النظام الاقتصادي وأثره الكبير في الاستقرار والتطور

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: لا تزال المعمورة العامرة بمليارات من البشر تعاني من غياب التوازن الاقتصادي على الرغم من التطور الهائل في وسائل الانتاج كافة، ما يعني ان هناك خللا في البنية الاقتصادية العالمية، وأن الفشل في البرمجة والتخطيط والتنفيذ هو الذي يقف في هذا الارباك الاقتصادي العالمي.

لقد شطر المختصون المعمورة بالمنظور الاقتصادي الى شمال وجنوب، فالاول هو الشطر المتنعم الغني كما تشير كثير من الوقائع، والثاني هو الشطر الفقير الذي يعني من ازمات وموجات متواصلة من الجوع، غير ان احدا لا يستطيع نفي الفقر بصورة مطلقة في دول وشعوب الشمال، ما يدل على فشل النظام الراسمالي في ترسيخ قاعدة التوازن الاقتصادي التي تقود بدورها الى إظهار نتائج نجاح هذا المنهج الفكري الاقتصادي او ذاك، كما فشل النظام الشيوعي الاممي فشلا ذريعا أثبتته الوقائع التأريخة التي لا تزال ساخنة حتى الآن ممثلة بالسقوط المدوّي للاتحاد السوفيتي سابقا في عهد غورباتشوف.

ولا نحتاج الى ادلة لكي نثبت مشاهد الفقر في دول وشعوب الجنوب فهي تعلن عن نفسها بوضوح من دون حاجة الى التنقيب او البحث، ولعلنا نستطيع أن نتساءل من الذي يقف وراء هذا الارباك الاقتصادي العالمي وقبل ذلك من هو المتضرر الاول من نتائج هذا الارباك؟!.

إن الانظمة الاقتصادية والسياسية التي قادت وتقود العالم هي التي تقف وراء ذلك، كما ان المتضرر بالدرجة الاولى هو الفقير المسحوق الذي يزداد انسحاقا، في وقت يزداد الاثرياء ثراء، ولعل الازمة الاقتصادية التي عصفت ولا تزال تعصف بالعالم نتيجة منطقية لسوء الانظمة الاقتصادية سواء الرأسمالية او الاممية منها، وهنا يُستحسن أن نتساءل عن سبل الخالص عالميا او على مستوى الدول والشعوب؟!.

إن للاسلام تجربة مثبّتة بالادلة والوقائع مع الاقتصاد وكيفية التخطيط والبرمجة والتنفيذ، فبرغم سعة الدولة الاسلامية في عهد الامام علي عليه السلام إلاّ أن الفقر كاد ان ينعدم تماما بين أفراد الامة الاسلامية عموما، ما يدل على حسن الرؤية ونجاح التخطيط الاقتصادي وتميّز الخطوات التنفيذية التي قللت من الفقر الى ادنى مستوياته، وقد جاء في الكتاب الثمين لسماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي والموسوم بـ (السياسة من واقع الاسلام) بهذا الصدد:

(إنّ الاقتصاد لـه الأهمية الكبرى في السياسة، وكلما كان التوازن الاقتصادي أقوى كانت السياسة أكثر سداداً ورشداً.

فلننظر إلى الإسلام كيف جعل من الدولة الإسلامية البعيدة الآفاق، الشاسعة-1- الأراضي، الكثيرة النفوس، أُمة غنية كاد أن يصبح الفقر فيها خبراً لكان)..

وهذا يعني ان ثمة سياسة اقتصادية متوازنة اتبعها الامام (ع) ابان حكمه حققت توازنا دقيقا بين الانتاج والاستهلاك، وقادت بدورها الى غياب الفقر وقد تم ذلك عبر سياسة اقتصادية تقوم على الدقة والتوازن والمساواة التامة وهو امر معروف عن سياسة الامام (ع) مع الرعية في عموم امصار الدولة العربية آنذاك.

وما يلفت نظر المتقصي والباحث ان الامام (ع) بوصفه السلطة العليا في الدولة الاسلامية، كان يمثل نموذجا مثاليا للجميع من حيث التخطيط والتنفيذ معا، وجاء في هذا الجال بكتاب سماحة المرجع الشيرازي نفسه:

(ذكر الشيخ الحرّ العاملي رحمه الله في كتاب (وسائل الشيعة):

أن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كان يمشي في سكك الكوفة، فنظر إلى رجل يستعطي الناس: فوجه الإمام السؤال إلى من حولـه من الناس قائلاً: ما هذا؟

فقالوا: إنه نصراني كبر وشاخ ولم يقدر على العمل، وليس لـه مال يعيش به، فيكتنف الناس..

