لم يتفق الناس حتى هذه اللحظة على تعريف جامع مانع لتحديد معنى
المثقف بدليل اننا لو جربنا سؤال عينة عشوائية من المجتمع عن معنى هذه
الكلمة لحصلنا على مجموعة توصيفات قد يناقض بعضها البعض الآخر بشكل
سافر، ومما يزيد الامر صعوبة انتفاء وجود مرجعية ثقافية عليا واحدة
تتكفل بإصدار بيان يضع حدا لهذا الجدل الطويل حول ما تعنيه لفظة المثقف
من حيث الاصطلاح، الذي أظهره للوجود في عالمنا العربي الكاتب المصري
سلامة موسى كما تنص على ذلك بعض الأخبار.
وبصورة عامة فان المثقف لايخرج عن كونه وصفا عاما يضم بين جنبيه
مجموعة من السمات الايجابية كالميل الى التعلم وسعة الاطلاع والتمتع
بحس نقدي وجمالي مستقل بالاضافة الى امتلاك وجهات نظر تساير او تغاير
النظام السياسي والاجتماعي لبلد ما مشفوعة بعناصر الإقناع والقدرة على
التأثير فضلا عن التخلق بسلوكيات متحضرة.
وبصرف النظر عن استقراء جميع الشمائل الايجابية التي يُفترض تواجدها
في إطار شخصية المثقف فان ثمة مسالة هامة جديرة بالنقاش وتتعلق بحدود
هذا المثقف بمعنى اكثر دقة هل ان المثقف مفهوم انساني يمكن تعميمه على
سائر انحاء المعمورة في حقبة تاريخية واحدة ام انه مفهوم عائم يختلف من
مكان الى اخر رغم وجوده في مقطع زمني واحد؟.
لايخفى ان هناك نظريتين بارزتين تبحثان في علم جغرافية المثقف،
الاولى عالمية لا تميز بين مثقف واخر على اساس مكان تواجده فالمثقف هو
المثقف سواء كان في اوربا واسيا وافريقيا والامريكيتين وهذه النظرية
فضلا عن عدم واقعيتها واستحالة تطبيقها عمليا فانها دعوة صارخة لالغاء
التعددية الثقافية بين البشر كما انها تستلزم في كثير من الاحيان وجود
أيدلوجية شمولية معينة تسعى لتصدير نموذج انساني موحد على صعيد طريقتي
التفكير والسلوك بقصد بلوغ اهدافها في الهيمنة والنفوذ او على اقل
تقدير تسويق هوية ثقافية محلية محدودة ما كالامريكية مثلا على انها
ثقافة عالمية تصلح لجميع سكان المعمورة بغير استثناء.
ومن تداعيات محاولة تطبيق هذه النظرية العالمية في البيئات
الانسانية المختلفة أن ظهر نموذج المثقف الضحية واعني به ذلك المثقف
المستورد لثقافة اجنبية بقصد تعميمها بين ابناء جلدته من دون مراعاة
لظروف الاختلاف بين بيئة إنسانية واخرى واكثر ما يلاحظ شيوع هذا النمط
الانساني بين صفوف الشعراء والادباء وعلماء النفس والتربية والاجتماع
على نحو خاص.
وهنا يبرز احتمال سقوط هذا المثقف بسياط ان لم نقل سيوف النقد
المحلية فاذا نجا من هذا المصير المحتمل فانه واقع لامحالة فريسة
الاحساس بالاغتراب تجاه بيئته المحلية ما يحمله على تبني سلوك السير ضد
التيار العام والنظرة الدونية لكل ما تقع عليه عيناه ما عدا ثلة من
مريديه واتباعه الذين يتناقصون بدورهم تدريجيا الامر الذي يلجئه في
النهاية الى التفكير بالهجرة عن بيئته الاصلية الى بيئات المنشأ
الثقافي...، فاذا عجزعن تنفيذ ذلك عمليا عمد الى العزلة والانطواء
والتشرنق حول نواة نرجسية بالغة الصغر والضيق كما هو مشاهد في الكثير
من مدعي الثقافة المستنيرة.
أما النظرية الثانية والمتبناة من قبل جملة من علماء الاجتماع
الشرقيين والمشتغلين في علوم التربية فانهم ينظرون الى الثقافة بمعناها
المجرد عن السياسة على انها منتوج محلي غير قابل للاستيراد والتصدير
هذا اولا، وثانيا فانه ليس هناك من وجهة نظر هؤلاء ثمة مثقف وانما
مثقفون يقع على عاتقهم اينما كانوا تبليغ مناهج للتفكير والسلوك
المتحضر أشبه شيئا بامثلتها العليا السماوية منها والوضعية.
