أحمد الصافي النجفي...الشاعر الغائب الحاضر

د. سعدي غزاي عمران

التعريف بالشاعر:

ولد شاعرنا احمد علي الصافي النجفي في مدينة النجف الأشرف عام 1894م "لأب من أسرة حجازية الأصل وأم لبنانية من مدينة صور"،"تنحدر أصوله من اسرة علمية دينية مرموقة يتصل نسبها بالإمام موسى الكاظم وكانت تعرف بآل السيد عبد العزيز  "،وتلقّی دراسته في مدارس النجف، ثم انتقل إلی إیران،أو هرب الى ايران بعبارة اصح وذلك فی العشرین من عمره في عام 1920 حيث أصدر الحاكم الإنكليزي أمراً بإلقاء القبض على الصَافي لكونه من المحرضين على ثورة العشرين ومن فاضطر إلى مغادرة العراق إلى إيران واستقر بولاية شيراز وهناك تعلم اللغة الفارسية وعمل مدرساً للآداب العربية في ثلاث مدارس وتابع نشر مقالاته في الصحف والمجلات وناصر في مقالاته وشعره الثورة الدستورية في ايران التي عرفت بحركة"المشروطة" فلفت الأنظار إليه وانتخب عضواً في النادي الأدبي وبعدها عيّن عضواً في لجنة التأليف والترجمة، ثم كلفته وزارة المعارف في ايران ترجمة كتاب في (علم النفس) لمؤلفيه علي الجارم وأحمد أمين من العربية إلى الفارسية لتدرّس في دار المعلمين بطهران فترجمه بدقة الى الفارسية، ثم ترجم رباعيات الخيام من الفارسية إلى العربية اذ تعتبر أفضل ترجمة لأنه نقلها عن الأصل الفارسي وطبعت للمرة الأولى في طهران"، حیث قال الصافي بعد فراغه من التعریب:«...ولما أكملتُ التعریب عرضته علی أدباء الفرس فقابلوه بالأصل وأكبروه غایة الإكبار.. وإلیك ما فاه به أكبر شعراء الفرس وهو محمد حسین بهار الملقب بـ(ملك الشعراء): إن بعض التعریب مع كونه مطابقاً للأصل جداً فهو یفوقه من حیث البلاغة والأسلوب كهذه الرباعیة:

لم یحظَ في الدهرِ من وردِ الخدودِ فتیً              إلّا وكابدَ من أشواكه  العَطَبا

أنظرْ إلی المُشطِ  لم تبلغْ أناملـُه                   أصداغَ أغیدَ ما لم ینشعبْ شُعَبا

والرباعیة الآتیة:

أیا فلكاً   یربّي   كلَّ    نذلٍ                    ولیس یدورُ حسبَ رضا الكریمِ

كفی بك شیمةً أن رحتَ تهوي                بذي شرفٍ  وتسمو  باللئیمِ »

  ثم عاد إلى العراق بطلب الحكومة العراقية وأصدقائه ليخدم بلده فعيّن قاضياً في مدينة الناصرية لثلاث سنوات. 

وفي عام 1930 ذهب إلى سورية للاستشفاء على إثر وعكة صحية ألمت به، وكان يتنقل بين دمشق وبيروت متابعاً رسالته الأدبية. وعندما اندلعت الحرب بين الحلفاء والمحور عام 1941 أدخل الصافي النجفي السجن بأمر السلطات الإنكليزية على إثر الأشعار الوطنية التي راح ينظمها ويهاجم فيها الاستعمار والمستعمرين حتى ألهب حماس العراقيين، ومكث في التوقيف ثلاثة و أربعين يوماً تحت إدارة الأمن العام الفرنسي ثم أفرج عنه ونظم في السجن ديوانه الشهير (حصاد السجن)،الذي يعد ظاهرة فريدة من نوعها في أدبنا الحديث، وأهداه لكفاح الشعب العراقي ضد الانجليز وعملائهم قائلا:

لئن أُسْجَنْ فما الأقفاصُ إلا         لليثِ الغابِ أو للعندليبِ...

ألا يا بلبلاً سجنوك ظلماً        فنُحْتَ لفُرقةِ الغصنِ الرطيب

وقد حرص الشاعر علی إبقاء حصیلة أشعاره في السجن بعیدة عن النشر لأسباب لم یفصح عنها في حینه ومن المرجح أنها كانت سياسية.

