الانتخابات العراقية وصراع الأقطاب

د. محمد مسلم الحسيني-بروكسل

كتب على العرب إما أن يحكموا تحت وطأة دكتاتورية قاهرة أو يعيشوا في ظلال ديمقراطية حائرة! ديمقراطية تكون فيها الأحزاب المتنافسة على السلطة مقيدة بأجندات خارجية ومرتهنة بولاءات أجنبية تحدد مسارها وترسم ستراتيجياتها.

 وهكذا تنقلب عندنا مقومات الحضارة الى معضلات ومحن، فلمسات الديمقراطية تبعثر كياناتنا وهمسات الحرية تفزع نفوسنا وحقوق الإنسان تفسد أحوالنا وكأننا نسير بإتجاه مخالف لإتجاه حركة التطور والمدنية. لا نستطيع ان نتغيّر وإن تغيرنا بطرت معيشتنا وأنقلبنا على أنفسنا وضعنا في متاهات الأحداث والزمن....

من أهم أسباب محن العراق وعذاباته هو تدخل الأطراف الخارجية في شؤونه الداخلية.... ففي ظل الديمقراطية المولودة اصطناعيا وبوجود التركيبة الخاصة بالمجتمع العراقي الذي هو عبارة عن نسيج هجين غير متجانس بأطيافه ولغاته وقومياته وأديانه وطوائفه وولاءاته، أصبح العراق ساحة مناسبة للعبة جر الحبل العراق محاط ومن كل الأطراف بدول تتناقض في رؤاها وأهدافها وطموحاتها وستراتيجياتها.

 كل دولة من هذه الدول تحاول أن تسحب الحبل الى خانتها وتكسب اللعبة. وفوق هذا وذاك فأن المحتل الأجنبي الذي يمسك بأعناق السياسيين العراقيين يحاول جاهدا أن يدير وجوههم الى الوجهة التي يبتغيها والى الوضع الذي يريد.

الصراع هذا اليوم محتدم بين الأطراف خارجيّا وداخليّا فكل طرف يحاول أن يكسب الجولة ويربح كرسي رئاسة الوزراء. الانتخابات الأولى التي جرت عام 2006م تمخضت عن فوز الائتلاف العراقي الموحد الذي كان يضم في كيانه الأحزاب الإسلامية الشيعية المعروفة بموالاتها لإيران. هذا الفوز خيّب أمل الأمريكيين حيث سارت الرياح بما لا تشتهيه السفن الأمريكية. فأمريكا لم تأت الى العراق، وهي رافعة شعار الديمقراطية، كي تخلق حكومة إسلامية مواليه لإيران، العدو اللدود المصنف كمحور من محاور الشر في قواميسها.

 لا مناص لأمريكا، في حينها، أمام هذه الحقيقة المرّة، إلاّ أن تتجرعها وإن كانت كالعلقم وما عليها إلاّ أن تظهر نفسها كطرف محايد لا يتدخل بالشأن العراقي الداخلي، خصوصا وأن كل تحركاتها مرصودة من قبل عيون المجتمع الدولي التي تراقب الأوضاع عن كثب.

تقبلت أمريكا مكرهة نتائج الإنتخابات الأولى في وقتها، لكن يصعب عليها أن تتقبل نفس النتائج الآن وذلك لأسباب عديدة أهمها: حينما قادت الأحزاب الإسلامية الحكم في العراق كان الجيش الأمريكي منتشرا في المدن العراقية ومتواجد بكثافة على الأرض مما لا يسمح بأي تغيرات على الساحة أو أي تدخلات إيرانية مباشرة بالشأن العراقي. إلاّ أن الصورة قد تتغير بالمستقبل المنظور حيث أن الأمريكيين عازمون على الرحيل من العراق مع الإبقاء على قواعد محدودة فيه، لأن بقاءهم بكثافة يثقل كاهلهم ويحدث خسائر مالية وبشرية يصعب تحملها.

رحيل الأمريكيين عن العراق بوجود حكومة إسلامية موالية للإيرانيين يعتبر إنتحارا للمصالح الأمريكية وتهديدا لستراتيجياتها. لا يمكن لأمريكا القبول بتقديم العراق هدية مجانية لعدو تخشاه وتخشى تحركاته وهي التي ضحت بالكثير من أجل مصالحها الستراتيجية بهذا البلد.

