شبكة النبأ: لم يستطع الانسان أن يقفز
من صفحات التأريخ المظلمة الى صفحاته المضيئة إلاّ بالتنوير والسعي
والتثقيف المتواصل، هذا ما تؤكده التجارب الانسانية التي لا تنحصر بشعب
معين او بأمة بعينها، فالانسان عموما وهو يخوض رحلته الطويلة من كهوف
الظلام الى فضاءات التحرر والتطور والاستقرار، لم يحقق ذلك إلاّ من
خلال إعتماده منهجا ثقافيا تمكن من نقله الى مراتب إنسانية أرقى وأفضل.
ولعلنا نتفق على الاهمية القصوى التي ينطوي عليها الفعل الثقافي
ودوره في توجيه وتنمية الوعي لدى المجتمع بصورة عامة وفي المجالات
الحياتية المتنوعة، وثمة جملة شاملة واسعةة اختصرت بشكل موجز ووافي دور
الثقافة في هذا المجال، وهذه الجملة الموجزة الوافية في آن وردت في
كتاب الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) الموسوم بـ (السبيل
الى إنهاض المسلمين) تقول هذه الجملة:
(إن الثقافة هي التي تعيّن اتجاه الإنسان، إن خيراً فخير، أو شراً
فشر).
وبهذا المعنى الموجز والشامل في آن واحد نستطيع ان نصل الى الفعل
الجوهري الذي تقدمه الثقافة للانسان، على الرغم من سعتها وتشعبها
وتشابكها مع جميع الانشطة الانسانية المختلفة، فالثقافة تدخل في السلوك
والقول وتدخل في العمل والانتاج والعلاقات الفردية والجمعية العامة بين
فرد وآخر وبين جماعة او اخرى كالامم والشعوب والدول والافراد أيضا،
وهكذا يمكن ان نقول بأن طبيعة هذه الثقافة وما تنطوي عليه من توجهات
ومسارات مختلفة ومتعددة هي التي تضع بصمات الخير او بصمات الشر في هذا
الفعل او ذاك وفي هذا القول او ذاك، بمعنى ان الثقافة هي التي تقودنا
في نهاية المطاف الى نوعية افعالنا واقوالنا.
وفي هذا الصدد جاء في كتاب الامام الشيرازي الذي سبق ذكره:
(فالثقافة إذا تحولت ـ لدى المسلمين ـ من ثقافة استعمارية إلى ثقافة
إسلامية تحولوا هم أيضاً من الانحطاط والاستغلال والعبودية إلى العزّة
والتقدم والاستقلال).
بكلمة اخرى يجب ان تكون هنالك نقلة من الثقافة الاستعمارية الى
الثقافة الاسلامية وبصورة لا تقبل اللبس او التردد، فليس هناك خيار
امامنا بين أن نسيّر شؤوننا وفق الثقافة أم الاسلامية، لأن الاولى
تنطوي على الجانب الشرير الذي يحاول ان يحط من قيمة الانسان ويدمر
حياته، في حين ان ثقافة الاسلام وتعاليمه السمحاء تركز بصورة منقطعة
النظير على اهمية حفظ الكرامة الانسانية وضرورة الارتفاع والسمو بروح
الانسان وشخصه من مراتب الانحطاط والاذلال الى مراتب العزة والكرامة
والاعتداد المشروع بالذات وقدراتها الهائلة فيما لو توافر لها المشروع
الثقافي القادر على استنهاض هممها وطاقاتها الكامنة والكبيرة..
كما اننا نتفق على ان اثر الثقافة سيبدو واضحا امام الجميع بعد ان
تتم عمليات التطوير الثقافي وتزيد من الوعي الجماعي والفردي في آن،
بمعنى آخر أن الثقافة بشقيها الشرير او الصالح ستظهر في سلوك الافراد
والجماعات عندما تدخل حيز التأثير، ويقول الامام الشيرازي (رحمه الله)
في هذا الصدد:
(عندما نتطلع إلى تاريخ المسلمين قبل ظهور الإسلام وبعد ظهوره،
نشاهد ذلك بوضوح، فعندما كانت عقليات –الغاب- وثقافة –الأنا- تحكم
الناس كانت أعمالهم هي النهب والحرب والسرقة وشرب الخمر وتعاطي البغاء،
وكانوا متخلفين فكرياً واقتصادياً وفي سائر المجالات.
ولكنهم بعد الإسلام ـ على أثر تحول ثقافتهم إلى ثقافة ربانية
رحمانية، وإلى ثقافة - أحب لأخيك المسلم ما تحب لنفسك ([1])
ـ نشاهد حدوث انقلاب واسع وعميق في ضمير الشعب وحياته).
لذلك لم ينحصر فعل الاسلام في تجديد المنظومة الثقافية للمواطن
آنذاك، نعم لقد حققت الثقافة الاسلامية نقلة نوعية في السلوك الفردي
والجمعي فيما يخص العلاقات الاجتماعية وغيرها، غير الجانب الذي لا يقل
اهمية ايضا، هو التطور السياسي الكبير الذي أحدثته الثقافة العربية في
المجتمع العربي آنذاك، فبعد أن كانت تسود الزعامة القبلية المتشددة
والمنغلقة على ذاتها، وكان هذا نمطا سائدا في عموم الجزيرة العربية في
ذلك الوقت، لكن ثقافة الاسلام السياسية ادخلت تطورات هائلة في هذا
المجال، فنقلت السياسة من منطقها المغلق المتعصب الى منطق الانفتاح
والتوسع والخروج بعيدا عن الاطار القبلي المغلق والمتعصب في آن.
فأصبح الاسلام اطارا ثقافيا سياسيا واسعا يضم في رحابه مختلف
الاقوام والامم وفقا للتعاليم الاسلامية الواضحة في هذا المجال، وقد
قال الامام الشيرازي في هذا الصدد:
(إحدى مجالات التغيير هو أن يعرف المسلم العربي أنه أخ للمسلم
الهندي والفارسي والتركي و.. وبالعكس كما جعل رسول الله –ص- بلال
الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وأبا ذر العربي أخوة لا يمتاز
أحدهم على الآخر إلا بالتقوى، فاللغة واللون والقوميات والجغرافيات
ليست هي المقاييس السليمة وليست سبباً لأفضلية هذا على ذاك).
وبذلك نستطيع أن نقول أن الثقافة الاسلامة كسرت الحواجز وهشمت
الفوارق والحدود بين بني الانسان ليتحقق مسار ثقافي سياسي اجتماعي قائم
على العدالة والتكاتفؤ والاحترام لذات الانسان بالدرجة الاولى.
.................................................................
هامش:
([1]) الكافي: ج2 ص170 ح5. |