أمضى الصافي 36 عاماً متنقلاً بين إيران و سورية ولبنان وكانت المقاهي ضالته في دمشق فكان يرتاد مقاهى (الهافانا) و (الكمال) و (الروضة) لانها كانت ملتقى الشعراء والأدباء والصحفيين. كان الصافي قليل الدخل فاتخذ غرفة قديمة في (مدرسة الخياطين) وكان من أصدقائه بدمشق الدكتور عبد السلام العجيلي وفخري البارودي وبدوي الجبل ومحمد الحريري وأحمد الجندي وعمر أبو ريشة وسعيد الجزائري. ومن أصدقائه في لبنان الشاعر القروي وميخائيل نعيمة ومارون  عبود وغيرهم.

وفي خلال إقامته في لبنان كان يرتاد مقهى الحاج داود ومقهى البحرين ومقهى فاروق وفي المساء كان يأوي إلى غرفة متواضعة قرب مستشفى (أوتيل ديو)."

حياة الغربة والتشرد والسجون:

عاش الصافي النجفي حياة عجافاً، حياة ممزقة بين السقم واليتم والألم والحرمان؛ مات أبوه ولم يبلغ الثانية عشرة، وتوفيت أمّه ولم يكمل السابعة عشرة من عمره، فداهمته الأحزان والعلل، حتى قال في ذلك:

أسیرُ بِجسمٍ مُشْبِهٍ  جسمَ مَیِّتٍ               كأنّي إذا أمشي  بهِ حامِلاً  نَعْشِي

 وعاش غريباً داخل نفسه وغريباً بين أهله وعشيرته "بل الغريب من هو في غربته غريب "كما يقول أبو حيان التوحيدي. فكتب الصافي، بحسّ مرهف وبدمع ذارف، أجمل قصائد الغربة، والمعاناة من السجن التي وصفها بالغربة داخل الغربة لأنه سجن خارج وطنه (أری في غربةِ الإنسانِ  سجناً      فكیف بسجنِ إنسانٍ غریبِ؟! )، كما عبر عن ذلك في قصيدة "شاعر وأزهار"إذ يقول ونحن نلمس في قوله عذوبة لغة هذا الشاعر وفرط حساسيته الممتزجة بالألم والمعاناة:

أقبّلُ الزهرَ في الأغصان مـزدهِياً         وما تسوغُ كفي قـطفَ أزهارِ

جرّبتُ من غربتي ما لستُ أحـمِلهُ      فما أكلّفُ غيري غربةَ الـدار

تموتُ للـغربةِ الأزهارُ إن قُطِفـتْ     فكيف يحيا غريبٌ رهنُ أسفار؟

لو كان يحملُ حسَ الزّهرِ مغـتربٌ    لماتَ كالزهرِ من همٍ وأكـدار

يبدو لي الزهرُ تزدانُ الصدورُ به         مثلَ الشهيدِ بلا جرمٍ وأوزارِ

" طاف الصافي مدناً ودولاً عديدة منفياً مطارداً من أنظمة متتابعة تسلطت على حكم البلاد ورفعت الشعارات الكاذبة لتخدير عقول أبناء الشعب العراقي وساهمت في تثبيت أقدام المحتلين والدخلاء،اكثر من خمسين عاماً قضاها بعيدا عن العراق تطلب رأسه جميع الحكومات، وتهاجم قصائده كل الحكومات."

 وهكذا فقدكان الصافی شریداً من كید حكام الجور الضالعین فی ركاب الاستعمار لرفضه وجود المحتلین الأجانب لبلاده وكان الصافی یكن كرهاً شديداً للإنجلیز بسبب جرائمهم فی العراق والدول العربیة حیث یقول:

أحاربُ جیشَ الإنجلیزِ لأننی وقفتُ علی نصرِ الحقیقةِ مِخْذَمي

أحاربُهم حربی لكلِّ رذیلةٍ      إلی کلِّ  شیطانٍ  إلی کل  أرقمِ 

أخاف إذا ماتوا تموتُ أبالیسٌ فأبقی بلا لعني لهم نصفَ  مسلمِ

تحاربُهم روحي وکفي ومنطقي وإن همْ نووا قتلي یحاربْهم دمي!

ويبدو واضحاً من تلك الأبيات مدى الكره والبغض اللذين كان الشاعر يضمرهما للإنجليز ؛فهو يعتبرهم رذيلة ورجساً على الارض، بل هم الشيطان نفسه، وهم يحملون صفة الغدر كما يحملها الثعبان في أسوء أنواعه.

