ميتافيزيقا الذاتية

البرهنة على وجود الله

زهير الخويلدي

 ليس المهم أن نمتلك عقلا حسنا بل الهم هو أن نحسن استخدامه

 

قطع ديكارت الطريق أمام الميتافيزيقا الكلاسيكية الموروثة عن الفلسفة اليونانية والميراث المسيحي وأسس ميتافيزيقا الذاتية التي تنطلق من التفكير إلى الوجود وتكتشف الإنسان من جهة أسباب العقل وعن طريق التأمل الميتافيزيقي وتثبت وجود الأنا من حيث هو جوهر مفكر ويكون بذلك الكوجيتو هو شرط أول للمعرفة واليقين الأول الذي يسمح بظهور يقينيات أخرى.

يعرف ديكارت الميتافيزيقا على أنها أساس كل البحوث والمعارف لاسيما وأنها العلم الذي يبحث في أسس المعرفة والأشياء بهدف الوصول إلى المبادئ الأولى والعلل القصوى. أما البحث الذي يحرك مكتشف الكوجيتو فهو بحث ميتافيزيقي يشبه فيه الفلسفة بالشجرة تكون جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفيزياء والفروع التي تخرج من هذا الجذع هي مختلف العلوم الأخرى وهي الطب والميكانيكا والأخلاق. وقد ذكر ذلك في مقدمة كتاب مبادئ الفلسفة الذي ألفه سنة 1644 ميلادي.

تبحث التأملات الميتافيزيقية في كيفية الوصول إلى فكرة الكوجيتو عن طريق الشك وتحاول إثبات وجود الله وتعتمد نظرية الحقائق الأبدية وتفصل الخطاب في علاقة النفس بالجسم. فما هي مبررات خوض تجربة الشك؟ وكيف مثل الكوجيتو نقطة أرخميدس؟

إن الذي قاد ديكارت نحو الخروج من التقليد والابتعاد عن الانقياد الأعمى لعلوم ومعارف القدماء هو الأزمة الروحية التي عاشها والتي كانت بفعل أزمة الحضارة التي كانت تعيشها أوروبا في عصره والتي قادته إلى اكتشاف أن كل الحقائق المعروضة أمامه ليست سوى رمالا متحركة وطبقات متكلسة من الآراء. في هذا الإطار نراه يعلن الثورة ويطلب العلم اليقيني بقوله: لابد لي مرة في حياتي من الشروع الجدي في إطلاق نفسي من الأسس إذا كنت أريد أن أقيم في العلوم شيئا وطيدا مستقرا.( التأمل الأول)

إن دراسة ديكارت في المدرسة اليسوعية لافليش على يد أفضل الأساتذة لم تمنعه من الإعراض عن الجو الكهنوتي والانتفاض باحثا عن المعرفة الراسخة وكل ماهو نافع في الحياة.

السبب الثاني الذي دفع ديكارت إلى خوض تجربة الشك هو مزامنته لثورة علمية كان قد فجرها كل من كوبرنيك وغاليلي وكبلر في مجال علم الفلك والفيزياء وكانت قد غيرت مكانة الأرض في الكون وبدلت نظرة الإنسان إلى نفسه وعلاقته بالعالم المحيط به.

يبلغ الشك أوجه عندما يضع ديكارت بين قوسين الحقائق الرياضية والمنطقية وتترك الساحة للشيطان الماكر يصول ويجول كما يشاء ويضلل ويخدع مثلما يريد، لكن في هذه النقطة يستيقظ التفكير وينتبه إلى حقيقة مفاده أنه يتضاعف بقدر تقوي درجة الشك وطالما أن المعدوم لا شك ولا يفكر يستخلص أن الشك هو نمط من التفكير وأن فعل التفكير تجربة يقوم بها كائن موجود وتكون النتيجة: أنا أشك أنا أفكر أذن أنا موجود. هنا يقع إثبات الكوجيتو ويبرز الأنا أفكر بمثابة الأرض الصلبة التي يقف عليها الإنسان دون أن تميد به ودون أن يكون نفسا ناطقا أو حيوانا عاقلا وإنما جوهرا مفكرا في موقع متصل ومتعال على الجسم بما هو جوهر ممتد. في هذا السياق يصرح ديكارت: وأنا واجد هنا أن الفكر هو الصفة التي تخصني وأنه وحده لا ينفصل عني. أنا كائن وأنا موجود: هذا أمر يقيني ولكن إلى متى؟ أنا موجود مادمت أفكر فقد حصل أني متى انقطعت عن التفكير تماما انقطعت عن الوجود بتاتا.( التأملات). لقد عرض ديكارت مراحل الشك التي أفضت إلى الاكتشاف الميتافيزيقي للكوجيتو على النحو التالي:

- خوض في تجربة الشك والصعود عبر درجات مختلفة نحو تعليق كل شيء.

