إنها ترويكا الدمار التي سادت تاريخنا الإسلامي أغلب فتراته والتي
لجأت وتلجأ إليها النظم الحاكمة تهربا من أداء واجباتها وتأليبا لأبناء
المجتمع بعضهم ضد بعض ليصبح همهم الأوحد النجاة من هذه الشرور الثلاث
أحدها أو كلها لمن ساء حظه ولم يكن له من أحد يحميه إلا الله عز وجل!!.
التكفير هو جامع هذه الخصال الثلاث فقر العقل والمعرفة وانفلونزا
الخنازير التي تضرب العقول وتقوم بتحوير الخلايا البشرية لتنتزع منها
كل ما يمت بصلة للرحمة والإنسانية والقدرة على التفاهم والحوار!.
يروي المسعودي في (مروج الذهب): أن رجلاً من أهل الكوفة دخل على
بعير له إلى دمشق حال انصرافهم من صفين فتعلق به رجل فقال: هذه ناقتي،
آخذت مني بصفين، فارتفع أمرهما إلى معاوية، وأقام الدمشقي خمسين رجلاً
بينة يشهدون أنها ناقته، فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير
إليه فقال الكوفي: أصلحك اللهّ إنه جمل وليس بناقة، فقال معاوية: هذا
حكم قد مضى، ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره، وسأله عن ثمن بعيره،
فدفع إليه ضعفه، وقال له: أبلغ علياً إني أقاتله بمائة ألف ما فيهم من
يفرق بين الناقة والجمل، وقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنه صلى بهم
عند مسيرهم إلى صفين الجمعة يوم الأربعاء، وأعاروه رؤوسهمِ عند القتال
وحملوه بها، وركنوا إلى قول عمرو بن العاص: إن علياَ هو الذي قتل
عًمّار بن ياسر حين أخرجه لنصرته، ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن
جعلوا لَعْنَ علي سُنَة، ينشأ عليها الصغير. ويهلك عليها الكبير.
وذكر بعض الأخباريين أنه قال لرجل من أهل الشام من زعمائهم وأهل
الرأي والعقل منهم: مَنْ أبو تراب هذا الذي يلعنه الإمام علىَ المنبر؟!.
قال: أراه لصاً من لصوص الفتن!!.
وأخبرني رجل من أهل العلم، قال: كنا نقعد نتناظر في أبي بكر وعمر
وعلي ومعاوية، ونذكر ما يذكره أهل العلم، وكان قوم من العامة يأتون
فيستمعون منا، فقال لي ذات يوم بعضُهم وكان من أعقلهم وأكبرهم لحية، كم
تُطْنبون في علي ومعاوية وفلان وفلان، فقلت له: فما تقول أنت في ذلك.
قال: من تريد. قلت: علي، ما تقول فيه قال: أليس هو أبو فاطمة. قلت:
ومَنْ كانت فاطمة. قال: امرأة النبي عليه السلام بنت عائشة أخت معاوية
قلت: فما كانت قصة علي؟! قال: قتل في غَزوة حنين مع النبي صلى الله
عليه وسلم!!.
وقبل بضعة أعوام التقيت بأحد رجال التعليم الذي عاش في بلد خليجي
وأخذ يشرح لنا معارفه عن (الشيعة الذين عايشهم, وأنه كان يعمل في
المدرسة الجعفرية موضحا أن كلمة الجعفرية نسبة لأبي جعفر المنصور رضي
الله عنه الذي قتل علي بن أبي طالب, رضي الله عنهم أجمعين)!.
ترويج وازدراء: إحراق شيخ حنفي متشيع
لا نرى جديدا في توجيه تهمة ازدراء الأديان للمتشيعين الجدد, مما
يشير إلى أننا ما زلنا نعيش في عصر ما قبل الحضارة والتاريخ, فقبل ما
يقارب الستمائة عام (قبل قبل إيران!!) وفي العصر العثماني غير المأسوف
عليه والعهدة على ابن العماد الحنبلي في (شذرات الذهب في أخبار من ذهب)
في أخبار سنة 944 هـ 1538 مـ: وفيها قُتل القاضي شمس الدين محمد بن
يوسف الدمشقي الحنفي الذي ناب في القضاء عن قاضي القضاة ابن الشحنة ثم
ثبت عليه وعلى رجل يقال له حسين البقسماطي عند قاضي دمشق أنهما رافضيان
فحرقا تحت قلعة دمشق بعد أن ربطت رقابهما وأيديهما وأرجلهما في أوتاد
وألقى عليهما القنب والبواري والحطب ثم أطلقت النار عليهما حتى صارا
رمادا ثم ألقى رمادهما في بردى وكان ذلك يوم الثلاثاء تاسع رجب وسئل
الشيخ قطب الدين بن سلطان مفتي الحنفية عن قتلهما فقال لا يجوز في
الشرع بل يستتابان!!.
