شبكة النبأ: في تعاليم وأدبيات
الإسلام الحنيف، لم يكن المنصب علامة للتفرد والتميز عن الآخرين إلا
بقدر ما يقدمه صاحب المنصب من منفعة لعامة الناس، وحين يُصبح الشخص
الفلاني قائدا سياسيا للمجتمع فإنه سيكون في موقع المسؤولية الاول
لتوجيه الناس وزيادة وعهيهم والسمو بهم الى مصاف الفكر والسلوك
الراقيين.
بمعنى أن من يتصدر قيادة القوم سياسيا ودينيا واصلاحيا على وجه
العموم، ينبغي أن يكون المتحرك الاول والساعي الأقدر والاكثر بذلا في
تقديم خدماته المتنوعة للآخرين، ولعلها تصب أولا في الجانب التهذيبي
الذي يرتفع بالنفس البشرية الى ما يليق بها من موقع يرتفع عن الصغائر
بأنواعها.
فالرجل الاول في الدولة او المدينة او القرية او المدرسة او الحلقة
النقاشية .....إلخ، هو النموذج الذي يتميز بقدراته العقلية ومواهبه
العملية وغيرها، وهو بذلك يعلو على الآخرين في التحصيل الثقافي
والمعرفي والادراكي، بيد أنه لا يجوز ان يتميز عن الآخرين بالمكتسبات،
بمعنى ان مواهبه وقدراته العالية تسجل له شأنا شخصيا ولكن لاتمنحه
فوائد وامتيازات مادية يرتفع او يتعالى بها عن الناس.
وهكذا كان قادتنا في الاسلام ومصلحونا كذلك، فهم اول من يرشد
الآخرين وآخر من يتعالى عليهم او يتسبب في مضرتهم، وفي هذا المجال نقرأ
في كتاب سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني
الشيرازي الموسوم بـ (السياسة من واقع الاسلام) شيئا عن القيادة
النموذجية للنبي محمد (ص) إذ يقول:
(وكان النبي صلی الله عليه و آله يتولّى تربية أفراد الأمّة بنفسه
غالباً، ومهما سنحت الفرص، فيندمج معهم في الحديث، ويخوض حيثما خاضوا،
ويصحح ما أخطأوا إمعاناً في جلب قلوبهم إلى الله ورسوله، وتعميقاً في
هدايتهم إلى سبيل الله والرشاد).
بمعنى أن القائد السياسي آنذاك لا يترفع على الناس ولا ينعزل عنهم
ولا بخل في الاندماج معهم وتقديم المشورة والنصح لهم، بمعنى انه
بالاضافة الى دوره السياسي في تسيير الامور السيسية للدولة فإنه يقوم
بدوره التربوي الديني والاخلاقي على افضل الوجوه، إيمانا منه بأن تشذيب
الاخطاء البشرية هو هدف سام من الاهداف الاصلاحية على تنوعها سياسية
كانت او غيرها.
ولعل الطرائق المحببة التي كان ينتهجها الرسول (ص) في توصيل آرائه
الى الآخرين كان لها الدور الامثل في تقبل الآخرين لها بل والعمل
السريع على تنفيذها، إذ جاء في كتاب سماحة المرجع الشيرازي في هذا
المجال:
(وكان في حديثه صلی الله عليه و آله مع المسلمين يندمج معهم كاملاً،
اندماج المعلّم العطوف المربي الذي يحب أن يصعد بنفسيتهم وثقافتهم
وتربيتهم).
من هنا تبدو لنا واضحة الاهمية التي تنطوي عليها طريقة ضخ التوجيهات
والاصلاحات الفكرية او العملية لأفراد المجتمع، بمعنى أن التشويق له
دور في تقبل الانسان للآراء التي توجه لهة من اجل نقله الى مرحلة
سلوكية متمدنة، ولعل جانب التأثير والتوصيل ينطوي على اهمية كبرى حيث
يضمن القائد او المصلح او المتحدث عموما تأثيره في الآخرين، ولعل من
سمات النبي (ص) في هذا المجال إشعار الآخرين بقيمتهم المعنوية
والانسانية، فيندمج معهم ويسايرهم في طبيعة الموضوع او الحالة التي تتم
مناقشتها، وقد وورد في كتاب سماحة المرجع الشيرازي بهذا الصدد:
(روي عن زيد بن ثابت أنّه قال:
إنّ النبي صلی الله عليه و آله كنا إذا جلسنا إليه صلی الله عليه و
آله إنْ أخذنا بحديث في ذكر الآخرة أخذ معنا، وإنْ أخذنا في ذكر الدنيا
أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الطعام والشراب أخذ معنا، فكل هذا أحدثكم
عن رسول الله صلی الله عليه و آله -1).
وهذا دليل واضح على إشعار الآخر بأهميته وبأهمية ما يخوض فيه ناهيك
عن إشعاره بعدم الترفع والتعالي عليه، والابتعاد عن الامور التي قد
تؤدي الى نوع من القطيعة بين القائد والمصلح والمفكر من جهة وبين عامة
الناس من جهة أخرى، فالمعروف إن الانسان يفضل من يحفظ له مقامه وكرامته
ومن لا يترفع عليه سواء كان قائدا او مصلحا او مثقفا او غيره، وكان من
سمات النبي (ص) انه متساوٍ مع عامة الناس في ملبسه، وفي هذا الصدد جاء
في كتاب سماحة المرجع الشيرازي:
(عن أبي ذر أنّه قال: كان رسول الله صلی الله عليه و آله يجلس بين
ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيّهم هو حتى يسأل -2).
وهكذا نلاحظ ان هذا القول يدل بصورة قاطعة على عدم التعالي للمصلح
او القائد السياسي على الآخرين، كونه النموذج الذي يتساوى معهم في
المظهر ويتقدمهم في الوعي والاصلاح في الوقت نفسه، ومن الدلائل التي
ترسّخ هذا المنهج التربوي القويم طريقة إدارة الحوار والتوصيل ليس في
الجوهر الفكري التربوي فحسب، وإنما في الشكل المكاني أيضا، وفي هذا
المجال نقرأ في كتاب (السياسة من واقع الاسلام):
(روي عن أنس بن مالك ـ خادم رسول الله صلی الله عليه و آله ـ قال:
«كنا إذا أتينا النبـي صلی الله عليه و آله جلسنا حلقة» -3-.
هذا الخلق الرفيع الذي لا يدع المجلس صدراً وذيلاً، ولا تهان كرامة
أحد في المجلس لا عند الناس، ولا عند نفسه، فكل جالس في مثل هذا المجلس
الدائري هو المبتدأ به، وهو الأخير، وهو الوسط).
إذن فمسؤولية القائد السياسي او التربوي تجاه المجتمع لا تمنحه
تميزا ماديا، بقدر ما تتطلب منه الاندفاع في توصيل الافكار وتركيز
تأثيرها في الآخرين لنقلهم من حالة التردي الى حالة الرقي، وفقا للطرق
والاساليب التي ترفع من شأنهم وتحبب لهم الافكار التنويرية التي تهدف
الى رفع مستوياتهم المعرفية والفكرية والسلوكية في آن واحد.
--------------------------------
هامش:
1) مكارم الأخلاق: ص21.
(2) بحار الأنوار: ج16 ص229 ب9 ضمن ح35.
3) بحار الأنوار: ج16 ص236 ب9 في مشيه صلی الله عليه
و آله. |