وليت شعري اين ذهبت هذه اللهجة المتفجرة كراهية وبغضاً عنا ونحن ننوء تحت الإحتلالين الأمريكي والبريطاني وشتى أنواع الإحتلال الأخرى،فهاهو ذا التاريخ يعيد نفسه مرة أخرى،ولكننا في هذه المرة نأينا عن نهج أسلافنا فإذا بنا نرتمي في أحضان المستعمرين الجدد القدامى،وإذا بالاستعمار الذي كان بالأمس رجساً وعدواً لله ولرسوله وللإسلام يتحول إلى صديق حميم، نصافحه بحرارة، ونتحالف معه،ونتبادل معه القبلات! متصورين - ويا لسذاجة هذا التصور!- انه سيحل كل مشاكلنا،وسيهب لنا الحرية والديمقراطية المزعومتين،وسيحول بلادنا إلى قبلة للديمقراطية في العالم! وإلى جنة يقصدها السالكون، ونحن لا نعلم – وربما رمينا أنفسنا بالجهل وعدم العلم- أنه السبب الأول والأخير في كل المصائب والكوارث التي نعاني منها وسنطل نعاني منها طالما لازمتنا تلك الأحلام والتصورات المعسولة !

وهكذا فقد نذرالصافي نفسه لمقارعة المستعمرين منذ سنواته البكر؛ فهو من الممهدين لثورة العشرين في العراق بحيث كان بيته، في مدينة النجف الأشرف مسقط رأسه، مقراً للنضال ومأوى للمناضلين يلهب فيهم ويؤجج سنا الثورة شعراً وفعلاً. وبعد أفول الثورة نصبت له الأعواد لشنقه، فأدركه الخبر، فعاش حياة التجوال والاغتراب؛ يفر من مدينة لأخرى، ومن بلد لآخر. فصارت حياته سفراً في سفر، يعاقر المرض والفقر ويمجهما شعراً انطوى على كلّ روائع الشعر وتحف الأدب والفن عبر أسلوب واءم فيه الشاعر بين الشكل والمضمون وبين القوالب الكلاسيكية والمضامين الحديثة.

لقد كان الصافي مطارداً من الإنجليز، فحط الرحال، بعد طول غياب، في أرض لبنان، ليناصب الفرنسيين العداء الذين قرروا إبعاد صوته الذي كان يتسلل إليهم من بين الأصوات كفورة دم ولمعة نجم في سماء لا تكدرها الغيوم. فكان لهم ما أرادوا وله ما أراد :

سُجنت وقد مرتْ ثلاثون حجة ً      من العمرِ فيها للـسجونِ تشـوّقْتُ

سعى "دعبلٌ" للسجنِ طولَ حياتِه       فخابَ، وفي المسعى لسجني توَفّقْتُ

مرّت بالصافي السنون، وحياته سجال بين المرض والمنون. بيد أنّ النضال كان يهبه أسباب الحياة، ويُلبس خصومه عوامل الخواء،وكانت لعناته منصبة على بريطانيا أم الفساد، والسبب الرئيس وراء كل المشاكل التي نعاني منها:

خسئتْ إنكـلترا واللهُ        أعـمى مُـقلتــيْها

قبرُها في كـلّ أرضٍ         حفـرتْه بــيديـْها

سجنتني دون ذنــبٍ       غير لعني   أبــويْها

أمّنت حربي، وسجني          يعلنُ الحربَ  عليها!

ترى ماذا كان شاعرنا الصافي ليقول لو كانت حياته امتدت الى هذا الزمن الإنجلو-امريكي،الزمن الذي اصبحت فيه القوى الإستعمارية الكبرى صديقة للمسلمين في ليلة وضحاها! ومن العجب أن (بعض المسلمين)الذين كانوا يدعون حتى فترة قريبة أن تلك القوى هي عدوة الشعوب، والعدو الأول واللدود للإسلام والمسلمين نراهم اليوم وقد تخلوا ببساطة عن شعاراتهم السابقة ليرتموا في أحضان تلك القوى حتى النخاع طالبين منها حل مشاكلهم، وتقديم معطياتهم وإنجازاتهم في مجال الحرية والديمقراطية، فرحمك الله ياشاعرنا الصافي،ولقد أنعم الله عليك إذ لم يمد زمانك إلى هذا الزمن، إذن لكان الكمد والغيظ كافياً لرحيلك من هذه الحياة،لا تلك الرصاصة الطائشة التي أصابتك في لبنان!

ترک الصافي النجفي عدّة مجموعات شعریة منها: «دیوان الأمواج» 1932م؛ «أشعّة ملوّنة » 1938؛ «الأغوار» 1944؛ «التیّار» 1946؛ «ألحان اللهیب» 1948؛ «الهواجس» 1949؛ «شرر» 1952؛ و«المجموعة الکاملة لأشعار أحمد الصافي النجفي » 1978م.

خصائص شعره

يُعَدّ الشاعر أحمد الصافي النجفي بسيرته الشعرية والنضالية قيمة تراثية تستحق التأمل والانبهار في كل حين، وصفه كبير النقاد وعلم المبدعين عباس محمود العقاد بقوله: "الصافي أكبر شعراء العربية".

