لقد تركت اسرة آل الحكيم الكريمة بصماتها في العراق منذ ما قبل
التاسيس، وتحديدا منذ العام 1914 ولحد الان، فهي لم تال جهدا الا
وبذلته من اجل نصرة قضايا الشعب العراقي، فلقد شارك المرجع الحكيم
الكبير بسرايا الجهاد ضد الاحتلال البريطاني في العام 1914، كما شارك
في ثورة العشرين الاسلامية التحررية التي قادها العلماء الاعلام
والفقهاء وزعماء العشائر البطلة، وعلى راسهم المرجع الديني آية الله
العظمى الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي (قدس سره) كما تصدت مرجعية
الامام الحكيم للغزو الثقافي الاجنبي الذي سعى للتاثير على قيم واخلاق
ودين الشعب العراقي، فيما تصدت الاسرة للظلم والاستبداد والانظمة
الديكتاتورية والطائفية التي تعاقبت على حكم العراق، بالاضافة الى انها
تصدت لكل بذور الحرب الاهلية، العنصرية والطائفية، التي سعى النظام
البائد لاشعال اوارها بين ابناء الشعب الواحد، وذلك بفتواه الشهيرة
التي حرمت اراقة دم شعبنا الكردي في كردستان.
ان هذه الاسرة لم توفر شيئا، وعلى مدى قرن كامل من الزمن، لا من
الانفس ولا من الاولاد ولا من المال، من اجل تحمل المسؤولية الشرعية
والوطنية الملقاة على عاتق العلماء، لنصرة قضايا الشعب العراقي في
التحرر والاستقلال واقامة النظام السياسي العادل الذي يؤمن كرامة
المواطن ويحقق له الرفاهية والحياة الحرة الكريمة.
وبالرغم من ان الاسرة الكريمة دفعت ثمنا باهضا من اجل تحقيق هذه
الاهداف، تمثل باعدام العشرات من ابنائها، وجلهم من كبار اساتذة الحوزة
العلمية ومن الفقهاء والعلماء والمحققين، الا انها رفضت الخضوع والخنوع
للطاغوت، متمثلة قول جدها سيد شباب اهل الجنة الامام السبط الحسين بن
علي عليهما السلام {هيهات منا الذلة} فالذلة ليس من شيم المجاهدين وهي
ليست من لباس المؤمنين المتقين الذين باعوا انفسهم لله تعالى واشتروا
بثمنها الجنة التي وعد الله عباده المؤمنين الصابرين، اذ {يابى الله
لنا ذلك ورسوله والمؤمنون} بل ان القتل والاعتقال والمطاردة لم يزدها
الا اصرارا على المضي في طريق الجهاد والشهادة، اولم يصف امير المؤمنين
علي بن ابي طالب عليه السلام حال الرسول الكريم (ص) وصحبه المنتجبين
عند التضحية، بقوله {فلقد كنا مع رسول الله (ص) وان القتل ليدور على
الآباء والابناء والاخوان والقرابات، فما نزداد على كل مصيبة وشدة الا
ايمانا، ومضيا على الحق، وتسليما للامر، وصبرا على مضض الجراح}؟.
لشد ما تعرض الفقيد لسهام التهم والتشهير من قبل اعداء الشعب
العراقي، وذلك، برأيي، لعدة اسباب، تقف على راسها دوره الكبير في عملية
اسقاط صنم بغداد، وهو الامر الذي لا ينساه ايتام النظام البائد من
العرب والطائفيين وغيرهم.
لقد كان للفقيد الدور الكبير في نقل القضية العراقية، حقوقيا اولا
ثم سياسيا وديبلوماسيا، الى اروقة الامم المتحدة في جنيف ونيويورك، وفي
المحافل والمنظمات الحقوقية من خلال تاسيسه للمركز الوثائقي لحقوق
الاسنان، الذي لعب دورا مهما في توثيق الجرائم التي كان يرتكبها النظام
البائد ضد ابناء الشعب العراقي، وخاصة جريمته في تجفيف الاهوار وقتل
الحياة فيها.
فبعد ان لم يكن المجتمع الدولي يعرف، او يريد ان يعرف، شيئا عن
حالات حقوق الانسان في العراق نتيجة التعتيم الاعلامي والطوق الحديدي
الذي كان قد ضربه الطاغية الذليل حول ما يعانيه العراقيون من جرائم ضد
الانسانية، نجح الفقيد، وبالتعاون مع ثلة من الاخوة المتخصصين في هذا
المجال، الى فرض قضية حقوق الانسان على المجتمع الدولي ليجبره على
التعامل مع الوثائق والصور وغيرها كادلة مادية ملموسة لا يمكنه غض
الطرف عنها وتجاهلها.
