أخيراً خرج الوزير المصري من ماراثون انتخابات الىونسكو خاسراً،
وخرجت معه – كالعادة المصرية والعربية الدارجة – جوقة التبرير لتشرح
وتُحلل وتُفسر وتُقعر وتُقعِد: لماذا كانت الخسارة.
وكالعادة أيضا لم تتطرق الجوقة لأي من الأسباب الحقيقية لخسارة
المرشح المصري، مكتفية بالقاء اللوم على اللوبي الصهيوني، وما وصفته
بأنه تسييس معيب لمنظمة الىونسكو، بل ووجود غراءات مالىة أثرت في عملية
التصويت.. وانتهت أناشيد الكذب والنفاق وهدهدة الذات المتعفنة الى
تهنئة الشعب المصري ببقاء فاروق حسني وزيراً للثقافة، والشماتة في
الىونسكو التي خسرته مديراً لها!
لقد كانت أهم مؤهلات المرشح المصري للمنصب الدولي الرفيع، هي كونه
وزيرا للثقافة في مصر لمدة 22 عاماً، ضارباً بذلك رقماً قياسياً على
مستوى العالم في الالتصاق بمقعد الوزارة!!
والمؤسف في الأمر أن النظام المصري دأب على الدفع بأهل الثقة من
حوارييه لتبوء المناصب، فهذه سياسته العامة التي درج على انتهاجها وآتت
أوكلها في الداخل بنجاح، الأمر الذي شجعه على محاولة تطبيقها في الخارج
جملة مرات ليواجهه الفشل تلو الفشل.. فعلى الصعيد الدولي تفقد أسلحة
النظام المصري مضائها، حيث لا تنفع تقارير أمنية! ولا تهليل المنتفعين
بالفساد وألاعيبهم المبتذلة.
في بلادنا محظور على الشعب أن يعرف لمَ على وجه التحديد تم تعيين
فلان وزيراً؟ ولمَ استمر في منصبه؟ ولماذا جري عزله من منصبه؟.. بل
وربما لا يتوصل الوزراء أنفسهم الى إجابات شافية على هذه التساؤلات!
منذ أكثر من عشرين عاماً، عندما تم تكليف للدكتورعاطف صدقي برئاسة
الوزارة في مصر للمرة الأولي، شاع وقتذاك أنه جري إعداد كشف تضمن أسماء
سبعة عشر مرشحا لتولي وزارة الثقافة، وكان ترتيب فاروق حسني الأخير في
هذا الكشف.. ولأسباب ماتزال مجهولة حتي الآن تم تجاوز الستة عشر مرشحا
المتقدمين، ووقع الاختيار على الأخير ؛ فاروق حسني!
ولم يكتف المرشح المصري بأن يكون الأطول عمراً في المنصب الوزاري،
بل حقق أيضا أرقاما قياسية في توحش الفساد في وزارته عبر أعوانه الذين
برع في انتقائهم على عينه من الفاسدين والمرتشين، ومن جبل الفساد
المطمور، تكشفت قمته عن قدر مفزع منه في عدد من القضايا التي نظرها
القضاء المصري وأصدر فيها أحكاماً بالإدانة.. غير أن كل هذا لم يزعزع
الكرسي الوزاري من تحت الوزير الأزلي، فظل مشمولاً بالحماية، متمتعاً
برضى رأس النظام.
إن الإنجاز الأبرز الذي استطاع فاروق حسني تحقيقه عبر سنوات
استوزاره الطوال -حسبما صرح مراراً – هو نجاحه في إدخال المثقفين
المصريين حظيرة النظام، مستخدماً في ذلك - بدأب ونعومة - ذهب المعز
وسيفه. ولابد للمنصف من الإقرار بنجاحه في ذلك الى حد كبير، حيث لم يعد
طافيا على سطح الحياة الثقافية في مصر سوى أسماء مدجنة متواطئة مع قبح
النظام وعفنه، تنعم وحدها بشره بكل المناصب والعطايا والامتيازات، أما
المغضوب عليهم ممن تعففوا ولم يرتضوا الإنضواء في كنف "حظيرة فاروق
حسني والنظام"، فلم يبق أمامهم سوى الظل يعكفون فيه بصبر على دراساتهم
وابداعاتهم، تتناهشهم خفافيش النظام، والمثال الأشهر على هذا الروائي
المبدع صنع الله إبراهيم.
