شبكة النبأ: الاحرار والمفكرون
الانسانيون لا تفصل بينهم الاعراق او الاديان او غيرها، بل تقربهم
أفكارهم التنويرية من بعض فتتحد لتنهض بالانسانية الى مراتب أسمى من
التطور والانطلاق نحو بناء مجتمعات راقية تقوم حياتها على العدل
والمساواة وتكافؤ الفرص والابداع في شتى المجالات.
والامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) ينتمي بأفكاره
التي مررها للناس عبر مئات المؤلفات المختلفة في شتى ميادين الحياة الى
هذا النوع من المفكرين والعلماء الذين وظفوا جل حياتهم من اجل خدمة
الانسانية، وذلك عبر الطروحات الفكرية التي توزعت في مجالات السياسة
والاقتصاد والتعليم وتربية النفس وغيرها من الميادين التي تنشط فيها
طاقات الانسان طالما بقي على قيد الحياة.
فقد كتب الامام (رحمه الله) في الاقتصاد منوها بأهميته القصوى في
بناء الدولة والمجتمع الذي يستطيع أن يجاري تطورات العصور المتتابعة،
وأسهب في ذلك بتركيز محبب وقدم رؤية واضحة سلسة يمكن لنا الرجوع إليها
عبر مؤلفاته في هذا المجال والافادة منها في حياتنا العملية، وهي لم
تنحصر في فئة دون غيرها او مجتمع دون غيره، فالافكار المغلفة بالطابع
الانساني لا يمكن أن تتقيد في مساحة بشرية او ارضية او زمنية محددة، بل
تقفز على جميع هذه المحددات لتأخذ دورها الشامل في التنوير.
وهكذا هي أفكار الامام الشيرازي لاتعرف الفردانية او الانحياز الى
جهة دون غيرها، ولا ينحصر هذا الفكر الخلاّق في جانب حياتي محدد بل
يخوض في مجالات عدة كما ذكرنا، فمن الاقتصاد سنعبر الى المؤلفات التي
تتعلق بتربية النفس وأهمية أن يتفوق الانسان على نفسه ويقودها في شؤون
الحياة المتشابكة بدلا من ان تقوده، ونجد ذلك في عدد من الكتب التي
وضعها الامام الشيرازي وخصصها لهذا الجانب بسبب الاهمية القصوى التي
تنطوي عليها تربية النفس وتشذيبها من هفواتها الصغيرة او اخطائها
الكبيرة.
ولعل المؤشر الواضح في هذا المجال هو تأكيد الامام الشيرازي على ردع
النفس ثم تقديمه (رحمه الله) للخطوات الاجرائية التي يمكن للانسان ان
يتخذها كي ينتصر على نفسه ورغائبه التي غالبا ما تروم الى دفعه خارج
المعتاد او المقبول او السائد من الاعراف والسنن والنواميس التي تقوم
عليها العلاقات البشرية في اي مجتمع كان.
ولو خضنا في مؤلفاته المخصصة لمناقشة العولمة وطبيعة آثارها التي
ظهرت في مفاصل الحياة كافة، سنجد ذلك التعامل الفكري المتوازن مع
الاشكالية التي خلفتها العولمة والتي يمكن توصيفها بأنها حالة تفاعلية
تنطوي على تأثيرين، احدهما ايجابي متمثلا بنشر العلوم والافكار الجادة
وما يخدم الانسانية جمعاء، والآخر ذو طابع سلبي يتمثل بنشر الفكر
الهدام ليس من خلال العناصر اللامرئية فحسب بل من خلال ما هو ملموس او
مرئي في الوقت ذاته، ولذلك ركّز الامام (رحمه الله) على اهمية التفضيل
بين الفائدة والضرر في هذا المجال، بمعنى آخر أن تتفوق مستويات الفائدة
على مستويات الضرر، فإذا كانت العولمة كفعل انساني عالمي تنطوي على
الخسارة والربح في آن واحد، فإننا ينبغي أن نقلل من جانب الخسارة الى
اقصى حد ممكن، ولا يعني هذا رفض مسايرة العصر او التخلي عن استخدام
التقنيات الحديثة التي امتدت في مفاصل الحياة كافة، بل ينبغي علينا أن
نوظف الجانب الايجابي من العولمة لصالح الانسان، ولعل فكرا من هذا
النوع يهدف في اول ما يهدف إليه تنمية قدرات الانسان ووعيه، من خلال
الموازنة بين المنفعة والضرر في التعامل مع آليات وتقانات العصر
المختلفة.
ولو حاولنا الخوض في مضمار المؤلَف الديني الذي تركه لنا الامام
(رحمه الله) فإننا بعد تمحيص وقراءة متأنية سنلمس ذلك الانحياز الواضح
للانسان، فالدين وفق رأيه ليس سيفا مسلطا على الرقاب، ولا وهو وسيلة
لتمرير بعض التعاملات البشرية الشائنة كالخداع والتزلف والكسب غير
الحلال وما شابه، بل الدين عنده وسيلة اصلاح إنساني لا غنى عنها، وشتان
بين ان تجعل من الدين جسرا الى اهدافك غير المشروعة وبين أن تجعله
سلّما للرقي الانساني وطريقا أقصر الى مرضاة الله تعالى، وهكذا فإن
الدين وفق رؤية الامام الشيرازي (رحمه الله) هو الرقيب المسالم الذي
يقوّم نفس الانسان من هفواتها ويجعلها أقرب الى العدل والمساواة
والتطور في آن واحد.
وقبل ختام هذا المقال، نتمنى على الجهات ذات العلاقة، العلمية منها
والانسانية، والاسلامية منها او غيرها، أن تضع في حساباتها إماطة
اللثام عمّا تركه الامام الشيرازي (رحمه الله) من إرث فكري ذي طابع
انساني، وذلك لتوظيفه في زيادة الوعي لاسيما لمن هو احوج إليه كما هو
الحال بالنسبة للمجتمعات العربية والاسلامية، حيث الضعف يدب في أغلب
مفاصلها وحيث وهج الوعي يكاد يخبو في العقول والنفوس على حد سواء،
فحبذا لو يتنبّه المعنيون الى اهمية الافادة من هذه الموسوعة الفكرية
الانسانية المتوهجة، التي تضع نفسها في خدمة الانسان في أية ارض وفي أي
زمان. |