الإنسان وكرامة الله في شهر رمضان المبارك

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: كثيرة هي الفرص التي تتاح للانسان كي يراجع نفسه ويعيد حساباته ويصحح مساراته الخاطئة في حياته الأولى، فقد أعطى الله سبحانه وتعالى للانسان مساحات واسعة من التأمل والتفكير والتبصّر لتلافي مسارات الشر والعودة الى سبل الصلاح قبل أن تنفذ آخر الفرص المعطاة له وهو يتنفس هواء النشأة الراهنة، وقبل أن يقف بين يدي ربه فيُحاسب على أعماله واقواله ليحصل على درجة النجاح او الفشل بعد أن يخرج من قاعة امتحان (الحياة الاولى) الى الآخرة.

وحري بالانسان أن يقتنص الفرص السانحة له قبل أن تمر من فوق رأسه كالسحاب المسرع الى غيره، ومن هذه الفرص المتاحة شهر رمضان المبارك وفريضة الصيام التي جعلها الله تعالى بابا واسعامن أبواب رحمته وغفرانه للخطائين الذين يرومون التوبة والعودة الى رحاب الايمان والاطمئنان معا، فهذا الشهر يعد من أشهر الكرامات التي أغدقها الباري على الانسان كي يرتفع بروحه وكيانه من موقع الانحطاط والضعة الى موقع الطهارة والسمو وليصبح من اهل الكرامات فيما لو استغل الفرصة السانحة له على الوجه الامثل متمثلا بالعودة الى واحة السلام والاطمئنان والرحمة اللإلهية المباركة.

وفي هذا المجال جاء في الكتاب القيّم لسماحة المرجع الديني السيد صادق الحسيني الشيرازي الموسوم بـ (نحو بناء النفس): (في الخطبة التي خطبها رسول الله صلّى الله عليه وآله في استقبال شهر رمضان المبارك وردت عبارة ذات أهمية قصوى وهي قوله صلّى الله عليه وآله: وجعلتم فيه من أهل كرامة الله-1-، فإن كلمة «كرامة الله» لم تنقل على لسان الروايات كثيراً، ولم ترد إلا في موارد خاصة لما لها من أهمية في نظر أهل البيت سلام الله عليهم، حيث وردت في قول النبي صلّى الله عليه وآله للإمام علي سلام الله عليه في تزويجه بالزهراء سلام الله عليها: فإنّ الله تعالى أكرمك كرامة لم يكرم بمثلها أحداً-2-).

إذن هناك أهمية قصوى لعبارة (كرامة الله) وهي متاحة للانسان وفقا لسلوكه ونواياه ودرجة ايمانه وصفاء ونقاء سريرته، ولعل من البديهي القول بأن الله سبحانه وتعالى يسبر اغوار الانسان ويعرف طويته ويعطيه ما يستحق من ثواب استنادا الى أفعاله المنبثقة من طبيعة وسمات طويته المضمرة في أعماقه، لذلك يمكن القول ان بامكان الانسان أن يحصل على (كرامة الله) بسعيه ودأبه وتقربه الى الله تعالى لا سيما في هذا الشهر الكريم المبارك، شهر رمضان الذي يعدّ من أهم الفرص المتاحة للانسان كي يعبر (قاعة الامتحان) بنجاح وسلام، وفي هذا المجال نقرأ لسماحة المرجع الشيرازي في هذا الكتاب نفسه: (إذا كان بعض الناس قد بلغوا هذه المرتبة، أي صاروا أهل كرامة الله، فإن كل مؤمن في هذا الشهر الكريم -شهر رمضان المبارك- قد جُعل من أهل كرامة الله تعالى. وهذه الكرامة لا تخصّ الصائمين فقط بل هي تشمل حتى أصحاب العذر الشرعي الذين يسوغ لهم الإفطار كالمسافر والمريض. إن هذه الكرامة هي لهذا الشهر الكريم، للياليه وأيامه، وكل ساعاته. فالعناية الإلهية تشمل الجميع، ولكن بما أن إحدى صفات الله تعالى المهمة ومن أسمائه الحسنى «الحكيم» أي الذي يضع الشيء في موضعه، فهذا معناه أن التوفيق الإلهي وإن كان شاملاً في شهر رمضان لكلّ العباد، إلا أنّ قدراً منه يرتبط بمقدار همّتنا وتوجهنا وجهدنا) .

وهكذا نكرر بأن الفرصة سانحة للجميع بالحصول على كرامة الله تعالى في هذا الشهر المبارك، ولكن الامر مرتبط بمدى حكمة الانسان وسعيه ودأبه وتوجهه وجهده للوصول الى مرضاة الله تعالى التي بدورها ستمنح الانسان كرامة يستحقها بسبب التوجه والجهود الكبيرة التي بذلها لتحقيق هذا الاستحقاق الكبير.

وثمة وسائل وسبل لتحقيق هذا الهدف، ولعل الاهم في ذلك هو قدرة الانسان بناء ذاته بالطريقة السليمة التي تجعل من هذه الذات ملتزمة وفاعلة في آن واحد، ويمكن ان يتم ذلك عبر العبادات والتدريب النفسي والجسدي للذات على التمسك بالفضيلة والطريق القويم، وكذلك مراقبة النفس ومحاسبتها باستمرار، وفي هذا المجال يقول سماحة المرجع الشيرازي: (إن الصلوات والأدعية والزيارات والأعمال الواردة في شهر رمضان المبارك بنفسها معدّات لتحقّق بناء الذات، بيد أن المرء قد لا يسعه الوقت للقيام بها كلها، بسبب تزاحمها مع مشاغل أخرى قد تكون مطلوبة هي الأخرى كالتبليغ مثلاً. إذن، فليس هناك طريق للتوفيق أسهل من طريق محاسبة النفس، لأنّها مطلوبة جداً ولها تأثير كبير على الإنسان).

وهكذا يمكن ان يشكل شهر رمضان فرصة ذهبية للانسان كي يشذّب نفسه من الشوائب ويمنعها عن ارتكاب المعاصي أيا كان نوعها او حجمها، ويمكن ان يتم ذلك باستثمار اجواء هذا الشهر المتمثلة بالايمان وهدوء النفس والطمأنينة واللجوء الى رحمة الله الواسعة وطلب المغفرة والسعي الى مرضاته سبحانه، وفي هذا الصدد يوجهنا المرجع الشيرازي ويدلنا على بعض من هذه السبل فيقول في كتابه (نحو بناء النفس): (إذن، فليخصص المرء كل يوم من شهر رمضان بعض وقته ويخلو فيه، ليراجع ما قد مضى منه خلال الساعات الماضية، فينظر ما عمل وما قال وما سمع وما رأى وما أخذ وما أعطى، وكيف تصرّف مع زوجته وأطفاله وأصدقائه وزملائه؟ وباختصار: ليدقّق مع نفسه فيم صرف وقته؟ ليصمّم بعد ذلك على أن يزيد من حسناته ويقلّل من سيئاته) .

هامش:

(1) وسائل الشيعة: 10/313 ح13494 باب 18.

(2) روضة الواعظين للفتال النيسابوري: ص144 مجلس في ذكر تزويج فاطمة عليها السلام.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 22/آب/2009 - 30/شعبان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م