الاسلام والديمقراطية في عالم متعدد الأقطاب

د. محمد سعيد الطريحي

جاء في ديباجة ميثاق الامم المتحدة الموجهة لشعوب العالم مايلي ((أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معاً في سلام وحسن جوار)) وفي هذا السياق علينا أن نكافح من أجل هذه الرؤية لعالم واحد يكون كل الناس فيه جيراناً، وما نعتقده أن تبني الديمقراطية هو الذي يعزز هذه الرؤية، وليس في ذلك ما يخالف التفكير الديني، لكن المشكلة في استخدام النصوص الدينية أو تأويلها،ففي الأديان كافة يمكن الاستشهاد بنصوص تعارض أو تخالف الديمقراطية.

وفيما يتعلق بالاسلام فأعتقد أن هذا الموضوع قد أَشبع نقاشا فهو وان اخذ اول مرة بالريبة والأنكار فإن غالبية المسلمين يبدون أكثر تفهماً له ودعوة للأخذ به والقول الذي هم عليه أن ليس في الاسلام ما يمنع الديمقراطية بإعتبارها نظاماً للحكم بل هي الحل لكل مشكلاتنا القائمة ولا يمكن لأي فئة أن تطبق برامجها دون الوصول اليها، بما في ذلك مفاهيم الارادة الحرة للمواطن في اختيار نوعية الحكم والتعددية السياسية، وتداول السلطة، وحريَة التعبير عن الرأي، والمساواة أمام القانون، وتقييد السلطة التنفيذية بدستور يحفظ حق المواطن وغير ذلك من الآليات الديمقراطية.

 ويمكن الرجوع في تلك المفاهيم للقرآن الكريم كما هو شأن الشورى في قوله تعالى وشاورهم في الامر و امرهم شورى بينهم و ما عبر عنه عن التعددية و حق الاختلاف في قوله (( لا إكراه في الدين )) والنصوص الدينية الاسلامية زاخرة الدلالة على مفاهيم الديمقراطية بشكل عام وربما أن الضيق والحرج الذي يبديه بعض الاسلاميين من (الديمقراطية) كمصطلح غربي وافد عليهم من الخارج، أو أن بعض هؤلاء الواغلين في التطرف انصرفوا الى مصطلح الحاكمية الذي استخدمه (المودودي) وطوَره سيد قطب فيما بعد ليكون بديلاً عن المصطلحات الغريبة فأخذوا يبشرون بدعاوى هلامية غير قابلة للتطبيق ومع أنها سهلة الدخول الى عقول العامة لكنها كرَست الاستبداد والارهاب في أبشع صوره اذ اختصرت في أذهانهم فكرة الخلاص والتسليم الى نواميس الكون واستخدمت ذلك بعض الحكومات في العالم الاسلامي لتثبيت سلطتها ثم اتجهت الى ارهاب الآخرين وتصفية الخصوم وتكفير الاقليات ومصادرة حق الجماهير في التعبير والتفكير.

 وقد ساهم المفهوم الغربي (بحق أو بغير حق) حول استحالة حكم الدين مما اعطى الفرصة لاشاعة تلك الافكار المتطرفة في عالم يعاني من الظلم والتخلف والامية وقد آن الآوان لللاعتراف بدور الدين في التغيير الديمقراطي العالمي لاسيما بعد أن تبينت وبشكل غير قابل للبس أن المفاهيم التي تدعو اليها الديمقراطية هي من أسس الاديان جميعاً ومن بينها الاسلام، وما دام الأمر كذلك فما المانع أن نعيد النظر في دور الدين في المجتمعات الانسانية وأهميته بدقة فليس بالضرورة أن نطبق النموذج الغربي للديمقراطية بشكله المتبع في الغرب، فإن المجتمعات الانسانية تختلف بطبيعتها وتركيبها والمهم أن تكون الروح الديمقراطية هي الأساس فلو توصلنا الى نتيجة إيحابية في هذا الصدد نكون قد نجحنا في الانتقال السلمي من الديكتاتورية الى الديمقراطية والمجتمع المدني.

 ولا شك أن الطبقات الدينية تنظر باهتمام الى التجربة الديمقراطية ولكن يعوزها الثقة والاطمئنان لللانظمة السياسية القائمة في الغرب فلو أمكن معالجتها لاجتزنا المخاطر الحقيقية التي تحيط بعالمنا.