فقال الإمام ـ في غضب ـ : استعملتموه على شبابه حتى إذا كبر تركتموه؟ ثم جعل الإمام عليه السلام لذاك النصراني من بيت مال المسلمين مرتباً خاصاً ليعيش به حتى يأتيه الموت-2-).

إن هذا المثال الواقعي يدل على أهمية أن يكون القائد الأعلى نموذجا للجميع، فحين يتصرف الامام علي (ع) بهذه الصورة إنما يريد أن يعمم هذا السلوك ويجعله امرا واقعا بين السلطة والشعب، وبهذه الطريقة تنخفض مستويات الفقر الى أدنى الدرجات، على عكس ما يدور فوق الكرية الارضية الآن لا سيما في السياسة الاقتصادية التي قادت العالم من سيء الى أسوأ، ولنا في قارة افريقيا مثالا شاخصا للعيان، حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد:

(القارة السوداء التي لا تزال حتى اليوم ـ رغم كل التقدم الاقتصادي في مختلف الميادين في العالم ـ ترزح تحت وطأة الجوع والفقر والبؤس، والتي يموت فيها المئات والألوف.

هذه القارة التي تربض على مخازن الثروة الضخمة، والتي يسرق الطغاة في العالم ثرواتها دون أن يعطوها خبزاً وقمحاً يسدان الجوع.

هذه القارة كانت ـ قبل أكثر من عشرة قرون ـ تنعم بالغنى والثروة نتيجة حكم الإسلام عليها).

لكن هذا الحال لم يكن قائما في العهد الاسلامي، بمعنى ان افريقيا عندما قادها الاسلام كانت اقل فقرا بكثيرا واكثر استعدادا للتطور والغنى، وقد أورد لنا سماحة المرجع الشيرازي في كتابه المذكور اعلاه دلائل من صلب الواقع تشير الى غنى افريقيا عندما أدار الاسلام سؤونها:

(فقد نقل المؤرخون: أن والي أفريقيا في العهد الإسلامي ـ وبالضبط في عهد أبي جعفر الإمام محمد الباقر عليه السلام خامس أئمة أهل البيت عليهم السلام مفتتح القرن الثاني الهجري ـ بعث رسالة إلى العاصمة الإسلامية يستفسر عن الصدقات والزكوات المتضخمة عنده ماذا يصنع بها؟ فصدر الجواب: أصرفها على الفقراء والضعفاء.

فكتب: عملنا ذلك وزادت صدقات كثيرة فماذا نعمل بها إذن؟

وصدر الجواب: اجعل من يعلن في البلاد على رؤوس الناس: ألا من كان محتاجاً فليأت الوالي وليأخذ حاجته من الصدقات. واجعل من يبحث عن الفقراء وأهل العوز، فلعل هناك بعض من يمنعه الحياء أن يأتي الوالي.. فكتب الوالي إلى العاصمة الإسلامية: فعلنا ذلك وزادت الصدقات. فصدر الجواب: اصرفها في عامة مصالح المسلمين. فهل رأت أفريقيا مثل ذلك في كل تاريخها وبعد الإسلام؟).

لذلك فإن النظام الاقتصادي وتطبيقه على الارض بدقة وتوازن له الاثر الكبير في قمع ظاهرة الفقر وتقليص الفوارق بين الاثرياء والاغنياء الى اقصى درجاتها، ما يؤدي الى استقرار الامة ونبوغها في مجالات الحياة كافة.

.....................................................................

هامش:

(1) يتحدث جرجي زيدان في كتابه (تاريخ التمدن الإسلامي) وغيره ممن كتبوا عن سعة الدولة الإسلامية وحضارة الإسلام: أنّ الدولة الإسلامية توسعت وتوسعت حتى بلغت خلال قرنين قرابة ثلاثة أرباع المسكونة إلى مفتتح القرن الثالث الهجري أي في عهد الإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام ، فأفريقية والهند وقسم كبير من الصين وإسبانيا وقسم كبير من روسيا… وغيرها كانت تحت سيطرة المسلمين وحكم الإسلام.

(2) راجع وسائل الشيعة: ج15 ص66 ب19 ح1.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 26/أيلول/2009 - 6/شوال/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م