الفعلة البشعة من تيار قومي أو عنصري أو يدعي الوطنية فان
ما حدث في الصالحية سيمحوهم من لوحة الشرف... ولن يجدوا لهم مكانا ليس
في الحياة السياسية وحدها بل في الحياة الاجتماعية كلها وسيظلون
منبوذين تطاردهم اللعنة على مر الزمن... وحيثما ولوا الوجوه سيجدون
أمامهم صورة جروح فاغرة... وأشباح بشر راقدين ألان في المستشفيات
ويرفضون الخروج بعد الشفاء قائلين: إلى أين نذهب ولم يبق لنا أسرة ولا
خل ولا دار ولا عمل ؟
أما ما تداولته وسائل الإعلام من أخبار عن وجود متفجرات بالأطنان
كان القصد منه قتل العشرات من العراقيين وهدم الوزارات الحكومية و
منازل المواطنين الآمنين ومحالهم... وان صح ذلك فانه من سوء الطالع،
ومن بؤس الفكر، وانعدام الحس أن تقع الاجهزة الامنية في كمين ينصبه لها
المجرمون كما حدث في الأربعاء الدامي بينما المفروض أن تنصب الاجهزة
الامنية وأجهزة المخابرات الكمائن ليقع فيها المجرمون...
إن التعامل مع هذه الظواهر يحتاج إلى العقل قبل اليد، ويحتاج
الشجاعة المشفوعة بالحكمة وليس الشجاعة المتهورة... فلم تعد حرب
العصابات ولا أي حرب مجرد (فزعة) وإطلاق الرصاص ورمي المتفجرات بطريقة
كأنها قضاء فرض... وكم مرة انفجرت سيارة فهرعت إليها الشرطة وتجمع
الناس لتنفجر أخرى في نفس المكان وتحصد عدداً مضافا لتزهو الجريمة
بحجمها ولقد قيل (إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين) ولكن
حكومتنا(الوطنية) وأجهزتها الاستخبارية والامنية وشرطتها لدغت مرات
ومرات....
ويجب أن لا يكون فهمنا للعدو كفهم دون كيشوت عندما راح يقاتل بسيفه
الأعداء وينتصر وما كان الأعداء إلا أجنحة الطواحين... طواحين الهواء..
الشهداء عددهم (...) و منهم تحت الأنقاض..... ولا أمل في وجود ذرة
حياء وقطرة خجل لبعض المسؤولين وأتباعهم... وقد آن الأوان أن نعرف
الرقم وما يقابله وعن ماذا يتحدث....قتل أحباؤنا وأهلونا
وأصدقاؤنا...فإما أن نمنع هذه المجازر أو نعفر وجوهنا بالتراب ونتسلل
إلى خارج المسؤولية بل إلى خارج الوطن.
الخلود وجنات النعيم لشهداء الصالحية.... ولكل شهداء العراق...
ولعنة الله من اقترف هذه الجريمة وسهل أمر وقوعها...ووقوع الجرائم
الأخرى بحق العراقيين الشرفاء...
وحسبنا الله ونعم الوكيل. |