ثمة مشكلة يعاني منها أبناء الأديان الكبرى أنفسهم بسبب ثقافة الالغاء وتبادل التهم والجدال القائم بين علماء الاديان حيث ان كل دين يحتمي بأنظمة لاهوتية موجهة لدحض لاهوتيات الدين الآخر وهكذا بالنسبة للفرق المتشعبة من تلك الاديان فلابد والحالة هذه أن يتعاون الحكماء في هذه الاديان للخروج بصيغة للتعاون والتسامح فيما بينهم لانها الطريق الحقيقي لبناء الثقافة الديمقراطية فليس هناك ديمقراطية بدون ثقافة مناسبة تمهد لوجودها.

والتحدي الأكبر للديمقراطية هو أن هنالك حكومات في العالم الإسلامي تحتضن الحركات المتطرفة التي تروَج للرأي القائل بأن الديمقراطية لا تناسب المسلم وقد عانت المجتمعات الاسلامية كثيراُ من هذه المجموعات السلفية المتحجرة التي تقف عائقاً حاجزاً بين الشعوب وبين الديمقراطية، وقد تجاوزت بأعمالها التعصب الأعمى الى الارهاب والعنف الدموي، وكل ذلك يجري تحت نظر وسمع الدولة الراعية لهم، بالاضافة الى أثر ذلك على حياة الأقليات باضطهادهم واستخدام أبشع أساليب الظلم والتمايز العنصري والاقصاء والالغاء بالقوة والارهاب، وما ذلك إلاً بسبب فقدان الممارسة الديمقراطية ومن بينها حرية تداول السلطة واحترام الحياة، والحرية، والعدالة والانصاف والاحترام، وبدون هذه القيم الدينية والديمقراطية لا يمكننا أن نطور بلداننا أو تحويل جوارنا العالمي القائم على التبادل الاقتصادي والاتصالات الى مجتمع عالمي أخلاقي يرتبط فيه الناس بما هو أكثر من روابط الجوار أو المصلحة أو الأهمية. وجميع ذلك نابع بطريقة أو باخرى من المبادئ الدينية التي تنسجم مع مفهوم الديمقراطية.

وخير مصداق على هذا الانسجام قول الامام علي عليه السلام في عهده الذي كتبه الى مالك الأشتر حينما وَلاه على مصر اذ قال فيه يخاطبه:

((وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم و لا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إمَا أخ لك في الدين، وامَا نظيرٌ لك في الخلق)).

أخيراً.. فهناك ملاحظة جديرة بالتأمل ويمكن أن تكون بوَابة ممهدة للديمقراطية الى بلدان العالم الاسلامي، فوجود الملايين من المسلمين في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية واستراليا والغرب عامة، يمكن أن يلعب دوراً ايجابياً وجسراً للديمقراطية، لأن المسلمين الغربيين تعاملو مع الديمقراطيات القائمة وشهدوا التحولات الديمقراطية في العقود الأخيرة المنصرمة فتقبلوها وهم اليوم يُدافعون عنها بقوة، مع استثناء بعض اتباع الحركات الاسلاموية السلفي المتعصبة التي ترى في الغرب شرَ مطلق وهم قلة قليلة يمكن مقارنتهم مع القلة القليلة من العنصريين الموجودين في الغرب أيضاً.

لا يبدو ـ حسب وجهة نظري ـ أن الحكومات الغربية مهتمة بذلك، لذلك فالبرلمان الأوربي والمنظمات الديمقراطية في الغرب تتحمل مسؤولية استثنائية لأنها قادرة أن تتعامل مع هذه الحقيقة كمسعى لنشر الديمقراطية وأن تتعامل بثقة مع المنظمات الاسلامية، وأصحاب العقول والمفكرين في الجاليات الاسلامية، وأعتقد أنهم مهمشون جميعاً الآن مع أنهم يمك أن يكونوا جسراً للتواصل وبوابة للانفتاح والتعاون والتفاهم وإشاعة النور لعوالم تحتكرها الدكتاتورية ويخيم عليها ظلام الأستبداد والقمع والارهاب.

................................

* كلمة محمد سعيد الطريحي في فوروم 2000 العالمي في براغ بتاريخ 13 أكتوبر 2009

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 19/تشرين الثاني/2009 - 29/شوال/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م