كما ان دور الفقيد في تقريب وجهات النظر بين واشنطن وطهران بشان
الملف العراقي، لاعتقاده الجازم بان ذلك يساعد على استقرار الوضع في
العراق، سواء ما قبل سقوط النظام البائد او بعده، اثار موجة من الحقد
والبغضاء عند من يتضرر من مثل هذا التقارب.
لقد تميز الفقيد الراحل بالكثير من الصفات الحسنة في المواقف
السياسية، منها تغليبه المصلحة الوطنية العليا على كل المصالح الاخرى،
الفئوية والحزبية وغيرها، ولذلك، رايناه يتنازل عن الكثير من حقوقه
السياسية الخاصة، وحقوق المجلس الاعلى الذي يقوده، من اجل تحقيق
المصلحة الوطنية العامة، والتي تتمثل، في كل مرة، بالسعي لانجاز
المشروع الوطني العراقي ما بعد عملية التغيير.
لقد آمن الفقيد بالشراكة الحقيقية بين مختلف مكونات المجتمع العراقي،
فكان يدافع عن الشيعي كدفاعه عن السني كدفاعه عن العربي كدفاعه عن
الكردي والتركماني، وكان يدافع عن المسلم كدفاعه عن المسيحي وعن بقية
شرائح المجتمع العراقي، ولذلك كان ملكا لكل العراقيين في مواقفه
الوطنية المشهودة، يشهد على ذلك ردود الفعل الرسمية والشعبية العراقية
خاصة على وفاته، كما يشهد على ذلك تنوع الحضور في هذا المجلس التابيني
المبارك وفي بقية مجالس التابين التي اقيمت على روحه الطاهرة في مختلف
دول العالم فضلا عن العراق الصابر.
لقد ورث الخلف السيد عمار الحكيم من الفقيد الراحل واسرته الكريمة
تاريخا حافلا بالمواقف الوطنية المشرفة والبطولات النادرة، هو خلاصة
قرن كامل من الجهاد والعمل الدؤوب، معجونا بالعلم والمعرفة والاخلاق
العالية، ولذلك فهو يتحمل، مع بقية اشقائه الكرام والاخوة الخلف
المحترمين في المجلس الاعلى، مسؤولية كبيرة في الحفاظ على هذا الارث
الجهادي الضخم، والذي سيتحقق، برايي، من خلال ما يلي:
اولا: وضع خطة بعيدة المدى لتحويل هذا التيار الواسع الى حزب سياسي
يقوم على الاسس الصحيحة للعمل الحزبي الحضاري، من خلال بناء المؤسسات
الحزبية الحقيقية، القادرة على التعامل مع الظروف والمنعطفات بشكل
صحيح، لتتراكم فيها الخبرة ويتبادل فيها القادة والزعماء الادوار
والمواقع في اطار قيم الكفاءة والخبرة والتاريخ الجهادي والنجاحات التي
تتحقق.
ثانيا: اقتناص الطاقات الشابة والخلاقة، بما يساهم في تجديد دماء
المسيرة، من خلال الانفتاح على الساحة ومنح مثل هذه الطاقات فرصة
البروز لتتبوأ مكانها الصحيح في المسيرة.
ثالثا: تبني المشروع الوطني بشكل صريح وواضح، ليلقم من يحاول ان
يتصيد بالماء العكر حجرا، فيعيد لهذا الخط العلمي والجهادي القه الوطني
الذي تميز به من خلال مواقف المرجع الحكيم، وابنائه البررة والذين يقف
في مقدمتهم الشهيد السيد مهدي الحكيم الذي اغتاله الطاغية في العاصمة
السودانية الخرطوم عام 1986 وشهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم الذي
اغتاله التكفيريون في العام 2003 بتفجير ارهابي استهدفه وثلة من
المؤمنين المصلين قرب الحرم العلوي الشريف في مدينة النجف الاشرف
المقدسة، واخيرا حجة الاسلام والمسلمين السيد عبد العزيز الحكيم.
وكلنا امل في ان تكون هذه المناسبة الاليمة فرصة جديدة للعراقيين
جميعا، وخاصة المتصدين للعملية السياسية من قادة وزعماء واحزاب سياسية
وشخصيات متنفذة، من اجل العمل الجاد لتحقيق اهداف كل الشهداء والضحايا
الذين قدموا الغالي والنفيس من اجل عراق حر مستقل، ومواطن حر كريم ينعم
بالرفاهية، وذلك بالوحدة بين مختلف ابناء الوطن الواحد، وبالشراكة
الحقيقية.
* مدير مركز الاعلام العراقي في واشنطن
...................................
* كلمة القيت في الحفل التابيني الكبير الذي اقامته
الجالية العراقية في العاصمة الاميركية واشنطن على روح الفقيد الراحل
السيد عبد العزيز الحكيم مساء يوم السبت (29 آب 2009) في مركز الامام
المهدي (عج) التعليمي. |