والحقيقة فان هذه النظرية هي الاوفق من الاولى من حيث توفرها على
الادلة العلمية والمنطقية واستنادها الى قواعد جماهيرية واسعة الا ان
حظوظها في التبني والترويج الفاعل من لدن مثقفي منطقتنا الاسلامية
والعربية ومنهم العراقيون لا يزال ادنى بكثير من المعدلات التي احرزتها
وتحرزها النظرية الاولى، ولو بحثنا في الاسباب لوجدنا ابرزها يتمثل
بالاتي:
1- الخوف من اتهامات الخصوم الجاهزة لهم بالرجعية والقومية
والعنصرية والطائفية وما الى ذلك.
2- الانبهار بنموذج المثقف بصيغته العالمية بكل ما فيه وعليه من
افكار تمس الكون والمجتمع.
3- النظرة الدونية الى محتوى التراث المحلي وبالتالي النظرة الدونية
للذات الوطنية او الدينية.
4- تبني فكرة العولمة ومنها عولمة الثقافة في مقابل فكرة الحفاظ على
الهويات الخاصة.
5- إغراق الاسواق المحلية بالبضاعة الثقافية الاجنبية الموردة
باثمان رخيصة تزامنا مع سياسة اغراق الاسواق في البلدان المتخلفة
بالمنتوجات الاجنبية عالية الجودة وزهيدة الاسعار ما يعطي انطباعا عاما
بعدم جدوائية الثقافات المحلية قياسا بالصناعات المحلية الرديئة في
الدول غير المتطورة تقنيا.
ان الاحساس بخطر تعميم مفهوم المثقف بمعناه العالمي على نظرائه
المحليين بدأ يأخذ حيزا مهما من اهتمامات دول العالم المختلفة وعليه
فقد شرعت دول شتى بالتراجع عن مسلماتها الفكرية السابقة باتجاه المسير
نحو مصادرها الثقافية التقليدية لاسيما ما يتعلق بكنوزها الروحية التي
ذهبت او كادت ان تذهب ضحية عوامل الاندثار من فرط ما زهدت بها النخبة
الاجتماعية او ما تُسمى كذلك في تلك البلدان، وبهذا المعنى فليس من
المستغرب ان تجد في الكثير من رسائل الماجستير واطاريح الدكتوراه
الحديثة في دول الشرق ما ينبأ بالعودة الى مشاريع احياء الموات
الثقافية لتلك الدول ومحاولات تبني مفهوم المثقف بمعناه المحلي
والمبالغة في الترويج المتأخر له...
ان نمو التجربة العلمية في البلدان الأسيوية الآخذة بالتقدم
التكنولوجي المضطرد يعطي دليلا مضافا على ان العلم الحقيقي بقدر ما
ينفتح على الوافد المفيد فانه يُبقي الباب مفتوحا على مصراعيه مع قديمه
الاصيل، وانسياقا مع هذا الطرح فان ثمة رأيا يتداوله العديد من
المختصين بتراث العالم العربي والاسلامي يؤكد باستمرار على وجود
معلومات (جديدة) في ثنايا ملايين المخطوطات المكتوبة باللغة العربية،
ومعه فان ثمة الكثير من الكنوز المهملة في طيات التراث العربي
والاسلامي الذي يستقتل بعض المتغربين من اجل القائه جملة وتفصيلا في
سلة مهملات التاريخ والاستعاضة عنه بقشور ميتة او بذور لا سبيل
لزراعتها بصورة طبيعية في الارض العربية والاسلامية.
يبقى لنا ان نختم هذا العرض لدلالات لفظة المثقف بمحاولة استجلاء
المسؤولية التي من المفروض ان تقع على كاهل هذا المثقف بنوعه المحلي
المتميز وهذه يمكن فهمها من خلال تصدي المثقفين المشارقة للمسؤليات
التالية:
1 – تقديم الحلول وعدم الاكتفاء بتوجيه الانتقادات على الصعد
السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية.
2- تشكيل صورة نمطية للمثقف تاخذ بالحسبان ضرورة ان تشتمل شخصية
المثقف على القدرة على شغل منصب القدوة بما تتضمنه من عناصر الصدق
والجذب والاستمالة والتأثير.
3- استشعار حاجات المجتمع الفكرية والعمل على إيجاد صيغ موضوعية
لإشباعها.
4- إشاعة الإيمان بحرية التعبير والتعددية الفكرية ومكافحة ثقافات
الإقصاء والانهزام.
5-الوقوف الفكري الجاد امام التيارات السياسية والاجتماعية وحتى
الاقتصادية التي تهدف الى زعزعة أعراف الشعوب والمجتمعات لاسيما
الصالحة منها مثل مخططات الإطاحة بالمنظومة الأخلاقية والروحية وإشاعة
ثقافة الاستهلاك والفوضى والتحلل في مقابل ثقافة الإنتاج والنظام
والالتزام.
* مركز المستقبل للدراسات والبحوث
http://mcsr.net |