سنغافورة .. هذه الجزيرة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 700
كيلومتر مربع، وعدد سكانها لا يتجاوز الأربعة ملايين ونصف نسمة، معظمهم
خليط من الجنسيات الصينية والماليزية والهندية والأوروبية.. تحتضن
اليوم أكثر من 20 ألف مصنع، تنتج مختلف المنتجات الصناعية والزراعية
والطبية والنفطية.
وتعمل مصانعها الكثير من الصناعات التحويلية كصناعة المطاط والقصدير
والبلاستيك والألمنيوم والحديد والنسيج والأثاث وتكرير النفط. والأهم
من كلّ ذلك، تعتبر الصناعات الإلكترونية وصناعة المال هما فخر الصناعات
السنغافورية.
هذه الخلاصة السريعة عن النمر الآسيوي تدعونا للنظر والتمعّن في
التقرير الذي أصدرته نهاية شهر أغسطس منظمة الخليج للاستشارات الصناعية
(جويك) ومقرها الدوحة. وقد تطرقت إلى التقرير معظم الصحف الخليجية وبعض
الصحف العربية، صحيفة (الحياة) الصادرة في لندن نشرت في صفحتها
الاقتصادية بتاريخ 25 أغسطس العنوان التالي: (الصناعات التحويلية في
الخليج تستقطب 150 بليون دولار في 12 ألف مصنع).
العنوان أوجد في ذهني العديد من الأسئلة والاستفهامات، وفتح أمامي
المجال للولوج في عالم الصناعات التحويلية، وقد سألت نفسي: أيعقل أنّ
جزيرة صغيرة كسنغافورة - والتي لا تمتلك موارد طبيعية كالنفط والغاز -
تستطيع أن تستقطب أكثر من عشرين ألف مصنع على أراضيها، بينما دول مجلس
التعاون الخليجي مجتمعة بمساحتها الشاسعة ومواردها الطبيعية الهائلة
وأرصدتها المالية الضخمة يوجد على أراضيها 12 ألف مصنع فقط ومعظمها
مصانع متوسطة وصغيرة من الورش ومحلات الأشغال اليدوية؟ إنني لا أقلّل
من قيمة التقرير ولا من جهود الأخوة القائمين في المنظمة الذين يعملون
مشكورين على خلق مناخ سليم للنهوض بحركة التصنيع في بلداننا الخليجية،
لكنه يجب الاعتراف بأنّ حركة التصنيع في بلدان الخليج أصبحت تمشي أبطأ
من مشي السلحفاة لغاية التسعينات من القرن الماضي، ولازالت لا تسير وفق
الطموح.
يبدو أن ارتفاع أسعار النفط قد ترك تأثيرًا سلبيًا على حركة
التصنيع، فلم يعد أصحاب القرار يفكرون في تنويع مصادر الدخل والإنتاج
وتنمية الصناعة معتمدين على المداخيل التي تأتي من بيع النفط. هذه
الاتكالية المفرطة على النفط أضعفت روح المبادرة لدى صنّاع القرار في
بلداننا. لا شك أن بعض الصناعات الثقيلة التي أنشأت كصناعات الحديد
والصلب والألمنيوم والبتروكيماويات والصناعات التحويلية قد أوجدت بيئة
أساسية لحركة التصنيع في الخليج، إلا إنني لا أجد أي تفسير لعدم توجه
دول الخليج للصناعات الالكترونية والبرمجيات والرقائق الدقيقة رغم أن
هذا النوع من الصناعات الدقيقة لا تأخذ حيزا من المكان ولا بحاجة إلى
أيدي عاملة كبيرة، كما لا أعتقد أن توطين هذا النوع من الصناعة محرم
على دول الخليج.
في العام الماضي زار منطقة الخليج قائد نهضة سنغافورة الحديثة (لي
كوان يو)، والذي أوجد في عهده معجزة صناعية في تلك الجزيرة الصغيرة. في
ختام زيارته ألقى محاضرة قيّمة في المنتدى الاقتصادي الذي عُقِد
بالرياض في شهر يناير من العام الماضي. كلماته التي صدرت من القلب
اخترقت قلوب الحاضرين الذين احتشدوا لسماع ما يبوح به هذا القائد
الفذّ. فبدأ “لي” كلامه قائلاً: “لو وُلِدتُ سعوديًا وأُعطيت هذه
المهمة انطلاقًا من بداياتنا لطرحت سؤالاً مفاده: ما الذي سيزيد من
أهميتي بالنسبة لدول العالم؟ حتمًا إنّه ليس رملي، ولا جمالي، بل إنّه
نفطي، فهذا المورد مورد نادر جدًا. والسؤال هو: كيف نفعّل قيمة هذا
النفط مع ندرته في المستقبل؟ ويجيب: إنّني لن أستهلكه فقط للتزوّد
بالطاقة، بل سأستثمره في صناعات أخرى تعتمد على النفط كصناعة المواد
البلاستيكية والنقل. فعليكم تطوير هذه الصناعات بحيث يقوم شبابكم بها
بأنفسهم، ومن المهم أن تقيموا صناعات تسمح لمواطنيكم بالاستثمار فيها،
ولابد أن ترسلوا أبناءكم للعمل في الدول المتقدّمة ثم العودة إلى تأسيس
أعمال صناعية ومصارف إسلامية جديدة في بلدكم، فالمهم أن تتعلّموا كيفية
استثمار احتياطيكم النفطي وكيفية إدارة مواردكم لتحقيق أكبر فائدة
ممكنة”.
تأملت كثيراً في النصائح التي قدّمها (لي كوان يو) للتجار وأصحاب
القرار السعوديين، وكأنّه أراد أن يقول: لا تضّيعوا الفرصة .. استثمروا
احتياطاتكم النفطية استثماراً مفيداً .. يجب أن تستثمروا في العنصر
البشري من خلال تعليمه وتدريبه وتنمية مواهبه. كلام الزعيم السنغافوري
موجّه لكلّ المسئولين وأصحاب القرار في دول مجلس التعاون الخليجي. |