المشهد الثقافي في العراق: الأسماك الكبيرة تستيقظ مجددا بعد سباتها القصري

سياسة التهميش والغبن لأدباء المركز تجاه أدباء المحافظات

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: يتذكر الأدباء العراقيون المعاناة الكبيرة التي كانت تواجه أدباء الهامش (المحافظات) وبقائهم في الظل سنوات طويلة، ومنهم من وعي المحنة مبكرا فشد رحاله الي العاصمة واختصر رحلة الرسوخ والشهرة من عقود الي أعوام ومنهم من فضل النقش المضني علي الحجر لكي يتنبه إليه القائمون علي ثقافة وأدب المركز ويشار الي اسمه في هذه الفعالية الثقافية او تلك ولكي يجد له موطئ قدم في هذه الصحيفة او المجلة او تلك في مجتمع ادبي تعود ان تأكل فيه السمكة الكبيرة أختها او ابنتها الصغيرة!.

وعاني أدباء الهامش ما عانوه علي مدي عقود طويلة ولم تفد الدعوات ولا التنبيهات ولا الاحتجاجات في تغيير الوضع ما دفع بعض الادباء - لكي يقولوا للآخرين عليكم ان تنتبهوا لنا - الي انتهاج اساليب عدة (استهجنها أدباء المركز) لأنها في أضعف الايمان تسحب بساط الشهرة والضوء ولو قليلا منهم وتمنحه ولو قليلا أيضا لأدباء الظل.

وهكذا كان أدباء العاصمة يستكثرون علي ادباء المحافظات أي بقعة ضوء تسلط علي إبداعهم لأنها في عرفهم مسروقة من حصتهم الإعلامية وممنوحة من دون وجه حق إلي أدباء لا يستحقونها، ولذلك كان اديب الهامش عندما يقرر اقتحام العاصمة الثقافية تدق أجراس الخطر وتعلن الحرب الخفية والمعلنة ضده بشتى الأساليب والوسائل وأولها عدم النشر في الصحف والمجلات وممارسة صور العزل وقد تصل الأمور (وقد حدثت مع البعض حقاً) الي درجة الاعتداء الجسدي، وهكذا سيفرّ هذا الزائر الغريب بجلده ليبقي مقيما في الهامش محتفلا بادباء المركز ومبجلا لابداعهم الذي لا يضاهي!

إلاّ ما ندر من ادباء الهامش الذين عزموا علي نقل حياتهم برمتها وتحايلوا بشتي السبل والوسائل لكي يقبلهم مجتمع المركز الادبي بصورة او أخري.

ولعل الألم يتضاعف والمعاناة تطول وتطول ولربما لدي الأدباء من ذوي التجربة في هذا المجال عشرات بل مئات الصفحات التي توثق لمثل هذه الأحداث.

ان الخطأ القاتل والمقصود كان يكمن في تركيز الثقافة والادب ونشاطهما وتكثيف الضوء الاعلامي في العاصمة حصرا وهذا ما جعلها حلما ثقافيا سرمديا للجميع. والآن وقد تغير الحال وانفتحت الآفاق وغابت الأحادية وتعددت قنوات النشر وتضاعفت مساحات الضوء، فهل تساوي الهامش مع المركز وهل تكافأت الفرص وهل ترفعت الاسماك الكبيرة عن التهام أخواتها وبناتها الصغيرات؟!.

ان نظرة لن يصاحبها أي عناء علي المشهد الإعلامي للثقافة والادب العراقي الراهن ستقول بلا تردد ان (من شب علي شيء شاب عليه) وان الاسماك الكبيرة لا تزال تمارس اللعبة ذاتها بل هناك اسماك كبيرة كانت نائمة تحت سطوة المؤسسة الثقافية السابقة لسبب او آخر استيقظت الآن واستيقظت معها كل غرائزها التي تبيح لها وتدفعها الي تهميش الجميع بلا تردد او تفكير من باب تعويض ما فاتها من ضوء كان يستحوذ عليه المستيقظون من ادباء المركز الذين رتبوا وضعهم(الادبي) بطريقة او اخري علي وفق اسلوب مسك العصا من الوسط.

وفي حال كهذا ظل المهمشون في هامشهم المكاني والإبداعي والمركزيون في مركزهم المكاني والإبداعي أيضا، ولم تشفع المعطيات الجديدة لبزوغ حالة جديدة تساوي بين الفرص الممنوحة للمثقف والاديب العراقي علي اساس تجربته وكفاءته.

فكثير من ادباء الهامش(المبدعين) ما زالوا نائمين في هامشهم في الوقت الذي يتمتع فيه أدباء المركز الأقل إبداعا وتجربة بالامتيازات التي لا يستحقونها وفقا لتكافؤ الفرص والمساواة، حيث الايفادات والمنح المالية والحوارات في الفضائيات وما شابه ناهيك عن فرص نشر الكتب والمخطوطات في دار الشؤون الثقافية او المؤسسات المانحة الأخرى، لا تزال حصرا على الأسماك الكبيرة القديمة وتلك التي استيقظت مجددا بعد نومها الطويل، ان هذه الصورة ما هي إلاّ جانب من مشهد راسخ ومريض وغيض من فيض تغص به ساحة الثقافة العراقية التي تنحت عن دورها في تصحيح أخطاء السياسيين وغيرهم وتقليل شهواتهم المادية في الاستحواذ والشراهة وما شابه لنجد ان الحال قد انعكس بطريقة مخيفة حيث نزعة الاستحواذ والشراهة تنتقل من السياسي الي المثقف ليدخل مساحة الفوضي الكلية في العراق برغبته بل بسعيه لدخولها من دون إجبار متنحيا عن دوره الذي يرسم للناس جادة الصواب كي يحصنهم من خطر الاخطاء مهما صغرت او عظمت.

وأخيرا يبدو اننا لم نستخلص درسا من قرون وعقود القهر والنكوص والتلكؤ لكي نستنير به نحن الذين نسمي انفسنا بالمثقفين وصفوة الناس، ولم تصنع حالات القهر والظلم التي أثقلت تأريخنا مفكرا واحدا ينتشل الخلق (العراقي) بأفكاره وقوة روحه وانسانيته من فورة الهفوات والكبوات والسقطات المتلاحقة التي تقوده من منحدر الي آخر أشد انحدارا، ولعل القول الذي يؤكد علي اصلاح النفس اولا لا ينطبق إلاّ علينا، فقبل ان نفكر ونبحث ونبدع ونكتب وندعوا الي مجتمع مثالي ومدينة فاضلة علينا ان نتخلص من اسماكنا الكبيرة أولا.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 22/آب/2009 - 30/شعبان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م