ولا أدري لماذا ألقي رفاتهما في بردى ولم يجر الاحتفاظ به في قارورة
تكون نواة لمتحف (تحسين صورة الإسلام) يقوم بتأسيسه (الشيخ الجليل)
ويتبرع بإنشائه أحد (كبار المحسنين)؟!.
إنها إذا بيئة ثقافية مثالية تدمر فيها انفلونزا الطيور والخنازير
ما تبقى من عقول ويفتك فيها فيروس سي بأكباد ملايين المصريين ويترعرع
في ظلها رموز وأبطال ثقافة التكفير وإبطال كافة أنواع التفكير ويكفي أن
يكون لدينا مائة ألف تكفيري أو يزيدون لا يفرقون بين الناقة والجمل ولا
يمانعون من أداء صلاة الجمعة يوم الأربعاء ويعتقدون أن علي بن أبي طالب
هو أبو فاطمة بنت عائشة أخت معاوية وأن الإمام علي كان لصا من لصوص
الفتن قتل في غزوة حنين, وطبعا فإن أي قدر إضافي من المعلومات يعد
تبشيرا شيعيا ونوعا من الترويج والازدراء!.
الجهل والتكفير
لا أعتقد أن بروز ظاهرة التكفير يعني أنها لم تكن موجودة من قبل,
تماما كما أن تزايد الحديث عن انفلونزا الطيور والخنازير لا يعني ظهور
مرض جديد بل يعني اكتشاف سبب (الشوطة) التي اجتاحتنا سابقا وتجتاحنا
الآن ولاحقا لأنها كانت تصيب دجاج العشة وأبقار المزرعة فتقضي عليهم
قضاء مبرما في بضع ساعات من دون أن يعرف أحد سببا لهذه (الشوطة الجامدة)
التي لا تبقي ولا تذر.
وبعد أن كان حشد مائة ألف لا يفرقون بين الجمل والناقة مصدرا من
مصادر القوة ودليلا على تماسك (الجبهة الداخلية) أصبح مصدرا للخطر
والتهديد خاصة إذا قرر قادة التكفيريين -ممن يحسبون أن يومهم دهرهم
ويتصورون أن إفساح المجال لهم وإطلاق أيديهم وألسنتهم للسب والشتم
وإرسال رسائل التهديد لمن يعتبرونهم من الكفار والزنادقة دليلا على
نزول النصر الإلهي عليهم- الانفراد بالزعامة وإعلان دولتهم انطلاقا من
المسجد الأحمر أو من فضائية الرحمة التي ينبغي أن تكون (للعالمين
أجمعين)!!.
الآن اختلفت الأمور بعض الشيء وأصبح التكفيريون منشقون, وأصبحت
العلاقة بينهم وبين النظم الحاكمة علاقة تحالف مرحلي بعد أن كانوا جزءا
لا يتجزء من النظام الرسمي وأصبحت إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل
أربعة أو خمس قرون ضربا من ضروب المحال.
الهروب من الاستحقاقات
الذي نعتقده أن التكفير هو ضرب من ضروب الجهل والمرض النفسي وهو
وباء يفوق في خطورته انفلونزا الطيور والخنازير!!.
وبينما يتعين على النظم الحاكمة مواجهة المسئولية الملقاة على
عاتقها في مواجهة الظلم والفقر والحرمان الذي هو السبب الأساس لغضب
الناس فما بالك إذا اجتمعت كل هذه السوءات في مجتمع من المجتمعات (فقر
وتكفير وانفلونزا الخنازير)!!.
ولأن الْفَقْرَ هو الْمَوْتُ الاَْكْبَرُ الذي يخرس الفطن عن حاجته
ويجعل من (المرء غريبا في بلدته) فلا يحس إزاء مجتمع المترفين بعطف أو
انتماء ويجعل كل همه أن يدعو الله ليكشف عنه الظلم والبلاء, كان من
الضروري أن يلتفت أهل السلطة والثروة الذين يصرون على القول حتى الآن
أنهم أهل الثورة التي جاءت لتقضي على الظلم والاستبداد والفساد
لواجباتهم فربما يعود هذا الانتماء!!.
وبدلا من أن يحاول هؤلاء السادة أن يخففوا شيئا من أوجاعنا إذا بهم
يزيدون من جرعة الشحن التكفيري والتجهيل المعرفي ليصبح الموت على
الفراش بدلا من الإحراق ثم الإلقاء في بردى أغلى أمانينا!!. |