حرب القرم (تجربة معركة)

عباس يوسف آل ماجد

بدا لروسيا في منتصف القرن الثامن عشر إنها ستفرض سلطانها على الدول المجاورة لتبتلعها الواحدة تلو الأخرى، نظرا لضعف إمكانية تلك الدول من جهة،ولتعاظم النفوذ الروسي العسكري والاستعماري من جهة أخرى، لذا فكرت روسيا بأكتساح الدولة العثمانية لما لها من دور في تحجيم الوجود الروسي في أرمينيا وباقي الحدود المتاخمة للبلدين، وعقدت العزم على محاربة العثمانيين وقد خططت لما يعرف بحرب القرم، والسبب المباشر للحرب كان يتمثل  بنزاع حول مكانة الكنيسة النصرانية الأرثوذكسية في الدولة العثمانية الإسلامية.

 إلا أن الأسباب البعيدة كانت أكثر تعقيدًا من ذلك. فقد ازداد قلق النمسا وفرنسا والمملكة المتحدة من النوايا الروسية في بلاد البلقان، فصمّمت على إحباط سياسات روسيا التوسعية في المنطقة.وبعد فشل البعثة الروسية التي أرسلها نيقولا الأول الى استنبول بقيادة منشكوف للتفاوض حول الأماكن المقدسة والحصول على امتيازات للأرثوذكس  طلب اللورد كلاوندون، وزير خارجية بريطانيا، من الدبلوماسي السير ستراتفورد دي رد كليفأن بقطع إجازته في لندن والعودة بشكل فوري إلى مقر عمله من أجل العمل على إحباط المفاوضات الروسية العثمانية بكل وسيلة، وعلى الجانب الآخر طلبت الحكومة الفرنسية من قائد أسطولها في البحر المتوسط أن يرسل بعض وحداته إلى المياه العثمانية، و نشطت الحكومتان لعزل روسيا بعد تأكدهما أن الهدف الحقيقي لمهمة منشكوف هو تحويل قضية الأماكن المقدسة من خلاف مذهبي بين الكاثوليك و الأرثوذكس إلى أزمة سياسية تستفيد منها الحكومة الروسية، و ذلك أما بالقضاء على الإمبراطورية العثمانية، أو على الأقل كسب امتيازات جديدة داخل الدولة العثمانية، و بينما كانت الحكومتان الفرنسية و البريطانية تتشاوران في الأمر، كان منشكوف، يجمع حوله مساعديه و رجال السفارة و يتدارس معهم نصوص مذكراته إلى الباب العالي، وفي 16 آذار سلم منشكوف السلطان العثماني مذكرة، واتبعها بأخرى في 22 من الشهر نفسه، طلب فيهما و بإلحاح شديد إنهاء مسالة الأراضي المقدسة، بحيث يضمن استمرار حقوق الأرثوذكس و يضع حدا لتعديات الرهبان، وسحب مفتاح كنيسة بيت لحم منهم، ووضع قبر السيدة العذراء في ذمة الروم وحدهم وإعطاء حرية ترميم قبة كنيسة القيامة.

 وفي تلك الأثناء قام السفير البريطاني في الآستانة بتشجيع الوزراء العثمانيين على الوقوف في وجه المطامع الروسية مؤكدا لهم إن بريطانيا لن تتركهم وحدهم، و شرحت الحكومة البريطانية لفرنسا في الوقت نفسه حقيقة أهداف البعثة الروسية، واقتنعت فرنسا بوجهة النظر البريطانية و بضرورة التساهل في مشكلة بيت المقدس و بيت لحم، لتضيع على الروس كل حجة للانتقال بالموضوع من خلاف مذهبي إلى مشكلة سياسية، و بناء على رغبة الحكومة البريطانية، وعملا بنصيحتها قبلت حكومة الباب العالي القسم الأكبر من المطالب الروسية الواردة في المذكرتين الروسيتين المذكورتين، وأصدر السلطان في 4 أيار 1853 فرمانا جديدا يحل الأزمة على الوجه الذي أراده مبعوث الحكومة الروسية، بعد أن وافق سفير بريطانيا وفرنسا في الآستانة على ما ورد في الفرمان اعتقادا منهما أن ذلك سيفتح الباب في القريب لمطالب جديدة يتقدم بها منشكوف، فيكشف عن حقيقة مهمته و خفايا السياسة الروسية في الإمبراطورية العثمانية.

وبالفعل فالخطة الروسية لم تدم طويلا وفشل المفاوض الروسي في إدارة المفاوضات، مما أدى ذلك الى حدوث حالة من التنافر والاستعداد للحرب، وفعلا اندلعت هذه الحرب عام 1853 بين القوات الروسية وجيوش التحالف التي ضمت كلاً من فرنسا والدولة العثماينة وسردينيا بييدمون والمملكة المتحدة.