"كما قالت الأديبة المشهورة " مي زيادة " الصافي النجفي شاعر كبير دون منازع يعيد أمجاد الشعر العباسي إلى الأدب العربي المعاصر"

   و لا شک في أن الصافي ترک لنا أنموذجاً رائعاً للشعر الصادق الذي یصوّر لنا حیاة الضنک والبؤس والحرمان ویضجّ بالشکوی والتبرّم من هذه الحیاة، فنحن واجدون فیه الصراحة المُشجیة، والتقلّبات والمشاعر والأحاسیس النفسیة والروحیة الملتهبة التي تتخلّلها العبرات، وتکتنفها اللغة الساخرة المتهکّمة فقد کان الشاعر یمیل رغم تشاؤمه وبرمه إلی السخریة والتهکّم إلّا أنهما سخریة وتهکم نابعان من من ذلک البرم والتشاؤم والشکوی، وکأن اللهجة الساخرة المتهکّمة التي مال إلیها في لغته الشعریة وظّفها لتأجیج تلک الروح التشاؤمیة التي هي إنعکاس لطبیعة حیاة الشاعر، والظروف الصعبة التي مرّ بها، ولذلک فإن شعره تعبير مباشر وصادق عن حیاته استخدم فیه لغة التخاطب والحوار الیومي فإذا به شعر واضح تسوده البساطة والیسر، ولا یتعسّر فهمه علی الأذهان ولایُدخل القاریء في متاهات الغموض والإبهام دون أن ینال ذلک من جزالة ألفاظه، ومتانة تعبیره وسبکه، وتبنّیه للأسلوب الکلاسیکي التقلیدي في النظم، وهو يعيد الى أذهاننا بشعره الساخر الشعبي أجواء الشعر في عصر الإنحطاط لدى بعض شعراء هذا العصر الذين شاعت في تعبيرهم الشعري تلك اللغة الساخرة اليائسة المريرة التي رثوا من خلالها حالهم البائس وحال المجتمع الذي عاشوا بين ظهرانيه كابن دانيال ونصير الدين الحمامي وأبي الحسين الجزار وغيرهم، كما نشهد ذلك في قوله:

عيونُ الناس ناظــرةٌ لثوبي           وقد عميتْ فلــم تبصرْ فـنوني

سأصنعُ من غباوتـِـهم ثياباً         وألبسُ، إن عريتُ، عمى   العيونِ

وقوله:

أنتم نظرتُم ظاهري فضـحكتُم         ونظرتُ باطنَكم فعدتُّ ضحوكا

فلنبقَ نضحك، لستُ قطُّ بظاهري       أهتـمُّ إن يكُ بالـيـاً منـهوكا

كلا ولستُم تحفلون بــباطنٍ          إن كان باطـنُكمْ  غداً     مهتوكا

وقوله:

ويكَ يا طالبَ التـقربِ مِـنّي         في اقترابي مشاكلُ لا تطاقُ

أنا كالشمس حسبُك النورُ منها        من بعيدٍ ففي الدُّنوِّ احتراق

وشخصیة الصافي النجفي هي من الشخصیات المتمیزة لأنها تمس القلوب مساً رقیقاً فهو یتخذ لنفسه أسلوباً فریداً جمیلاً لم یسبقه إلیه أحد من الشعراء.وهو یغوص في أعماق المجتمع ویعبر عن ذلک بأسلوب عربي أصيل عبر من خلاله عن آلام قومه و آمالهم،وما یجیش في نفوسهم من رغبات وأمنیات.

والصافي فوق ذلک کله شاعر ساخر یرقی بالسخریة إلی أرقی مدارجها،ویعلو بها إلی أعلی مراتبها.وکان شاعراً یعیش مع الشعب،ویفصح عن آماله ولایرضیه الظلم فهو یثور،ویطالب برفع الظلم عنه،وکفّ ید البطش عن أمته، حتی تستطیع هذه الأمة أن تنعم بالحریة.وهو في أثناء ذلک ینتقد العادات البالیة التي تعرقل حرکة النمو في المجتمع العربي.

الشعر الوطني المناهض للاستعمار:

الصافي النجفي شاعر سياسي ووطني من الدرجة الأولى وبامتياز كما يشهد له بذلك شعره الحافل بالأشعار الوطنية والسياسية المناوئة للإستعمار وعملائه،فلقد شغل هذا الشعر مساحة واسعة من دواوينه ومجموعاته الشعرية،حتى أننا إذا ذكرنا الصافي تداعى إلى أذهاننا الشعر الوطني والسياسي بكل مايحمله هذا المصطلح من معنى.