أما الطنطنة حول حرية التعبير والابداع والتسامح، فقد تكفلت مواقف
متعددة للمرشح الوزاري فاروق حسني بكشفها وفضحها المرة تلو الأخري،
وليست ببعيدة ذكرى "أزمة الروايات الثلاثة" التي لم يتورع فاروق حسني
عن مصادرتها، وإقالة أديب كبير ترأس تحرير السلسلة التي صدرت فيها
الروايات الثلاث مضحياً بحرية الابداع والتعبير على مذبح الغوغائية
واستتباب الأمن!
أما ما قيل عن موقف وزير الثقافة المصري المناوئ للتطبيع مع
إسرائيل، وشبهات عدائه للصهيونية واليهودية، فلا بد من التنويه بأن ملف
التطبيع، بما ينطوى عليه من تحديد أوجه التطبيع ومجالاته وحدوده
وإيقاعه، ليس لوزير الثقافة القول الفصل فيها، حتي وإن كان التطبيع ذو
طابع ثقافي.. وتبقي الإجراءات ذات الأبعاد التطبيعية التي اتخذها فاروق
حسني بوصفه وزيراً للثقافة المصرية في الآونة الأخيرة، وإعتذاراته
المتكررة عن عبارات عفوية صدرت منه تجاه اليهود، ما ينفي عنه أي موقف
مبدأى و قاطع تجاه التطبيع، بل وتؤكد على بأنه في سبيل المنصب ارتضي
المرشح المصري لإدارة منظمة اليونسكو التضحية بأي مبدأ والنكوص عن أي
موقف.. فالمهم، والمهم فقط هو "الكرسي"، وما عداه هو مجرد " طنطنة " و
" بغبغة " للاستهلاك المحلي، تدغدغ مشاعر بعض المثقفين، وتجمّل وجه
النظام.
الآن، وقد انقشع غبار " موقعة اليونسكو"، وفاز من فاز، وخسر فاروق
حسني، ألا يحق للمثقفين المصريين انتظار أن يفي فاروق حسني بوعده الذي
قطعه على نفسه قبيل الانتخابات، والذي مؤداه أنه سيستقيل من منصبه إذا
لم يُوفق في الفوز بمنصب مديرعام منظمة اليونسكو؟.. كل المؤشرات تؤكد
أن المرشح المصري الخاسر لن يبرح مقعده ولن يتخلي عن حقيبته الوزارية
المزمنة، فبلادنا لا تعرف وزراءً يستقيلون من مناصبهم – أياً كانت
البواعث والأسباب – فقط الوزراء لدينا يُقالون من مناصبهم.
ثم ألا يحق للمثقفين المصريين، وجموع الشعب المصري من قبل ومن بعد،
أن تجري مكاشفتهم – بصدق – بشأن التكلفة المالية الحقيقية لحملة ترشيح
وزير الثقافة لمنصب اليونسكو الرفيع، والتي أشارت بعض المصادر الى أنها
جاوزت نصف مليار جنيه من أقوات المصريين؟!
كل السوابق تقطع بأنه لن يصارحنا أحد، ولن يأبه أحد باطلاعنا على
أي شيء، اللهم إلا غثاء الجوقة وهرائها الذي ينصب علينا ليل نهار لتشرح
وتُحلل وتُفسر وتُقعر وتُقعِد: لماذا كانت الخسارة.. يا خسارة.
* محام بالنقض- مدير مركز مساواة لحقوق
الإنسان |