- اكتشاف الكوجيتو

- البرهنة على وجود الله

- التأكد من وجود حقائق واضحة ومتميزة.

- إدراك طبيعة الجسم بما هو امتداد.

- استعادة الثقة بوجود العالم الخارجي.

ثمة ربط جوهري بين وجود الأنا والتفكير من حيث الصفة المميزة لها عن بقية الكائنات، ولكن لا يقصد بالأنا الذات المجردة التي تعبر عن جميع الذوات وإنما الأنا الشخصي و:ان الحداثة تريد أن تؤكد على أهمية البحث الشخصي عن الحقيقة والتثبت الفردي من وجود اليقين عن طريق التفكير الذاتي لاسيما وأن التفكير بالإنابة غير ممكن وكما يقول هيجل في دروس حول فلسفة التاريخ:كل إنسان ينبغي أن يفكر لذاته ولا أحد قادر على أن يفكر للآخر.

كما توجد قيمة مزدوجة من هذا الاكتشاف: أولا إثبات ليقين أول يخرج الإنسان من دوامة الشك، الثاني هو أثبات الذات كشرط أول للمعرفة، وبالتالي يكون المشروع الديكارتي مشروعا انسانويا يقوم على التعالي الأنطولوجي للذات العارفة وعلى المماهاة بين الفكر والوعي والفصل الجذري بين طبيعة الفكر وطبيعة الامتداد. لكن ماهي علاقة النفس بالجسم عند ديكارت؟ وبأي معنى تصور تجربة إثبات الإنية؟

أكد ديكارت آن النتيجة التي أعقبت اكتشاف الكوجيتو هي التمييز الجذري بين النفس بوصفها الجوهر المفكر والجسم بوصفه الجوهر الممتد ووضح أن الجسم لا يمكن إدراكه حقيقة عن طريق الحواس وأي عضو آخر منه وإنما بواسطة فعل الفكر نفسه الذي يتوصل إلى معرفة الامتداد بوصفه جوهر الطبيعة. كما يقسم الأحاسيس والادراكات إلى نوعين: الكيفيات الحسية التي تأتي من الجسم ورؤية الذهن للطبيعة العقلية التي تشكل ماهية وأساس وجود الشيء الخارجي.

 يترتب عن هذا القول تأكيد الثنائية في مستوى طبيعة الذات:

- النفس وتدرك بطريقة حدسية في لمحة من لمحات الذهن وليس قياسا أو استدلالا وتحضر في أي فعل من أفعال التفكير والإرادة والحرية والشعور بالكرامة. في القسم الرابع من مقال عن المنهج يقول ديكارت: إنني في شكي هذا مدرك وجودي ووجودي متضمن في فكري وفكري حاضر بنفسه حضورا مباشرا ولو فرضنا أن شيطانا ماكرا يضللني في كل شيء فهو لا يستطيع أن يمنعني من التوقف عن التصديق ولا أن يمنعني من أن ذاتي موجودة حين أفكر.

ان النفس هي من الأشياء الواضحة والمتميزة وبالتاي هي موجدة ومتعالية على الجسم وهي جوهر فكري خالص ويقول بشأنها ديكارت:فأنا أعلم نفسي الآن موجودا مفكرا ولا أعلم بعد إذ كنت شيئا آخر غير هذا الوجود المفكر. ومعرفة النفس أيسر من معرفة الجسم لأن وجود الفكر اشد ثباتا من وجود الجسم:إني أعرف الفكر بالفكر نفسه أما الأجسام فليس بمقدورنا إدراكها إلا في الفكر وبالفكر، فمعرفتي بالنفس معرفة مباشرة ويقينية وليس يعرف الجسم إلا بالظن والتخمين. ( مبادئ الفلسفة الباب الأول).

- الجسم هو كتلة من الأعضاء تحكم قوانين دقيقة وهو آلة وجوهر ممتد ويستدل ديكارت على أن فكرة الامتداد هي جوهر الأجسام بمثال الشمع الذي تختفي ملامحه عند الاحتراق ما عدى بقعة من الامتداد الأبيض هي جوهره.

