هيرتا مولر...رؤية أدبية جديدة حول المانيا

فرح عارم يجتاح المانيا وفتور شديد في رومانيا

مازن الياسري

 

شبكة النبأ: ليس هنالك جائزة تقديرية في العالم توازي مكانة (جائزة نوبل) التي تمنح سنوياً في حقول السلام و الطب و الأدب و الفيزياء و الكيمياء، و على الرغم من القيمة المادية الضخمة للجائزة التي تصل الى 1.4 مليون دولار، إلا إن القيمة المعنوية للجائزة لا تقدر بثمن.

اللجنة التحكيمية التي تعلن جائزة نوبل، تقوم سنوياً في الفترة بين 5 و 10 تشرين الأول بإعلان أسماء الفائزين بالجوائز، في انتظار تسليمهم الجوائز ضمن حفل رسمي في متحف النوبل في ستوكهولم في العاشر من كانون الأول من كل عام، في اليوم الذي يصادف الذكرى السنوية لوفاة (الفرد نوبل) الذي تبرع بقيمة الجائزة و فكرتها كوصية بعد وفاته في العام 1896 ، و لازالت الوصية التي تحولت لأكبر حفل عالمي، مستمرة بشكل دوري منذ العام 1901.

هذا العام ساهمت المصادفة الجميلة بأن أكون في ستوكهولم عاصمة المملكة السويدية الحالمة والباردة في التزامن مع حفل إعلان الفائزين بجوائز نوبل، و بطبيعة الحال فالمتعة لا تكمن في شغف معرفة الفائزين فقط و خاصة في شقي السلام و الأدب، وهما الشقين الذين يجذبان اهتمامي شخصياً، وإنما هنالك مغزى أخر في إعلان الفائزين بجوائز نوبل، وهو زيارة متحف نوبل وسط ستوكهولم، حيث تعلن النتائج، ذلك المتحف الذي يضم الآثار و المخترعات و الوثائق الثمينة لمن حمل الجائزة من مؤسسات و افراد، بالتالي فكنت من السباقين في الوصول لمتحف نوبل يوم إعلان الجائزة.

في ظهيرة الخميس الثامن من تشرين الأول من العام الجاري، وأمام متحف نوبل في ضاحية (كاملة ستون) الساحرة وسط ستوكهولم، احتشد العشرات من الصحفيين و الهواة و عشاق الأدب ومن مختلف الجنسيات، ليشهدوا إعلان جائزة نوبل للآداب للعام 2009، المصادر الصحفية و آراء المتابعين رشحت تنافس مجموعة كبيرة من الروائيين حول العالم، لعل أهمهم الروائية الجزائرية آسيا جبار، والهولندي سيس نوتبوم، والكندية مارغاريت أتوود، والتشيكي أرنوست لوستيغ، والمكسيكي كارلوس فوينتس، و الالمانية ذات الأصول الرومانية هيرتا مولر، والشاعر الكوري كو أون.

وفي ظل الترقب العام و مع تزايد المحتشدين في داخل أروقة المتحف وأمام أبوابه الخارجية، أعلنت اللائحة الرئيسية في المتحف، إن الفائز بجائزة نوبل للآداب هي الروائية الألمانية (هيرتا مولر)، ومع ظهور اسم هيرتا و صورتها و تاريخ مولدها على الشاشة الرئيسية، سألت صديقي الذي رافقني الى هذه المناسبة العالمية، هل لديك سابق معرفة بمولر، فأجاب كلا... وحرَك بوجهه مستعلما، فقلت له لا امتلك معلومة عنها، و هنا التفتنا الى الموظفة المعنية في مكتبة المتحف، و سألتها عن معلوماتها عن الفائزة فابتسمت وأشارت الى جهاز الكومبيوتر قائلة إنها تبحث عن اسم الفائزة في صفحات الانترنيت لتتعرف عليها، نعم هكذا كان صدى فوز هيرتا مولر داخل أروقة المتحف.

العديد تساءلوا عن سعيدة الحظ، فلم تكن الكاتبة قد حازت تلك العالمية من الشهرة، كما وبعد الاطلاع على المزيد من التفاصيل حولها وجدت إن قصصها و رواياتها الاثني عشر لم يترجم أي منها الى اللغة العربية، و معظمها بقي في اللغة الألمانية و الانكليزية، و لكن هذا بمجمله لا يقلل من قيمة الكاتبة أو من استحقاقها في الفوز.

بعض إداري مؤسسة جائزة نوبل فسروا أسباب فوز هيرتا مولر بالجائزة في كونها كاتبة عكست حياة المحرومين بتركيز لغة الشعر وصدق ووضوح لغة النثر.

