شبكة النبأ: قبل الخوض في موضوع
الملاذ الآمن الذي ينبغي أن يتم توفيره من لدن الجهات المعنية للمثقف
كي يؤدي دوره التنويري على افضل وجه، سنحاول أن نجيب عن تساؤل هام قد
يُسهم بدرجة او اخرى في فتح آفاق رؤيوية لتحديد دور المثقف في تطوير
الحياة عموما.
التساؤل يتعلق بتحديد ماهية المثقف، بكلمة أخرى، من هو المثقف وما
هي سماته او مواصفاته؟ هل هو الكاتب المؤلف الذي يمرر افكاره عبر
مؤلفات فكرية او دينية او ادبية او غيرها؟ أم هل هو المفكر الاصلاحي
الذي يعتمد السلوك والقول الشفاهي للتوصيل، أم هو رجل الدين الذي يعتمد
الخطابة كوسيلة ضخ لأفكاره باتجاه المحيط الاجتماعي المستهدف؟.
إن المثقف كما نراه وربما كثيرون معنا، هو ذلك المفكر الايجابي (القائل
الفاعل) في آن واحد، ولا ينحصر ذلك في الشريحة التي نطلق عليها تسمية (المثقفين)
خطأً كالادباء والمفكرين والمصلحين عموما، بل المثقف هو من يُسهم
بتطوير منظومة الفكر والسلوك البشري في مجتمع ما، وعندما تتوافر مثل
هذه الاشتراطات في الشخصية المثقفة، فحينذاك (وكما أثبتت تجارب التأريخ
البعيد والمنظور معا) ستبدأ مسيرة التضاد والاختلاف وربما الصراع بين
هذا المثقف وبين السياسي (القائد خاصة).
بمعنى أن مثل هذا المثقف سيشكل حالة خطر على السياسي القائد وأهدافه
ومصالحه الشخصية او الحزبية او غيرها، ومن هنا ستنطلق شرارة الصراع بين
الطرفين، فيبدأ السياسي بتضييق الخناق على المثقف (بالمفهوم الذي اشرنا
إليه) لدرجة تصل الى التدخل في أدق تفاصيل حياته وإخضاعه لشبكة مراقبة
اخطبوطية تحصي عليه حتى أنفاسه، وعندما يصبح المثقف من القوة والخطورة
بحيث لا يخضع لعروض السياسي الموزعة على قائمتي (الترغيب والترهيب) فإن
الاخير سيتخذ القرار بتصفية المثقف (غدرا او علنا) لأن الامر لديه سيان،
فالمهم هو أن يزيح الخطورة التي يشكلها المثقف عليه والتي تتمثل بتهديد
مصالحه لاسيما التمسك بالكرسي حتى آخر الانفاس (كما يحدث في منظومة
الحكم العربي) القائمة على التمسك بكرسي الرئاسة او الملوكية او
السلطنة او الامارة، وحصر هذا المنصب في عائلة القائد الاول سواء
بالوراثة او (التوريث) كما فعل بعض القادة العرب حين انتقلت الرئاسة
الى الابن بوفاة الاب وكما يعد بعض القادة العرب أبناءهم للقيام بذلك
وهو حراك واضح ومؤشَر في المشهد السياسي العربي.
في حالة كهذه ماذا سيفعل المثقف كي يحمي نفسه ويؤمِّن الحماية
لمشروعه الفكري الذي يروم توصيله الى الآخرين، إنه أولا يبحث عن (الملاذ
الآمن) الذي يقيه شر السياسي، ثم يواصل البحث عن مستلزمات العيش الاخرى
التي لا تقل أهمية عن الملاذ (خارج قبضة السياسي)، فالملاذ الآمن لا
يعني أن نجعل السياسي في منأى عن سلطة السياسي وبطشه فحسب، بل كيف نوفر
له الظروف والمتطلبات التي تدعم مشروعه الفكري وتديم زخمه وتيّسر عملية
توصيله الى الآخرين بأسهل الطرق وأقصرها؟، فربما يمكن إزاحة أو تخفيف
قوة البطش السياسي على المثقف من خلال عمليات ضاغطة على مركز صنع
القرار وما شابه، بيْدَ أن الامر يتعلق بعملية توفير (الملاذ الآمن)
بمعناه الأشمل.
بكلمة أخرى، أن علينا جميعا بمن فينا صانع القرار العمل على صنع
الملاذ الآمن والبيئة المناسبة لتفعيل دور المثقف من خلال توفير منظومة
الامن الشامل له ولكل ما يتعلق بمشروعي التنويري، إذن فالملاذ الآمن لا
ينحصر بتحجيم البطش السياسي بل وتوفير العيش اللائق والمناسب للمثقف من
اجل تحفيزه على تطوير وتوصيل مشروعه الفكري، وهنا ربما يتساءل أحدنا،
وكيف يمكن أن يوفر السياسي ملاذا آمنا للمثقف الذي يُعَدّ الحلقة
الأخطر على طموحاته واجنداته؟!.
وهو تساؤل صحيح وقائم وربما هو فعل متوقع من السياسي القائد كما حدث
مع كثير من المفكرين عامة حينما صار المفكرون عناصر تقويض للسلطة
اللاّمشروعة، ولعل أقل حجم من الضرر يمكن أن يفعله صانع القرار هو
اهمال المثقف ومحاربته في مصادر ووسائل العيش الاخرى، لهذا سيبرز هنا
دور الأهليين، ونقصد بهم أثرياء القوم وتجارهم والقطاع الخاص ودورهم في
توفير الملاذ الآمن للمثقف.
نعم بإمكان المحيط أن يصنع مثقفيه كما يصنع المثقفون مجتمعاتهم، أي
يمكن أن تكون هناك عملية تبادلية في الادوار، وذلك من خلال توفير
مستلزمات الملاذ الذي يتيح للمثقف والمفكر والمصلح بصورة عامة القيام
بدوره بعيدا عن ضغوط السياسي او غيره، بيْدَ أن هناك إشكالية أخرى
غالبا ما يقع فيها المثقفون والمصلحون لا سيما في الدول العربية او
الاسلامية بوجه عام، فحين يهرب مثقفونا او بعضهم من بطش السياسي في
الدولة الفلانية، فإنهم لايتورعون عن الارتماء في كنف قائد سياسي معارض
للاول ولكنه لا يختلف عنه في السلوك، بمعنى انه دكتاتور لا يختلف عن
الاول، وبهذا فإن الحل يكمن في تشكيل العوامل الضاغطة على السياسي
لحماية وتفعيل المشرّع الثقافي من خلال إعتماد عملية راسخة لكيفية (صنع
الملاذ الآمن) للمثقف يشترك فيها المجتمع برمته على ان يتصدرهم القطاع
الخاص (تجار واثرياء وغيرهم) مع إدامة العمليات الضاغطة على السياسي
بالتعاضد بين المثقف والتاجر والطبيب والطالب ورجل الدين والكاسب، للحد
من شراهة السياسي وترسيخ خطوات إجرائية فاعلة لصنع الملاذ الآمن للمثقف
عموما. |