لكن إذا كان ديكارت يميز النفس عن الجسم في الميتافيزيقا فانه في المستوى النفسي والفزيولوجي يقر باتحادهما وخاصة في كتاب المبادئ في الجزء السادس حيث يقدم جملة من الأسباب المعقولة وهي: أن الحواس هي التي تدفع الإنسان إلى أدراك مادة ممتدة طولا وعرضا وعمقا وبما أن الله هو الذي أظهر لنا مباشرة فكرة هذه المادة فإننا نتصورها كشيء مغاير له وللعقل. لكن كيف ندرك أن النفس والجسم هما متحدان؟

هذا الاتحاد يتم ملاحظته عندما ندرك حدوث الألم أو الإحساس باللذة وغيره من الإحساسات ونحكم أنها لا تصدر عن النفس لوحدها بل عند مخالطتها لشيء ممتد ومتحرك هو الجسم. أن الانفعال هو أمارة على الاشتراك بين النفس والجسم لأنه ينتج الحزن والخوف والكره ويصدر عن الموضوعات الخارجية.

كما يمكن أن النفس والجسم مرتبطان عن طريق الدورة الدموية حيث يلعب القلب دور مركز الحرارة التي تدفع بالدم في العروق وهناك يختلف مع هارفي الذي يفسر حركة دقات القلب بالدوران الدموي. يطبق ديكارت هنا نظريته الآلية mecanisme على ماهية الإنسان ويشبهه بالآلة التي تشتغل وتتحرك حسب قوانين الطبيعة ويكون القلب هو السبب الرئيسي في حركتها.

من هذا المنطلق إن الإنية موجودة حتى لو فرضنا أن الجسم غير موجود لن النفس هي ما به يكون الأنا أنا وهي تستمر في الوجود طالما امتلكت وعيا وخاضت تجربة التفكير وعادت إلى ذاتها.

إن الصعوبات التي تظهر على النسق الديكارتي ناتجة عن التأويل المعطى للأنا أفكر لاسيما وأنه لا ينحصر في ديكارت ولا يتعلق فقط بالفرد المتعين في التاريخ ولا إنسان القرن السابع عشر وإنما يشمل كل كائن مفكر في أي عصر وفي أي ثقافة ومهما كان عرقه أو دينه أو لغته. فكيف احتاج ديكارت الى مسألة الضمان الإلهي من أجل ترسيخ ديمومة الإنية عبر الزمان؟

البرهنة على وجود الله:

يكفي للبرهنة على وجود الله أن تكون ضرورة وجوده متضمنة في المعنى الذي لدينا عنه

إن التحليلات التي قام بها ديكارت تتفق على نقطة أساسية وهي أن اليقين غير ممكن إذا لم يرتكز على وجود الله لأن وجود الذات الإلهية هو الضامن للمعرفة والوجود معا وهو بديهية تساعد على البرهنة ولا تحتاج إلى برهان لأنها واضحة وحاضرة بشكل فطري في الذهن. ينهض ديكارت للبرهنة على وجود الله انطلاقا من الأفكار القطرية الواضحة والمتميزة التي تيقن من وجودها بعد اكتشاف الكوجيتو. والحق أننا نجد من بين هذه الأفكار فكرة الكمال وهي فكرة من المستحيل أن تكون من إنتاج الذهن البشري لأنه محدود ومتناه. من هذا المنطلق ينبغي أن يكون هناك كائنا مطلقا هو الذي وضع هذه الفكرة في ذهن الإنسان ونستخلص من ذلك أن الله موجود وهو مصدر الكمال. الدليل الثاني هو الذي ذكره في مقال عن المنهج ويسمى الدليل الأنطولوجي أين يؤكد فيه أن الله إذا كان كائنا كاملا فينبغي أن يؤكد صفات الكمال ولما كان الوجود هو أحد أوجه الكمال فوجب أن يكون الله موجودا حينئذ، وفي موضع آخر يرى ديكارت أن صفات الله الأخرى مثل الطيبة والخلود تضمن صدق الحقائق البديهية ووجود العالم المادي الخارجي وصرامة الاستدلال الرياضي.

 الدليل الثالث هو السببية ويتمثل البحث عن سبب فكرة الكائن الكامل اللامتناهي وذلك بالبحث عن سبب وجوده هو الذي يفكر في الكائن الكامل اللامتناهي.