إذن ما هو الحل وكيف ستتصرف أمريكا من اجل ضمان حجز السلطة للقوى السياسية التي تواليها والتي لا تربطها صلة قوية بإيران؟.

المراقب السياسي وفي ظل ما هو موجود على الساحة يستطيع أن يضع السيناريوهات النظرية التالية: الأمر الذي تخشاه أمريكا هو وصول الأحزاب الإسلامية للسلطة مرة أخرى، فالذي يجب أن تصنعه هو إما أن تشق هذه الأحزاب المتآلفة مع بعضها وبذلك تنقسم على نفسها وتتبعثر الأصوات المعطاة لها، وأما ان تصنع تكتل سياسي كبير موالي لها يستطيع أن يضم بعض الكتل السياسية الكبرى في العراق، فتحقق عند ذلك إئتلافا سياسيا كبيرا قد يكسب أغلبية الأصوات في البرلمان العراقي الجديد ويسحب البساط من تحت أقدام الأحزاب الإسلامية المتحالفة مع بعضها. هذه القوى السياسية ربما تضم غالبية الأحزاب الكردية والسنية وكذلك الأحزاب العلمانية الشيعية أو تلك التي لم تنضوي ضمن قائمة الإئتلاف الوطني العراقي الجديد الذي تكوّن على غرار الإئتلاف العراقي الموحد.

الإنشقاق في التآلف الشيعي قد حصل فعلا حينما رفض السيد المالكي اللحاق بالإئتلاف الجديد وأعلن عن عزمه خوض الإنتخابات بقائمة منفردة أو متآلفة مع قوى أخرى، خصوصا وهو يشعر بنشوة النصر الساحق الذي حققه في إنتخابات مجالس المحافظات التي جرت في شهر كانون الثاني "يناير" المنصرم. هذا الإنشقاق سيخدم الهدف الأمريكي أن إستمر وتبلور، لأنه سيضعف إمكانية نيل الإئتلاف الوطني الجديد على الأغلبية البرلمانية المنتظرة. وهكذا تجلت حساسية الموقف على الإيرانيين إذ كان ذلك واضحا من خلال الضغوط القوية التي سلطتها إيران بشكل مباشر وغير مباشر على المالكي، وكان آخرها زيارة وزير خارجية أيران منوشهر متكي الى العراق في التاسع والعشرين من شهر آب "أغسطس" الماضي التي حث فيها المالكي على ضرورة اللحاق بركب الإئتلاف الوطني الجديد، كي لا تتبعثر اصوات الشيعة وتنتصر الأحزاب غير الموالية.

نتائج الإنتخابات القادمة "إن حصلت!" ستكون حاسمة وحساسة لكل الأطراف، فكل طرف يحاول حشد الإمكانيات لصالحه. ففي حالة بقاء المالكي في قائمة منفصلة فستكون نتائج المحاور الرئيسية المتنافسة كما يلي: كتلة الأحزاب الكردية، كتلة أحزاب السنة العرب، كتلة الأحزاب العلمانية، كتلة الأحزاب المتآلفة ضمن الإئتلاف الوطني العراقي وكتلة المالكي المتآلفة مع بعض الكتل السياسية الصغيرة تحت إسم " إئتلاف دولة القانون".

 أمريكا ربما ستحاول الضغط على الأكراد بإجراء تحالفات مع أحزاب علمانية كالقائمة العراقية بقيادة أياد علاوي وغيرها، وكذلك مع الأحزاب السنية التي لا ترغب بحكومة إسلامية شيعية توالي إيران. فإن نجحت بكسب الأكثرية من خلال هذه المحاور الثلاث فإنها سوف لن تبالي بورقة المالكي. أما لو فشلت بالوصول للأغلبية البرلمانية فإنها قد تحاول إقناع السيد المالكي بخلق تحالف مع الأحزاب العلمانية والسنية والكردية من أجل الوصول الى تلك الأغلبية. خصوصا أن المالكي كثيرا ما غازل الأمريكيين في رؤاهم. فقد قضى على تمرد الصدريين بالبصرة وأبدى إستعداده للمصالحة الوطنية مع المعارضة العراقية التي تدعو لها أمريكا وأخيرا هجومه الحاد على سوريا إبان التفجيرات الدامية التي ضربت بغداد مؤخرا ومحاولة رفع شكوى عليها في المحاكم الدولية وغيرها من الأمور التي قد تجعل الأمريكان يثقون به أكثر من غيره في باقي الأحزاب الإسلامية.