وترجع تسمية الحرب بهذا الاسم نسبة الى  شبه جزيرة القرم التي حدثت فيها المعركة. وقد بدأت الحرب احتلت روسيا إمارات الدانوب (رومانيا الحالية) في تموز عام 1853م، وعلى اثر ذلك فقد أرسلت المملكة المتحدة فورًا أسطولا إلى القسطنطينية (إسطنبول) لمساندة الأتراك، وقد أعلنت تركيا الحرب على روسيا في أكتوبر عام 1853م، فشنت هجومًا على إمارات الدانوب. وفي شهر يناير من عام 1854م وبعد أن دمر الأسطول الروسي بعض السفن التركية في سينوبه، وقامت فرنسا والمملكة المتحدة بإرسال أساطيلهما إلى البحر الأسود لحماية حركة التجارة التركية.

 وفي مارس أعلنت فرنسا والمملكة المتحدة الحرب على روسيا. وفي أغسطس قام الروس بسحب قواتهم من إمارات الدانوب بغية منع النمسا من الانضمام إلى التحالف ضدهم ومن ثم احتلت النمسا الإمارات. في سبتمبر من عام 1854م أنزلت فرنسا والمملكة المتحدة جيوشهما في بلاد القرم. وضربت تلك الجيوش حصارًا حول الحصون المحيطة بمدينة سيفاستوبول لمدة عام كامل.

وفي يناير من عام 1855م قام الكونت دي كافور بإرسال 10,000 جندي سرديني مجهزين تجهيزًا كاملاً لمساعدة فرنسا والمملكة المتحدة أملاً في الحصول على دعم لجهوده الرامية إلى توحيد إيطاليا. استبسل جنود الحلفاء في معارك ألما في 20 سبتمبر 1854م وبالاكلاوا في 25 أكتوبر 1854م وفي إنكرمان في 5 نوفمبر 1854م. إلا أن قوات التحالف عجزت في البداية عن اختراق الدفاعات الروسية بشكل فعال. وفي 11 سبتمبر عام 1855م، تمكن الفرنسيون من شن هجوم ناجح على مالاخوف وهي نقطة استراتيجية في الدفاعات الروسية، واضطر الروس إلى إخلاء حصونهم وإغراق سفنهم والتخلِّى عن سيفاستوبول.

واستمرت الحرب بعد ذلك حتى وافقت روسيا على شروط السلم المبدئية على مضض بعد أن أُنْهكتْ عسكريًا واقتصاديًا، كما خشيت أن تتدخل النمسا مرة أخرى في بلاد البلقان، وتم التوصل إلى السلام الكامل في مؤتمر باريس، حيث جرى التوقيع على معاهدة السلام في 30 مارس عام 1856م. واضطرت روسيا بموجب المعاهدة إلى التخلي عن بعض الأراضي التي احتلتها من الدولة العثمانية، ومنعت السفن الحربية من دخول البحر الأسود ومنعت التحصينات حوله.تميزت هذه الحرب بسوء القيادة والإدارة من كلا الجانبين. فقد تمسك الضُباط القادة، وكان كثيرون منهم من الكِبَر بحيث لم يكونوا أكفاء لإدارة المعارك الميدانية بمفاهيم نابوليونية عفا عليها الزمن، مما تسبب في وقوع الكثير من الكوارث.

 كما كانت الرعاية الصحية في المعسكرات معدومة عمليًا. ولم يحظ المجندون بأي اهتمام؛ فهلك الآلاف منهم بسبب الكوليرا وبعض الأمراض الأخرى التي كان من الممكن منعها. وقد تولت فلورنس نايتنجيل قيادة فريق من الممرضات مؤلف من 38 ممرضة، حيث أبحرت من المملكة المتحدة إلى سكوتاري لتقيم مستشفى للجرحى. إلا أن الأوضاع الطبية بقيت بدائية، وفاق عدد الذين ماتوا متأثرين بجراحهم، عدد من قتلوا في المعارك مباشرة. وكانت حرب القرم أول اشتباك عسكري كبير يشهده مراسلو ومصورو الصحف فعليًا. فقد كان السير وليم رسل من جريدة التايمز يبرق بتقاريره يوميًا إلى لندن، وقد وصف معاناة الجنود، والافتقار الكامل إلى المؤن الأساسية وعدم كفاية القادة. كما كتب الشاعر الإنجليزي اللورد تينيسون قصيدة شهيرة بعنوان هجوم الفرقة الخفيفة حول معركة بالاكلاوا. لم تتمكن حرب القرم من تحقيق الاستقرار في أوروبا الشرقية. فعندما كانت الحرب في أوجها أدخل الإسكندر الثاني ـ الذي أصبح قيصرًا على روسيا عام 1855م ـ إصلاحات اقتصادية وعسكرية شاملة أملاً في التغلب على تخلف بلاده. كما استغل الكونت دي كانور مؤتمر باريس منبرًا للمطالبة بوحدة إيطاليا ضد رغبات النمسا.

وأدركت بروسيا أن عزلة النمسا خلقت فراغًا في وسط أوروبا، وبدأت بإلقاء بذور الوحدة الألمانية. ولاشك أن نتائج حرب القرم لازالت الى الان تلقى بظلالها على المشهد السياسي والتاريخي الروسي، فهل سيستفيد الروس من تلك النتائج مستقبلا ؟ وخصوصا أن زمن التحالفات الكبيرة قد رجع وكأن التاريخ يعيد نفسه لكن بصيغة أخرى قد تختلف عن سابقتها.

abbasmajedy@yahoo.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 17/أيلول/2009 - 27/رمضان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م