لم يشهد شهر رمضان المنصرم جديدا بخصوص الدراما العراقية، فما زال
"ماضي" يسخر من ابن الريف الجنوبي محاولا إلصاق صفات البدائي والساذج
والمتخلف بهذا الإنسان، ولم يفوت قاسم الملاك فرصة تمثيله لبعض مشاهد
مسلسله"دار دور" في الناصرية، إلا ويسخر من المرأة الجنوبية من خلال
إظهاره امرأة جنوبية ساذجة وعديمة الحياء، ولا أدري ما هو المغزى من
هذا المشهد تحديدا إلا الاستخفاف بأهلنا في الجنوب؟. وبالطبع هناك
أعمال أخرى على ذات المنوال.
خلال السنوات التي أعقبت 2003 صبّ كتاب النص اهتمامهم على ابن الريف،
فكانت صورته التي رسموها له هي صورة "ماضي" بدشداشته الرثة القصيرة،
وغبائه وتلعثمه الممل، ولم يُنصف الجنوبي إلى حد ما إلا من خلال مسلسل
"أمطار النار" ولا أدري حقيقة لم يُساء للإنسان الجنوبي بهذه الطريقة،
ومآثر هذا الإنسان تملأ تاريخه ولا يمكن تجاوزها في أية مطالعة ولو
عابرة لتاريخ العراق، فالجنوبي هو الحرف السومري، وهو بيت الشعر، وهو
طيبة الماء، كما هو نار الثورة ومدادها على مر السنين، والجنوبي هو
مدرسة اللغة البصرية، وهو الفراهيدي والسياب، هو الشعر الشعبي العراقي
الذي أبهر العالم ولم يعرف للعراقيين شعر شعبي غيره، هو الأبوذية
والدارمي، والأهزوجة، هو عريان السيد خلف وعبادي العماري وحضيري أبو
عزيز وداخل حسن، وزامل سعيد فتاح، وهو المضيف والدلة والوجه البشوش
والقلب الكبير، هو الثورة والكبرياء، على مر التاريخ، ويكفينا النظر
للثلاثين عاما الماضية لنر كم من الأحداث الكبيرة صنعها الجنوبيون، ففي
ثمانينيات القرن الماضي حين كانت دول المنطقة ترتجف ذعرا من صدام كان
الجنوبيون يصرخون بوجهه صرخة رفض وإباء ويقادون إلى المشانق وأحواض
التيزاب والمقابر الجماعية بكل عزة.
ومطلع العقد التاسع من القرن الماضي ينفجر الغضب الجنوبي من البصرة
ليعلن ثورة العراق بوجه الطاغية صدام في ثورة 1991، ويعقبها فيما بعد
بثورة الأهوار المسلحة في الناصرية والعمارة والبصرة والتي امتدت حتى
سقوط الصنم، وأرجو أن معظم سياسيي اليوم لم ينسوا أن منازل أهل الجنوب
كانت مقرات جهادية وثورية لهم طوال الثمانينيات والتسعينيات من القرن
الماضي، ويكفي للدلالة على الدور الثوري للجنوبيين إن حسين كامل وهو
أحد أركان نظام حزب البعث اعترف حين هرب إلى الأردن منتصف التسعينيات،
وهو حدث معروف، أن"جنوب العراق يخرج عن سيطرة السلطة ليلا" وفي هذا
القول ما يشير إلى عشرات المعارك التي خاضها الثوار في الجنوب ضد سلطة
صدام.
وفي مواجهة هذا الموقف الكبير لأبناء الجنوب عمدت سلطة البعث
لمحاربتهم ثقافيا ومعيشيا وبيئيا فحولت الجنوب إلى أرض محروقة ووجد
الجنوبيون أنفسهم محاصرون من كل اتجاه، فمن جانب كانت مدن الجنوب مسرحا
لكل حروب صدام ومغامراته، ومن جانب آخر كان الحصار الاقتصادي وأزمات
مقصودة في قطاعات المياه والسكن والصحة والتعليم والخدمات، تضغط عليهم
بشكل مقصود في محاولة من السلطة لتدمير الإنسان الجنوبي وإشغاله
بمشاكله اليومية. ولكن الغريب أن آثار الدمار الذي لحق بجنوب العراق
والذي كانت سلطة البعث سببا فيه تحول إلى مناسبة للتهكم على الجنوبي
والانتقاص من قبل بعض الجهات، وهو أمر غريب يكشف عن عدم إنصاف وعن عدم
وعي أيضا، فالسيئ الذي يمكن تسجيله في الجنوب يمكن تسجيله في أماكن
أخرى من العراق، كما لهذا السوء أسباب ليس للناس ذنب فيها، فهو نتاج
سياسات طائشة وتعسفية لأنظمة سياسية طائفية حكمت العراق لعشرات السنين،
وكان أسوؤها نظام حزب البعث، والشعور بالالتزام اليوم من قبل السياسي
والصحفي والممثل وكاتب النص ووسائل الإعلام العراقية، هو الترميم
والبناء وليس الرجم والجلد.
هذا إن كان كل هؤلاء حريصون على العراق ويشعرون تجاهه بالحب
والانتماء، والمتابع لكل الفضائيات العربية يجد منهجا لديها أضحى سلوكا
إعلاميا يقوم على تعزيز مكانة ابن البلد وعدم التشهير به، وحتى وإن
عمدت الأعمال الدرامية المقدمة من هذه الفضائيات إلى النقد فهي لا
تجعله مناسبة للرجم ولا تلصقه بمنطقة أو فئة أو طائفة، بل تتناوله من
جوانب إنسانية مجردة دون إيحاءات تعميمية.
سألت بعض الأشخاص المهتمين عن تفسيرهم لظاهرة "تحقير العراقي" في
الأعمال الدرامية العراقية التي تبث من فضائيات عراقية، فقال هؤلاء إن"
هذا نتاج ضحالة في ثقافة كتاب النص ممن يكتبون هذه الأعمال، بمعنى آخر
أن كثرة الفضائيات وما يرافقها من مغريات وفرص عمل لكتاب النص
والممثلين، دفعت بكثير من الطارئين لركوب الموجة فسادت نصوص الهرج
والمرج التي ليس لها هدف سوى محاولة إضحاك المشاهد".
قد يكون هذا التفسير حقيقيا وقريبا من الواقع فيما يخص بعض الأعمال
التي لا تقف وراءها أغراض انتقاصية. ولكنه الواقع الأسوأ، فالتمثيل
ليس"لواته" ولا هو تهريج وإضحاك المشاهدين على أنفسهم وعلى الممثل بعد
أن يجعل من نفسه"قرقوز" كما لا يعني بناء النص الدرامي إلا بناء
للإنسان ووضع الحلول للمشاكل، والمعالجات للأزمات الفكرية والثقافية
والأخلاقية التي يشهدها المجتمع، أما أن يتحول النص الدرامي إلى" لطم
وطك اصبع وإسفاف" فهذا فراغ حقيقي في شخصية كاتبه الفقيرة التي تعكس
خواء يتجلى بأعمال هابطة. |