وقد ذكر د. العاتي  أن الصافي النجفي قد انتمى إلى حركة المشروطة(الحركة الدستورية) المناهضة للاستبداد، والداعية إلى التعددية الحزبية، والحياة البرلمانية الحقيقية. وأكثر من ذلك فإن الصافي كان يتوفر على مشاعر قومية جياشة. وحينما قاد العقيد صلاح الدين الصباغ حركته الإنقلابية اتهمت ألمانيا بأنها كانت وراء ذلك الانقلاب. ويبدو أن تهمة النازية قد لحقت بشاعرنا الكبير الصافي النجفي، حيث اعتقلته القوات البريطانية إثر وشاية ملفقة، وزجّته في السجن لمدة 43 يوماً تفاقمت إثرها حالته الصحية، وشارف على الخطر، لكن القائمين على السجن نقلوه تحت الحراسة إلى مستشفى سان جورج، ثم أعادوه إلى السجن حينما تماثل للشفاء. وخلال مدة سجنه أنجز الصافي ديواناً كاملاً أسماه "حصاد السجن"، ويعد هذا الديوان بحق علامة فارقة في أدب السجون في العصر الحديث. وعلى الرغم من الوضع المأساوي الذي كان يعيشه الصافي في السجن إلا أن السخرية لم تفارقه،كما نرى في البيتين التاليين:

 رمونا كالبضائعِ في سجونٍ       وعافونا ولم يُبدوا اكتراثا

 رمونا في السجن بلا أثاثٍ        فأصبحْنا لسجنِهمُ  أثاثا

ويؤكد العاتي أن صديقه القديم صالح جبر هو الذي توسط لدى السلطات البريطانية حينما كان وزيراً للداخلية، ووكيلاً للخارجية، وأخرجه من السجن. وعلى اثر تلك الوشاية المغرضة أصبح الصافي متوجساً في علاقاته الشخصية مع الناس الآخرين. ومع ذلك فقد ظلت نزعته القومية الوطنية قوية، وربما يكشف تشبثه بالزي العربي عن طبيعة هذه النزعة المشروع في وقت كانت تعاني فيه العروبة من توجهات قطرية عدائية. "

وفي خلال رحلة عمره التي امتدت زهاء الثمانين عاماً، كتب الصافي النجفي شعراً متميزاً يضم بين دفتيه المواقف المتعارضة مع السلطة، والمنتمية إلى الشعب؛ فقد نبذ التسلط العثماني وعاصر أدوار الحكم الملكي المتعاقبة على العراق، وكانت بداية المواجهة بينه وبين السلطة تتمثل في الموقف الوطني الذي اتخذه إبان الثورة العراقية الكبرى " ثورة عام 1920 " تلك التي انطلقت شرارتها من جنوب العراق رداً على الاحتلال البريطاني الغاشم للبلاد ثم تطورت لتشمل كل مدن العراق دون استثناء وساهمت فيها القوى الوطنية وفي مقدمتهم علماء الدين  ووجد الصافي النجفي نفسه مكلفاً من قبل قيادة الثورة ليكون وسيلة الاتصال ونقل المعلومات بين القيادة وجماهير الثورة في النجف وما يجاورها من مدن أخرى، وقد تمكن من إيصال رسالة الثورة في مناهضة قوى الاحتلال ومطالبته بالاستقلال من خلال الكثير من القصائد الوطنية التي كتبها ودون فيها تفاصيل الثورة ومواقف الثوار والحوادث التي حصلت من المقاومة الباسلة والقتال الذي تكبدت فيه بريطانيا وقواتها افدح الخسائر وهي تواجه بترسانتها العسكرية شعباً اعزل لا يملك سوى أسلحة بدائية ولكنه يملك الأيمان ويسعى إلى الحرية، وعندما تمكنت بريطانيا من إخماد الثورة، كان الصافي النجفي من الأشخاص المطلوبين للاعتقال والمحاكمة ثم الصادر بحقهم عقوبة الشنق، وفي ذلك يقول:

ولئن أُشْنَقْ تكنْ مقبرتي         منبراً يعلنُ جرمَ الإنجليزِ

ثم غادر العراق متخفيا نحو الأراضي الإيرانية –كما ذكرنا- وظل من هناك يرسل قصائده الوطنية مساهماً في تأجيج غضب الجماهير ونقمتها على وجود بريطانيا وقواتها والعملاء الذين كانوا ينفذون سياستها الغاشمة وهو يخاطب القوة المحتكمة إلى الفعل القسري المضاد لتطلعات الجماهير قائلاً:

