بالسلطة الرابعة، نحمي سلطة القانون

نـزار حيدر

بعد عقود طويلة من الحكم الشمولي الاستبدادي البوليسي، الذي امتهن كرامة الانسان وسحق حقوقه، يواصل العراقيون بذل اقصى جهودهم من اجل الكرامة اولا واخيرا، لان الانسان بكرامته، ولذلك يقاس صلاح اي نظام سياسي بمدى قدرته على ان يحقق للمواطن كرامته، والتي لا يمكن ان نتصورها الا في ظل نظام ديمقراطي يعتمد صندوق الاقتراع كاداة وحيدة للتنافس بين الفرقاء للوصول الى السلطة.

ان الفرق الجوهري بين النظام الديمقراطي والاخر الاستبدادي، هو القانون، فبينما يكون القانون فوق الجميع في الاول، لتتحقق كرامة المواطن، يغيب في الثاني بالكامل، بمعنى آخر، فان اداة الديمقراطية هي القانون، اما ادوات الاستبداد فهي القرارات التي يصدرها الحاكم، وكلنا يتذكر كيف ان النظام البائد ظل يحكم العراق طوال (35) عاما بدستور مؤقت، هو في الحقيقة ديكور لا يغني ولا يسمن من جوع، اذ كانت قرارات ما يسمى بمجلس قيادة الثورة، هي الحاكم الفعلي وصاحب السلطة الحقيقية في كل مناحي الحياة.

وعندما نتحدث عن وجود القانون في النظام الديمقراطي يعني اننا نتحدث عن وجود الدستور الحقيقي الذي يحكم العلاقة بين الجميع من دون تمييز، وهو الوثيقة التي تتحقق من خلال نصوصها الانسانية كرامة المواطن، عندما تنص على الحقوق الاساسية كحق المواطن في اختيار نوع النظام السياسي والاقتصادي والحرية والشراكة الحقيقية والمساواة والعدالة وتكافؤ الفرص ونبذ كل اشكال التمييز.

ولقد احدث الدستوران الاميركي (1787) والفرنسي (1789) طفرة نوعية في هذه المفاهيم، لازالت محط جدال بين المفكرين والمثقفين في العالم، لتصدر في العام (1948) الوثيقة الدولية الاساسية لحماية حقوق الانسان في شتى انحاء العالم، والتي اطلق عليها اسم (الاعلان العالمي لحقوق الانسان).

ان ابرز قيمة تحدثت عنها وثبتتها كل الشرائع السماوية والوثائق الدولية في نصوصها هي قيمة الحرية، والتي تقف على راسها حرية التعبير، لانها حجر الزاوية في بناء النظام الديمقراطي الذي يحقق الكرامة للمواطن، ولذلك لا يمكن ان نتصور ابدا ديمقراطية من دون حرية التعبير، والتي تتجلى في حرية الاعلام، فبهذه القيمة:

اولا: يعبر المواطن عن نفسه.

ثانيا: ينقد ويراقب ويحاسب السلطة.

ثالثا: يفضح الفساد بكل اشكاله.

رابعا: يرفع المظلمة التي تقع عليه او على اي مواطن آخر.

خامسا: يحل مشاكل عالقة ويساهم في تطوير البرامج والمشاريع.

سادسا: يشيع ثقافة الحوار، وثقافة الراي والراي الاخر، التي تعتبر حجر الزاوية في تشييد الديمقراطية.

سابعا: يساهم في صناعة راي عام، وبذلك نقضي على ظاهرة عبادة الشخصية التي ابتلي بها العراقيون، والتي حالت بينهم وبين حرية الراي وصناعة الراي العام.

ثامنا: وقبل كل ذلك، فان حرية التعبير دليل على ان المواطن في البلد يتمتع بالمساواة والشراكة الحقيقية، وهو يمتلك حق الاختيار.

ان المواطن في العراق الجديد ساهم مساهمة فعالة في انجاز الدستور وتشكيل اول حكومة وطنية منتخبة، ولكن هذا لا يعني ان المهمة قد انجزت بالكامل، بل لابد من الاستمرار في هذا الطريق لتحقيق بقية الخطوات الهامة التي ترسخ النظام الديمقراطي.

نحن اليوم بحاجة الى تفعيل الرقابة الشعبية، من خلال التاسيس لاعلام حر حقيقي بعيد عن سلطة الحكومة ولا يخضع للابتزاز، ليكون حاكما على كل السلطات الاخرى من خلال قدرته على ممارسة دور الرقابة عليها، فالاعلام الحر هو لسان حال المواطن.

لقد الغى النظام البائد الاعلام ليكتفي بالدعاية فقط، عندما نصت المادة (26) من الدستور المؤقت على ما يلي:

(يكفل الدستور حرية الراي والنشر والاجتماع والتظاهر وتاسيس الاحزاب السياسية والنقابات والجمعيات وفق اغراض الدستور وفي حدود القانون، وتعمل الدولة على توفير الاسباب اللازمة لممارسة هذه الحريات التي تنسجم مع خط الثورة القومي التقدمي).

واذا كان البعض قد راى وقتها في هذا النص نورا للديمقراطية في نهاية النفق، فان قرار مجلس قيادة الثورة المنحل رقم (840) والصادر في (4-11-1986) قد قضى على كل امل بهذا الصدد.