 هنا يرى أن الإنسان يفكر ويعرف ما في نفسه من كمال ونقص ويشك ويخطىء ويريد أن يتجنب ذلك معا ولكنه متيقن من شيء واحد وهو أن الكائن المفكر ليس سبب وجوده بل ينبغي أن يكون هناك كائن كامل يستمد منه صفة الوجود في لحظة وعن طريق القدرة اللامتناهية، في هذا السياق:أنا موجود الآن وأعرف أني لست سبب وجودي ولست بالأولى سبب بقائي في الوجود وانتقالي منى اللحظة الحاضرة الى لحظة تالية وعلى ذلك فلست سبب انتقالي من اللحظة الماضية إلى اللحظة الحاضرة. ولابد من سبب وأن يكون هذا السبب سبب وجوده ذاته وبقائه في الوجود معا أي أن يكون سبب ذاته. هذا هو الكائن الكامل ذاته الذي أفكر فيه بحيث لا يكون مفتقرا في وجوده إلى سبب ولا عاجزا عن البقاء بذاته في الوجود فهو إذن قادر على ايجادي وحفظي. هو الخالق الحافظ. وفي السياق نفسه يصرح: نحن نعلم أننا لسنا حاصلين على قوة تكفل لنا الاستمرار في الوجود أو تحفظنا فيه لحظة واحدة وأن القادر على إبقائنا خارج ذاته وعلى حفظنا لهو يحفظ ذاته بالضرورة أو لهو بالأحرى لا يفتقر لمن يحفظه وانه هو الله.

هذا الدليل يستنبطه ديكارت من الرياضيات إذ يرى أن المعرفة الواضحة والمتميزة للأجسام يجب أن تكون المعرفة الرياضية وانطلاقا منها يمكن البحث عن حقيقة أسمى من العلم الرياضي تكون أصل اليقين وأساسه. في هذا الإطار يرى ديكارت في التأمل الخامس أنه يمكن التفكير في الله وفي موضوع وجوده على نحو مماثل التفكير الرياضي والوصول بمقتضى ذلك إلى التفكير في يقين مماثل لليقين الرياضي. فكيف انعكس إثبات وجود الله على يقين وجود حقائق أبدية؟

نظرية الحقائق الأبدية:

القدرة على حسن الحكم والتمييز بين الخطأ والصواب هي أعدل الأشياء قسمة بين الناس

يعرض ديكارت في مقدمة كتاب المبادئ نظرية ميتافيزيقية في الحقائق الأبدية والتي تختلف عن المبادئ الأولية لاسيما وأنها مبادئ موضوعية توجد خارج الفكر وفي الواقع وليست ذاتية. يميز ديكارت بين ثلاثة أنواع من الحقائق الأبدية الأولى في المنطق وهي البديهيات axiomes، والحقيقة البديهية هي قضية انطلاقا منها يمكن أن نستخلص منها قضايا بديهية أخرى ولكنها قضايا منطقية وأفكار عقيمة.

النوع الثاني من الحقائق مستمد من الرياضيات ويسمى المعاني المشتركة notions communes وهي نافعة طالما أن المنهج الرياضي يقيني ومادامت الحقائق التي يصل إليها واضحة ومتميزة. إن العقل يدرك هذه البديهيات والمعاني المشتركة إدراكا مباشرا بواسطة الحدس ويعبر عنها وفق أشكال رمزية.

النوع الثالث هو من النوع الذي يصعب على الفكر الوصول إليه مباشرة نتيجة الأحكام المسبقة المتأتية من الحواس والعادة والخيال ولذلك ينبغي عليه أن يعيش تجربة التأمل الميتافيزيقي ويقوم الذهن بانقلاب جذري ضد الثقافة السائدة من أجل إدراكها لكونها مبادئ أولى. يقول كتاب مقال عن المنهج: انه صحيح أن نقوم بحروب عوض جهود في هذه الصعوبات التي تمنعنا من الوصول إلى الحقيقة.

لكن ديكارت يرى أن هذه الحقائق الأبدية ضرورية أي أنها ليست مستقلة عن الله في قيمتها وحقيقتها بل هي مخلوقة بحرية من طرف الله. لكن لماذا تتعلق هذه الحقائق الأبدية بالإله الحر؟

يؤكد ديكارت في إحدى رسائله: أن الله عمل عجائب ثلاث: الخلق والحرية والسيد المسيح وفي رسائل سنة 1630 يقرر أن العقل الإلهي لا يخضع لتلك الحقائق مثلما تخضع لها العقول البشرية ومع ذلك فان هذه الحقائق ليست جزءا من ذاته وليست موضوعات خارجة عنه ومفروضة عليه، إنها لا تصدر عنه ولا تنبعث منه لأن الذي صدر إنما صادر بالضرورة فهو مرتبط ضرورة بالذي صدر عنه وهو ما يمتنع تصوره في الله الذي لأي خضع لشيء ولا يرتبط بشيء وان يخضع لمشيئته كل شيء.