أيها القوةُ مهلاً فاحذري         إنّ في التاريخِ للناسِ خبرْ

وإليّ أصغي قليلاً و انظري       ومعي سيري تري فيه العبرْ

كم هُوَّةٍ مِن قوةٍ قبل الأجلْ     وعروشٍ وشعوبٍ و دولْ

بعد ما صالوا بجندٍ وخَوَلْ       إنهم بالسيفِ قاموا وعَلَوْا

                وبه أيضاً من الأوجِ هَوَوْا

ونظم الصافي القصیدة التالیة عندما إشتدّ علیه المرض في السجن وکان الإنجلیز یعلّلونه کل یوم بأنهم أبرقوا إلی حکومة العراق یسألونها رأیها فیه، وقد مرّ علیه سبعة وعشرون یوماً وهو یستغیث من الداء وهم لا یسمحون بنقله إلی المستشفی، ولمّا إشتدّت علیه وطأة الداء أنشأ قائلاً دون أن ينسى لهجته الساخرة المعتادة :

سُجِنتُ وقد أصبحت سلوتي                  من السقمِ، عَدّي لأضلُعي

أعالجُ بالصبرِ برحَ السّقامِ                      ولکنّ علاجيَ لم  ینجعِ

أتاني الطبیبُ وولّی سُدیً                     وراحَ الشفیعُ  فلم یشفعِ

وکم قیلَ مدِّدْ مدی الإصطبارِ                ومهما عراکَ  فلا تجزع

وکم ذا أمدُّ مدی الإصطبارِ                  فإن زدتُ في مدِّه یُقطع

ولکنّهم صادفوا   عقدةً                      بأمريَ تُعیي حِجی الألمعي

حکومةُ لبنانَ قد راجعت                    فرنسا لفکِّي فلم تسطعِ

وراحت فرنسا إلی الإنکلیزِ                 تراجعُهم جَلَّ مِن  مرجعِ

وقد راجعَ الإنکلیزُ  العراقَ                 وللیومِ بالأمرِ  لم یُصدَعِ

فقلتُ: إعجبوا أیّها السامعونَ              ویا أیّها الخلقُ قولوا معي:

أمِن قوّتي صرتُ أم من ضعفِهم            خطیراً علی دولٍ أربعِ؟!  

ومن قصیدة طويلة له ضمن مقطّعات تحمل عنوان «ملحمة السجن»، عنوانها «ألواح وأشباح»  نظمها بأسلوبه الساخر المعتاد وهو یعاني مرارة السجن في خارج وطنه،ويبدو أن وطأة السجن كانت قاسية في هذه المرة على الشاعر أو يبدو أن مدة السجن قد طالت على الشاعر دون أن يأتي الفرج فإذا باليأس يسيطر بظله الكئيب على نفس الشاعر، لتختلط عنده السخرية بالشعور بالإحباط واليأس، فيتفجر كل ذلك على لسانه شعراً  مريراً مفعماً بالجزع والإنقباض اللذين قلما نعهدهما لدى شاعرنا الساخر حتى أنه ليتمنى الموت على هذه الحالة التي فرضت عليه،فلنستمع إليه وهو يعزف على مسامعنا هذه السمفونية الكئيبة:

أری في غربةِ الأنسانِ  سجناً             فکیف بسجنِ إنسانٍ غریبِ

یزورُ رهینَ سجنٍ أهلُ قربی             ولکنّي السجینُ بلا  قریبِ

أبشّرُ عندَ فتحِ البابِ  نفسي             بأن ستفوز بالفتحِ القریبِ

فمَن لي أن أری یأساً مُریحاً             یخلِّصُني من الأملِ الکذوبِ

سأقتلُ حيَّ آمالي  سریعاً                وأرجعُ منه ذا سیفٍ خضیبِ

فإنّ لخادعِ الآمالِ عُقبی                 تزیدُ مرارةَ القلبِ  الکئیبِ...

سیُمسکُني وقارُ الیأسِ کیلا             أراني لُعبةَ  الأملِ اللعوبِ

وأُغضي عن سَنا الآمالِ طرفي          وأدخلُ ظلمةَ الیأسِ الرهیبِ

فإنّ أشعةَ الآمالِ تحکي                نِصالاً واخِزاتٍ  للقلوبِ..

