التأرجح بين لغة الشعر ولغة العقل

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: بعد صدور ديوانه الاول (الترقب / بغداد /1987) إختفى الشاعر هاشم معتوق واختفى شعره ايضا لسنوات مديدة حتى خُيِّلَ لنا أن الشاعر تاه في أرض الله الواسعة حد الذوبان وانطفأ شعره معه وأخذته الحياة الغربية في دوامتها، غير أن الهوس الشعري المتأجج في ذات المعتوق أعاده الى حاضرة الشعر ليطل علينا بعد سيل من الاعوام (بسيل من القصائد) كتبها بطريقته الخاصة محاولا ان يبتعد عن الآخرين مسافة قد لا تخضع لقياس، وبين أيدينا مجموعة من القصائد أعطاها المعتوق عنوانا ذا نزعة (فردية / جمعية) في آن حيث الشيء بذاتيته المفردة ينم للقارئ عن طابع او تطلع شمولي وكأنه يريد أن يحتوي العالم بطموحه الشعري.

 وهنا (أتذكر مزحة كان يرددها هاشم معتوق قبل تحليقه الى المنفى المجهول في حينه فارّا من اتون الحرب نهاية عام 1987 حين كان يقول لاصدقائه وانا منهم – إن الحائل الوحيد بيني وبين نوبل هو الشعر الصيني-) من هنا أستطيع أن أفهم بأن الشاعر المعتوق كان يضع الشعر صنوا لحياته وقرينا مزمنا لتطلعاته.

 وسنقرأ في قصائد (شيء من كل الاشياء) تجربة رؤيوية ذات طابع يبغي التفرد او الانعزال عن الآخرين في التعاطي مع الشعر، فهو وإن كان ولا يزال يميل الى القصيدة القصيرة المقتضبة الشافية الكافية برغم تكثيفها، لكنه في الوقت ذاته يسبكها بلغة تكاد تتقاطع مع لغة الشعر وتحاكي لغة العلم أو (العقل) اذا جاز التوصيف، وبهذا التشخيص تبدو الموازنة قاسية بل وخطيرة في الوقت نفسه، إذ كيف نتخلى عن لغة الشعر في حين نبغي التقرب إليه بلغة لا تحابيه ولا تتقرب منه؟!!!.

إنني أزعم هنا بأن الخانة التي ينعزل فيها هاشم معتوق عن غيره من الشعراء مكوَّنة من لغة (جافة) لا تحابي المتلقي ولا تتودد إليه كما هو معهود لدى شعراء آخرين، ان كلمات العاطفة وتوابعها تكاد تشطب نفسها من قاموس المعتوق الشعري، يوازي ذلك حضور طاغ للغة (التعقل) والوعظ المقيت أحيانا، لكن كيف ينتهي الشاعر هاشم معتوق الى كتابة قصيدة ناجحة؟ ومن أين له القدرة على مجافاة اللغة المتوددة المحابية وفي ذات الوقت يمكنه الانتهاء بلغتة (الحكيمة) الى قصيدة مورقة تحرك الاخضرار في روح المتلقي وتستدرج فيه هاجس الكشف والبحث المتواصل عمّا وراء النص؟؟؟.

إن هذه الأسئلة وغيرها الكثير يمكن أن نجد الاجابة عنها في عدد من قصائد (شيء من كل الاشياء)، ففي قصيدة - التناسب أثناء الوجود – سنصطدم بعنوان جاف إذ تذكرنا مفردة التناسب (بالنظرية النسبية لألبرت أنشتاين) كما ان الوجود (مضمونا) ومفردة تداولتها البحوث الفلسفية لدرجة اننا يمكن ان ننسبها لهذا الحقل بلا تردد.