لقد نص القرار على ما يلي:

(يعاقب بالسجن المؤبد ومصادرة الاموال المنقولة وغير المنقولة من اهان باحدى طرق العلانية رئيس الجمهورية او من يقوم مقامه او مجلس قيادة الثورة او حزب البعث العربي الاشتراكي او المجلس الوطني او الحكومة.

وتكون العقوبة الاعدام اذا كانت الاهانة او التهجم بشكل سافر ويقصد اثارة الراي العام ضد السلطة).

ومن باب الشئ بالشئ يذكر، فعندما سالت صحفية اميركية الطاغية صدام عن مغزى هذا القرار الذي يتناقض مع شعارات التعددية والديمقراطية والحرية التي يرفعها في وسائل الاعلام المملوكة، اجاب بالقول، (لانني رمز الدولة العراقية) فردت عليه، وماذا عن الرئيس الاميركي؟ اوليس هو الاخر رمز الدولة؟ فرد عليها، فكيف تفسرين الامر اذن؟ قالت: لان نظامنا ديمقراطي ونظامكم غير ديمقراطي.

ولان حرية التعبير هي اساس كل الحريات الاخرى، ولذلك نص عليها الاعلان العالمي لحقوق الانسان، وافرد لها مادة خاصة هي المادة رقم (19) التي نصت:

(لكل شخص حق التمتع بحرية الراي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الاراء دون مضايقة، وفي التماس الانباء والافكار وتلقيها ونقلها الى الاخرين، باية وسيلة ودونما اعتبار للحدود).

اما الدستور العراقي الجديد فقد نص على حرية التعبير في اولا من المادة (38) بقوله:

(تكفل الدولة، بما لا يخل بالنظام العام والاداب:

اولا: حرية التعبير عن الراي بكل الوسائل).

ان الديمقراطية تعبر عن نفسها بالحرية، والحرية تتجلى بحرية التعبير اولا.

والسؤال، هو، كيف اذن نحقق حرية التعبير؟.

الجواب يمكن ذلك بما يلي:

اولا: الاعلام الحر، الذي لا تتدخل فيه السلطة باي شكل من الاشكال، فلا يلاحق صحفي بسبب خبر ولا يعتقل كاتب على رايه ولا يغتال مثقف بسبب فكرة.

انني هنا ادين، وبشدة، كل اعتداء يتعرض له اعلامي سواء على يد مجموعات العنف والارهاب، او على يد الجماعات الظلامية، او حتى على يد بعض عناصر حمايات المسؤولين، فان كل ذلك يشيع جو من الخوف والرعب لا يساهم ابدا في صناعة الاعلام الحر.

يجب ان يكون القضاء هو الحاكم بين السلطة وحرية الاعلام، وليس القوانين، التي تقيد الحريات، ولذلك عادة ما توظفها السلطة لقمع حرية التعبير وتكميم الافواه، تارة بحجة المصلحة العامة واخرى بحجة مخالفة هذا الراي او ذاك للاداب العامة، وثالثة بحجة التشهير ضد هذا المسؤول او ذاك.

ان الاعلام الحر، الذي يعني تحمل صاحب الخبر او الراي مسؤولية ما ينشر ويقول، يجب ان لا يخضع لقوانين السلطة، بقدر خضوعه لقانون الضمير وشرف المهنة وروح الدستور.

ثانيا: ان نضمن وصول المعلومة الى الجميع، من خلال سن القوانين التي تحول دون منع الاعلامي للوصول الى اية معلومة او الاطلاع على اية وثيقة، الا ما يقرر القانون سريتها للصالح العام والامن القومي.

ثالثا: حماية الاعلاميين من خلال الاسراع في سن قانون حماية الصحفيين الذي لازالت مسودته تنتظر المصادقة عليها من قبل مجلس النواب العراقي، طبعا، بعد اعادة النظر في بعض المواد الخلافية التي لم يتفق على تثبيتها في القانون الاغلبية، سواء من الاعلاميين واصحاب الراي بهذا الخصوص، او من النواب والسياسيين.

ان تشريع هذا القانون سيساهم بشكل فعال وكبير في تحقيق الاعلام الحر وحرية التعبير تحديدا، والذي يجب ان ينص على مواد هامة من قبيل:

الف: الحماية القانونية والمادية.

باء: الحق في الوصول الى المعلومة، والحق في عدم الافصاح عن مصادر المعلومة.

جيم: رعاية اسر الضحايا من الاعلاميين، وتعويض المتضررين منهم لاسباب ارهابية او عدوانية او غير ذلك.

وغيرها من النصوص التي تكرس الحماية الحقيقية والحقوقية للاعلاميين.

ان علينا ان نناضل من اجل اعلام حر، كنضالنا من اجل السيادة والاستقلال، فالاعلام الحر هو الذي يحمي سيادتنا وهو الذي يحمي استقلالنا وهو الذي يحمي امننا وحريتنا وكرامتنا وحقوقنا، وهو بالتالي يحمي نظامنا السياسي الديمقراطي ومستقبلنا ومستقبل الاجيال القادمة.

 

* نص ورقة البحث التي قدمها نــزار حيدر، مدير مركز الاعلام العراقي في واشنطن، الى المؤتمر السنوي الرابع للجمعية العراقية لحقوق الانسان في الولايات المتحدة الاميركية، والمنعقد يوم الاحد (16) آب 2009 في ولاية ميشيغن الاميركية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاحد 23/آب/2009 - 2/رمضان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م