 تسامرُني همومي في الدیاجي          ویُطربُني  فؤادي  بالوَجیبِ

فکم في السجنِ من لیلٍ غضوبٍ       وکم في السجنِ من یومٍ عصیبِ

وزادَ عليَّ ضیقَ السجنِ أني            حُرِمتُ به من الخِلِّ  الأریبِ

فأدعو اللهَ تعجیلاً  بفکٍّ               لسجني أو بسجنِ فتیً لبیبِ

تمنّیتُ الزیارةَ من قریبٍ               وإن تکُ زورةَ الأجلِ القریبِ 

على أن شعر شاعرنا الصافي لم يقتصر على المواضيع السياسية البحتة،فنحن واجدون في شعره بعض الموضوعات التي يغلب عليها الطابع الإجتماعي وإن لم تخرج في بعض الأحيان من الإطار السياسي؛ومن جملة هذا الشعر ذلك الذي  نظر فيه شاعرنا احمد الصافي النجفي نظرة معمقة إلى البيئة الفلاحية وكيف استحوذ نظام الإقطاع على جهود الفلاحين الذين يصلون الليل بالنهار في عمل مضن دون الحصول على الحياة الحرة الكريمة، وهو يرى أن دوره التحريضي يقضي إن ينبه أبناء شعبه من الحيف الذي لحق بهم كمن يضع أمامهم مشعلاً منيراً ليكشف عن سجف الظلام، وكمن يمهد بذلك إلى الثورة حيث يقول في ذلك مشيراً إلى النظام الإقطاعي الذي كان سائداً في عصره والاستغلال البشع الذي كان الفلاح يتعرض له حيث تصادر جهوده،وحيث لا يملك من أمره شيئاً، فالإستعمار مخيم على البلاد من كل حدب وصوب وهناك استعمار داخلي فضلاً عن الخارجي لايقل عنه بشاعة وظلماً،ولذلك نرى الشاعر يتعاطف مع هذه الشريحة المستضعفة:

رفقاً بنفسك أيها الفلاحُ               تسعى وسعيُك ليس فيه فلاحُ

هذي الجراحُ براحتيك عميقةٌ          ونظيرُها لك في الفؤادِ جراح

عرقُ الجبينِ يسيلُ منك لآلئاً           فيُزانُ  منه  للغنيِّ  وشاحُ

النهاية المحزنة:

وفي لبنان شهد الصافي الأحداث الدامية فكان يسير في جوار الحيطان والمباني المتهدمة خوفاً من الرصاص الطائش. واشتد إطلاق الرصاص عشوائياً في منتصف كانون الثاني 1976 فآوى إلى غرفته القريبة من مستشفى (أوتيل ديو) ومكث مدة خمسة أيام دون طعام وأصيب جدار غرفته بخمس رصاصات وعند توقف إطلاق الرصاص خرج ليفتش عن رغيف خبز يسد به جوعه، سار قليلاً عن منزله فأحس بحرارة تسري في جسمه ظنّ في بادئ الأمر أن حمّى شديدة قد انتابته إلا أنه لم يتمالك نفسه فسقط أرضاً عند باب جاره وإذا به مصاب بعدة رصاصات!، اتصل جاره بالسفارة العراقية وأعلمها بما جرى فأرسلت له سيارة إسعاف ونقلته إلى مستشفى المقاصد لإسعافه وبعدها نقل الصافي إلى بغداد في 1976 وأدخل مدينة الطب للمعالجة بعد ان دب الضعف في جسده النحيل أصلاً وكف بصره فقال في هذا الحادث :

يا عودةً للدارِ ما أقساها         أسمعُ بغدادَ ولا أراها

ولكن الأمل مالبث أن عاوده من جديد ليقول:

 بين الرصاصِ نفدتُّ ضمنَ معاركٍ      فبرغمِ أنفِ الموتِ ها أنا سالمُ

ولها ثقوبٌ في جداري خمسةٌ             قد أخطأتْ جسمي وهنّ علائمُ

بقي الصافي عليلا تحت المعالجة إلى أن وافته المنية يوم 27 - 7 - 1977 وهو في الثمانين من عمره، وبعد وفاته أقامت له وزارة الإعلام ووزارة الثقافة والفنون مهرجاناً تأبينياً شارك فيه كبار الشخصيات الأدبية والشعرية في العراق والوطن العربي ومما جاء في كلمة سعيد فرحات (ومهما تكن آراء النقاد في شعر أحمد الصافي النجفي، فهو بحق ظاهرة قوية منفردة في شعرنا العربي، له شخصيته التي لم تتأثر بأحد، وله قوته اللغوية والشعرية الخاصة فقد ملأ مكانه بجدارة في أدبنا العربي الحديث. عاش فارساً رحالة ومات شهيد أحداث أمته التي أحب صحاريها وجبالها الخضراء"."