علما بأن دخول المالكي بتحالف إنتخابي مع قوى علمانية وكردية وسنية سوف يجعل حركته محنطة ومحدودة حيث لا يستطيع السير إلاّ بالطريق المرسوم له، خصوصا إن الأحداث على الساحة قد بيّنت بأن الإهتمامات السياسية لهذا الرجل قد تفوق كلّ شيء.

أما لو حقق السيد المالكي المطلب الإيراني وألتحق بركب الإئتلاف الوطني الجديد سواء كان ذلك قبل أو بعد الإنتخابات المزمع إجرائها فالصورة ستكون أصعب بكثير أمام المناورات الأمريكية، إلاّ أن الأمل عند الأمريكيين قد يبقى قائما بالوصول الى الأغلبية البرلمانية الموالية لهم نظرا للأسباب التالية: يصعب على الإئتلاف الوطني العراقي الجديد، بغياب أو حتى بوجود السيد المالكي، أن يحقق نفس نسبة النجاح التي حققها في الإنتخابات الأولى وذلك لعدّة أسباب: لم يفلح الإئتلاف السابق الذي قاد الحكومة أن يحقق مطالب الشعب في الخدمات الضرورية من ماء وكهرباء وفرص عمل وتحسين للحالة المعيشية والإجتماعية، كما أن الأمن والإستقرار بقي هشا حيث أثبتت الأحداث الأخيرة أن حمى العنف قد ترتفع في أي لحظة من الزمن، كما أن الفساد المالي والإداري قد بلغت ذروته في هذه الفترة وغيبت الكفاءة عن مواقعها مما زاد من سوء الأوضاع وتدهور الأحوال. وفوق هذا وذاك فقد تناثر الإئتلاف الموحد وهو في قلب السلطة مما أعطى صورة سيئة أمام الناخب على هشاشة هكذا إئتلافات لا تصمد أمام النزعات وسرعان ما تتفكك وتندثر بسبب تزاحم المصالح الفردية والحزبية.

كما علينا أن لا ننسى تأثير وفاة السيد عبد العزيز الحكيم " رئيس المجلس الأعلى الإسلامي ورئيس الإئتلاف العراقي الموحد السابق" على لحمة الإئتلاف وعلى هيبته وقوته وصيرورته.

هذه الخبر المريرة قد تجعل الناخب الشيعي، على وجه الخصوص، إما أن يكون أقل تحمسا وتلهفا لإنتخاب أحزاب إسلامية، لم تحقق له طموحاته، فيغيّر وجهة نظره وينتخب أحزاب علمانية هذه المرّة، أو قد يفقد ثقته بالعملية السياسية جملة وتفصيلا ويبقى في داره دون حراك في يوم الإنتخابات. وهذا ما سيجعل عدد أصوات الناخبين أقل من العدد المحصى في الإنتخابات الماضية.

 أما لو صوّت البرلمان العراقي على صيغة القائمة المغلقة أو أبقي على أصول قانون الإنتخابات القديم، فهذا يعني الطامة الكبرى، ويعني عكوفا صريحا عن صناديق الإقتراع بل قد يحصل تمرد على العملية السياسية جملة وتفصيلا!. وهذا ما سيشكل مأزقا لا يصب في نتائجه العامة لصالح أي من الإئتلافين الشيعيين المتنافسين على السلطة. بل سيكون نقطة كسب لصالح الخانة الأمريكية التي ستبقى تنظر بعين الحزم والحذر نتائج الإنتخابات المقبلة التي ستكون حدّا فاصلا في لعبة جر الحبل بينها وبين الغريم الإيراني.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 24/تشرين الثاني/2009 - 4/ذو القعدة/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م