 من البين إذن أن ديكارت يتحدث عن الحقائق كماهيات وطبائع ثابتة يتقبلها العقل ويرى أنها غير مستقلة عن الله ولا يخضع لها بل يريدها ويخلقها، حول هذا الموضوع يصرح ديكارت:إن الله لا يعرفها لأنها حقائق ثابتة بل إنها حقائق ثابتة لأن الله يعرفها. لكن كيف تخضع الحقائق الأبدية لمشيئة الله؟

انه مماثل لخضوع المخلوقات للخالق، فالله خلق هذه الحقائق بكونه أرادها وفهمها منذ الأزل وهو يريد ويفهم ويعلم في نفس الوقت وبنفس المعنى في وحدة مطلقة وبما أن هذه الحقائق مفهومة لدى الإنسان وفي مستوى إدراكه وفي متناول معرفته فإنها مخلوقة مثله وخاضعة لقدرة الله ومشيئته، كما تمثل الحقائق والقوانين العلمية وسيطا بين الإرادة الخالقة والإنسان فهي خاضعة لله من جهة ومفهومة من قبل الإنسان يستطيع اكتشافها واستغلالها من جهة أخرى. إن الإنسان لا يقدر على تغيير هذه الحقائق لأنها أبدية ولأن الله وحده الذي أرادها وإرادته لا حدود لها وهي ما يمكن فهمه على الإطلاق لأن العقل في الله لا يسبق الإرادة ولاسبق زمني أو منطقي في الله. إن الله غير مفهوم لنا نحن المخلوقات لأنه القادر المريد ولأن قدرته لا يحدها شيء كما أن حريته لا يفسرها أو يعنيها شيئا فهو قادر مثلا على عدم خلق العالم أو على إنهاء الحياة في الكون في أي لحظة شاء ويمكن أن يجعل زوايا المثلث لا تساوي لزاويتين قائمتين وان يجعل أقطار الدائرة غير متساوية. وينتهي ديكارت إلى هذه النتيجة الباعثة على الحيرة: لقد أراد الله هذه القوانين في العالم الطبيعي مثلما يريد ملك من الملوك القوانين في مملكته.

علاوة على ذلك يقسم ديكارت الأفكار التي توجد في النفس إلى ثلاثة أنواع:

- أفكار خارجية صادرة عن الحواس وتمثل جملة من الانطباعات والكيفيات وتدل على موضوعات خارجية مثل أفكار اللون والصوت والطعم وتتركب من الأجسام والأحداث.

- أفكار مصطنعة يركبها الخيال من الأفكار الخارجية وهي لا تحيل إلى الواقع ولا تفيد معنى.

- أفكار فطرية نتعرف عليها بمجرد النظر في طبيعتها وهي راسخة في النفس مثل الشيء والوجود والذات والحقيقة والامتداد والله.

إن فلسفة ديكارت تتضمن مواقف ميتافيزيقية خطيرة وان معرفة الإنسان لذاته تمر حتما عبر معرفته لله وإذا كان الوجود المعقول بوجه عام مخلوقا يستطيع الإنسان ألا يرتبط به وألا يخضع له فإن الله قادر على أن يوجد مخلوقات لا تظهر على حقيقتها ويبدل سنن الكون متى شاء والتدخل في الطبيعة.

غاية المراد أن ديكارت يشير إلى أن الله يخلق الحقائق الأبدية ويضعها في الطبيعة بإرادته ويترك للإنسان الحرية للتصرف في الطبيعة كما يشاء ولحكم العالم وهكذا تكون الميتافيزيقا هي أساس الفيزياء والتيولوجيا هي جذور الفلسفة الطبيعية الجديدة التي يصنعها على هدي النور الفطري للعقل. فكيف ستظهر هذه الإرادة الإنسانية الغازية للطبيعة على الصعيد العملي؟

* كاتب فلسفي

...................................

المراجع:

Œuvres et lettres de Descartes publiées par Birdoux. Paris La Pléiade 1937.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 2/تشرين الثاني/2009 - 13/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م