من جهته قال "بيتر إنلجند" السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية، أنه تم تكريم السيدة مولر نظرا للغتها المتميز جدا من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب أن لديها حقاً قصة ترويها عن نشأتها في ظل نظام ديكتاتوري، وكذلك نشأتها كغريبة بين أهلها، وبذلك أصبحت مولر المرأة الثانية عشر التي حصلت على الجائزة بهذا الفرع منذ انطلاقها عام 1901.

وبعد التدقيق و السؤال و البحث عن الفائزة، وجدت ان هيرتا مولر، ألمانية الأصول ولدت في رومانيا عام 1953 و عاشت في ظل نظام الدكتاتور الروماني نيكولا تشاوشيسكو.

 طردت من وظيفتها كمترجمة في احد المصانع لرفضها العمل كمخبرة في جهاز الأمن الحكومي، وعانت لاحقاً رفض الرقابة طباعة مجموعتها القصصية الأولى في عامها التاسع و العشرين، وتحت تشدد الضغوط النفسية اختارت هيرتا الهرب الى المانيا عام 1987 للعيش وإكمال مسيرتها الإبداعية من مجاميع قصصية و روايات، تناولت في مجملها ظروف الحياة الصعبة في رومانيا في ظل حكم الدكتاتور الروماني الأسبق نيكولاي تشاوتشيسكو، ومثلت حياة المحرومين بالتركيز على الفقر والمعاناة، و قد تحدثت مولر عن نفي الرومانيين الألمان الى الاتحاد السوفيتي في روايتها الأخيرة "اتيمشوكل" أو أرجوحة النفس التي صدرت في 2009.. والتي أكد مهتمون إنها كانت وراء وضع هيرتا مولر في مصاف الروائيين الكبار في المانيا.

بطبيعة الحال فأن هيرتا مولر قدمت لعالم الأدب جواً جديداً من الرؤية و خاصة حول المانيا، عندما تعرضت لواقع الأقلية الألمانية المضطهدة في رومانيا.

فالقارئ العالمي حين يقرأ روايات تغوص فى التاريخ الألماني فإنه يفضل أعمالاً ترصد الفترة النازية وجرائمها، مثل أعمال "جونتر جراس"، ولكن هيرتا مولر قررت رصد التاريخ الآخر لألمانيا الذي يصور الألمان كضحايا لدكتاتورية أخرى، في مفارقة أدبية قيمة.

مولر لم تصدق فوزها بالجائزة، وقالت في أول حديث لها على القناة الثانية الألمانية، "معذرة.. لا أستطيع ان أتكلم الآن.. فأنا لا أزال لا أصدق ما حدث".

فى حين أعربت المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" عن سعادتها بفوز مولر، خاصة أن هناك تشابها في قصة حياة كل منهما، حيث نشأت كل من ميركل ومولر تحت الحكم الشيوعي السوفيتي قبل أن تفرا إلى ألمانيا الغربية، وانهال مديح الكتاب الألمان على كتابات مولر، بينما شعر بعض النقاد بالإحراج لأنهم لم يضعوها في حساباتهم.

كما عمت فرحة عارمة كل ألمانيا التي تستعد للاحتفال بمرور 20 عاما على سقوط حائط برلين و10 أعوام على فوز جونتر جراس بجائزة نوبل، أما في رومانيا فقد استقبل نبأ الفوز بفتور شديد، لخلفية سياسية كون العديد من الرومان يعتبرون هيرتا مولر خائنة لأنها حسب قولهم شوهت صورة رومانيا في أدبها.

الساعات القليلة التي قضيتها في متحف نوبل أتأمل كل شيء جميل و أتابع صور الفائزين و هي تمر بشموخ واحدة تلو الأخرى، أضيف لها كم من المعلومات عن الأديبة الفائزة التي خلفت الروائي الفرنسي جان ماري جوستاف لوكليزيو الذي فاز بالجائزة العام الماضي، تلك الساعات ليس من السهل نسيانها أو تشويشها في ذاكرتي، إنها رحلة في عالم العلم الفسيح.

وتجدر الإشارة الى إن اللائحة الرئيسية في داخل متحف نوبل نشرت أسماء الفائزين في مجالات الطب و الفيزياء و الكيمياء وهم ثلاثة متشاركون في كل حقل، أي تسعة فائزون في حين تربعت مولر وحيدة في جائزة الأدب دون أن يشاركها احد.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 19/تشرين الثاني/2009 - 29/شوال/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م