ومن أعجب العجب إنه لم يقم للصافي النجفي مهرجان تكريمي في حياته، رغم كثرة المعجبين وعظم مراتبهم، أو أمسية تكريمية في حياته، وقد تحايل عليه الكثيرون، لكن بلا طائل، لأنه لم يألف المجاملة. وحصل أن همس بأذنه أحد المعجبين، من الذين لا يعرفهم، قائلاً أنت «الطائرُ المحكيُّ والآخرُ الصدى» فاعتبر هذا مهرجانه، لخلوه من المجاملة والمحاباة وما إليهما، وعندها قال:

جاء مَنْ لم أعرفه، قال سـلامُ         قلت مَنْ؟ قال مَنْ بشعرِك هامُوا

كان ذاك السلامُ لـي مهرجاناً        مهرجاني على الرصيف يُقـامُ!

مصادر دراسة حياة الشاعر أحمد الصافي النجفي وشعره:

هالني وأنا ادرس حياة شاعرنا أحمد الصافي النجفي وشعره وخاصة السياسي والوطني منه ذلك الكم الكبير من الكتب والمقالات والدراسات والبحوث التي ألفت عن هذا الشاعر بشكل مستقل،فضلاً عن تلك التي تناولت حياته وشعره في تضاعيفها،بعد أن كنت اتوقع قلتها، والمعاناة التي سأعانيها بسبب هذه القلة،ولكن سرعان ما اكتشفت وأنا أتصفح مصادر الأدب المعاصر غزارة الكتب والدراسات التي كتبت بشكل منفصل عن شخصية هذا الشاعر وشعره، وهو مايدل على المكانة المتميزة التي أصبح هذا الشاعر يتبوؤها في شعرنا المعاصر بسبب الشخصية الفريدة من نوعها التي تميز بها،وشعره الذي مايزال يلامس عن كثب قضايانا وهمومنا، وكأن وجود هذا الشاعر يشكل ظاهرة لا يمكن ان تحتويها الأطر الزمانية والمكانية كما أشار إلى ذلك هو نفسه وكان محقاً في إشارته عندما سئل عن أمير الشعراء في عصره فأجاب مفضلاً الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي ولكنه لم ينس نفسه فقال معلناً سبقه لزمانه لتميز الأغراض التي طرحها في شعره والأسلوب المتميز الذي صاغ به هذا الشعر والذي تشكل السخرية والتهكم لحمته وسداه :

سألتـْني الشعراءُ أيـن أميرُهمْ         فأجبـتُ: إيليـا بقـولٍ مطلقِ

قالوا: وأنت! فقلتُ :ذاك أميرُكمْ         فأنا  الأميرُ  لأمةٍ  لم  تُخْلَقِ

 وفيما يلي نذكر بعضاً من المصادر التي عثرنا عليها واستندنا إلى البعض منها:

1. احمد الصافي النجفي : حياته - شعره / تركي كاظم جودة ؛ قدم له يوسف عز الدين،دار البصري،بغداد، 1387هـ، 1967م

2. احمد الصافي النجفي : حياته من شعره : دراسة تحليلية و نقدية في تجربة الصافي الحياتية... / سالم المعوش        1426هـ، 2006م.

3. احمد الصافي النجفي : شاعر الطرافة و التفرد / بقلم عبداللطيف ارناؤوط.     

4. احمد الصافي النجفي : شاعر العصر لسلمان الطعمة / [ عرض ] عدنان محمد الطعمة.

5. أحمد الصافي النجفي،قاسم المجالي،2008.

6. إبراهيم عبدالستار: عبقرية الصافي: مطبعة الحضارة - طرابلس 1953.

7. خضر عباس الصالحي: شاعرية الصافي - مطبعة المعارف - بغداد 1970.

8. عبدالله الشيتي: أحمد الصافي النجفي، رحلة العمر - دار القبس - 1979.

9. عبداللطيف شرارة: الصافي - دار بيروت - بيروت 1981.                                                                                                     

10. سلمان هادي الطعمة: أحمد الصافي شاعر العصر - مطبعة العاني - بغداد 1985.

11. إبراهيم العاتي،أحمد الصافي النجفي:غربة الروح ووهج الإبداع، دار العِلم للطباعة والنشر، بيروت.

12. خليل برهومي، أحمد الصافي النجفي شاعر الغربة والألم، دار الكتب العلمية، بيروت، 1993.

13. أحمد الصافي النجفي رحلة عمر ـ عبد الله الستيتي ـ دار القبس، الكويت 1979.

14. أحمد الصافي النجفي حكايات مع الأدباء ـ زهير مارديني ـ دار الريس 1989.

15. من أعلام الأدب العربي الحديث ـ عيسى فتوح ـ دار الفاضل دمشق 1994.

16. شاعرية الصافي ـ خضر عباس الصالحي ـ مطبعة المعارف،1970.

17. أحمد الصافي النجفي متنبي هذا العصر ـ عبد العزيز الربيعي.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 3/أيلول/2009 - 13/رمضان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م