 ما أريد أن أصل اليه هنا ان قصيدة بهذا العنوان ستجعلني أمام نص شعري (علمي) لكن في الوقت ذاته ستزرع في داخلي رغبة خفية للكشف عن خفايا هذا النص او ماهيته، فلو كان العنوان عاطفيا قد أتوقع افكاره ومضمونه سلفا ولربما أذهب عنه بعيدا، ولكن عنوانا ذا طابع علمي كـ (التناسب اثناء الوجود) سيتمسك بي حتى أفرغ من قراءته ومعرفة فحواه، وما سيثير المتلقي تلك (الحيرة اللذيذة) التي يتركها المتن الشعري لديه بعد أن يتجاوز صدمة العنوان، ولنقرأ هذه القصيدة ونقارن بين ما أحدثه العنوان وما سيحدثه المتن لاحقا:

(شديد المودة

تأكلك النساء

كقطعة حلوى

الذين يشبهونك هم الفقراء فقط

الذين يصنعون منك طعاما

مائدةً

مزدحمة بالإخضرار)

ان هذه القصيدة ذاتية كما ستبدو للقارئ، وهي كما ذكرت سابقا تخلو من مفردات الشعر ذات الطابع العاطفي، لكن مطلعها وعمقها وفحواها الكلي، هذه العناصر ذات النزعة المتماسكة تقدم لنا قصيدة (متسارعة) وصادمة في ذات الوقت، وسيبدو من غير الممكن مقارنتها بقصائد عاطفية او علمية برغم ان مفتاحها (العنوان) ينسبها إيحاءً الى حقل الشعر العلمي. وفي قصائد أخرى سيبقى هذا المذاق المحيِّر واللاذع حاضرا وستبقى لغة الشاعر مقتصدة الى حد البخل ولكنها ذات مديات يدركها الخيال المتفتح للقارئ المتدرب.

وفي قصيدة (سعادة العراق المبجل) سيصدمنا الوضوح في منحى مناقض وستنهض المفردات بقاماتها المديدة لتبني هيكلا شعريا صريحا يتطابق مفتاحه مع خفاياه لنصل الى غاية الشعر بسرعة بالغة وهي سمة قلما نجدها في قصائد هاشم معتوق السابقة او اللاحقة:

(وطني الذي تقوده المسافات

الوطن الوحيد

الوطن المهيمن في الصيف

والمهيمن في الشتاء

الوطن الذي يتلقى الأوامر من الشمس

الوطن الذي ليس له احد

ولا شبيها

إلاّ النهار)

ومن هنا يتبين لنا ان التنويع في المضامين الشعرية ربما يشكل سمة من سمات نجاح الشعر، ذلك ان النمط الشعري الواحد حتما سيدفع بقارئه الى حافة الرتابة والملل، ومن ثم غياب هاجس التطلع والترقب والاكتشاف الذي يعد سمة من سمات العصر ليس في مجال الادب فحسب بل في مجالات الحياة برمتها.

وفي عودة الى المنحى الاول في قصيدة أخرى تحمل عنوان (ولادة فقاعة) سيعيدنا الشاعر الى اجواء التأمل ومحاولة الكشف عن الخفايا ترافق ذلك (لذة جديدة) يطمح اليها الشعر دائما، فنقرأ في ولادة فقاعة:

(الإتجاه الصحيح

محض صدفة

الإتجاه الخطأ

محض صدفة

من الرحم

من بالونة هواء

لا شيء سوى

إننا نخرج من التفاهة

لنُدفَن في مرقد مقدس)

إن هذه الومضة الشعرية الخاطفة ستترك قارءها ساهيا مصدوما على قارعة الشعر، لكنه في الوقت عينه سيشعر بالامتلاء أو التعلق بالنص وكذلك برغبة البحث المتواصل عما خلفته فيه (ولادة الفقاعة) من تأثير غامض وعصي على الفهم وهي سمة من سمات الشعر او الأدب المعاصر، فلو ان كل شيء جاء مهيَّأ للمتلقي من أجل الوصول الى فحوى الشعر بسهولة ويسر لانعدمت حاجتنا الى عدة القراءة الفاعلة.

وسنجد مثل هذا التناوب الرؤيوي موزعا على قصائد أخرى لهاشم معتوق الذي لا يزال يكتب في عزلته مشغولا بذاته الشعرية بالرغم من ان هذا الانكباب وهذه العزلة ذات الطابع المرسَّم سلفا ترسم للمتابع أكثر من علامة استفهام؟؟؟.

.........................................................................

*هامش:

شاعر من العراق.

مواليد 1955، يعيش حاليا بفنلندا.

إصداراته

الترقب- ديوان شعري عن دار الشؤون الثقافية ببغداد 1987

النحلة بعد الربيع – ديوان شعري عن دار افكار بفرنسا 1993

الوطن الكريم – ديوان شعري  2006

شيء من كل الأشياء – ديوان شعري  2007

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 28/تشرين الثاني/2009 - 8/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م