دور المعرفة في بناء ورقي المجتمعات والدول

رؤى وأفكار للإمام الشيرازي الراحل

 

شبكة النبأ: الإنسان يتلاقى مع المحيط الطبيعي أو الاجتماعي أو الصناعي، وقد أودع الله في الإنسان ذخائر، كما قال علي عليه السلام في حكمة بعث الأنبياء: (ليثيروا لهم دفائن العقول)(1) وبهذا التلاقي تنعكس حالات المحيط إلى داخله، مما يسمى أول المعرفة.

وقد أودع الله في الإنسان حب الاستطلاع، ولذا نرى الطفل منذ صغره الباكر يهتم بالأشياء يأخذها ويقلبها ويتذوقها ويستمع إليها، ليعرف خصوصياتها وطعومها، وأصواتها، وملمسها، وأحياناً يستشمها لمعرفة روائحها.

ثم هناك في داخل الإنسان جهاز العقل، وهو كالنبتة، تنمو وتنمو، فإن شذب وهذب نمى نمواً مستقيماً وإلا نمى نمواً منحرفاً، وهذان: [الحس والعقل] يتعاونان ليكونا للإنسان المعرفة، إن قليلاً أو كثيراً.

والثواب والعقاب في الدنيا والآخرة مرتبطان بالعقل، وإلا فالمجنون يحسّ ولا يعاقب كما لا يثاب، لأن لا عقل له، وفي الحديث: إن الله لما خلق العقل قال له: بك أثيب وبك أعاقب(2).

ثم إن تلاقي الإنسان والمحيط، يوجب تأثير أحدهما في الآخر، فالمحيط بأقسامه الثلاثة يؤثر في الإنسان، من طريق الحواس الخمس، ولذا كان المحكي عن ابن سيناء أنه قال: (من فقد حساً فقد علماً) أي سلسلة من العلوم المرتبطة بتلك الحاسة كما أن الإنسان يؤثر في المحيط تشذيباً وتهذيباً وتنظيماً وإصلاحاً.

المعرفة صحيحة وخاطئة

والمعرفة الذهنية المستفادة من الحواس، والعقلية التي تتكون عند الإنسان من داخله ليست صحيحة دائماً ولا باقية دائماً، بل أحيانا تكون اشتباهاً، كمن يرى ماء البحر أسود، أو الشيء الكبير ـ من البعيد ـ صغيراً، كما أن المعرفة أحياناً تتغير بأقسامها الثلاثة من الصحيح إلى الغلط، وبالعكس، أو من الغلط إلى الغلط ونادراً يمكن أن يكون من الصحيح إلى الصحيح، باعتبار أن الصحيحين لهما جامع صحيح هما جزئياه، كما في قصة داود وسليمان عليهما السلام حيث كان أخذ صاحب البستان الأغنام لنفسه في قبال زرعه ـ حيث كانا بقيمة واحدة ـ وكان أخذها لأجل الاستفادة مدة استدراكه مقدار ما فسد من زرعه، ثم ردها، كلاهما صحيحاً، ولذا قال سبحانه: «وكلاً آتينا حكماً وعلماً»(1) وإن كان الثاني أفضل، ولذا قال تعالى: «ففهمناها سليمان»(2).

سير الحركة الفكرية

ثم إن المعرفة تبتدأ ـ صحيحة أو منحرفة ـ بالرؤية، حسية [والمراد بها أعم من الحواس الخمس] أو عقلية، ثم تتحول إلى الشك، وبعده الظن، ثم العاطفة وأخيراً العقيدة، والمرتبة الرابعة (إلا ما كانت في سلسلة العواطف) قد تكون مقرونة بالحقيقة، وقد تكون مقرونة بالإحساس المجرد.

والدال إن كان لفظاً، أو غير لفظ، يرشد إلى شيء آخر يسمى [مدلولاً] و[مفهوماً] و[معنى] ـ باعتبارات ذكرناها في الأصول ـ وقد يسمى [مراداً] و[مقصوداً] وغير ذلك.

ثم إن جمع المعلومات تنتهي إلى الاستنتاج، بسبب الفكر، وقد عرفه الحاج السبزواري بقوله: والفكر حركة إلى المبادي  ومن مبادي إلى المراد.

لكن الجزئي لا يكون كاسباً ولا مكتسباً، وإنما الكاسبة والمكسوبية، إنما تكونان بالكلية المنتزعة عن الجزئي، وللكلية كذلك.فإن أقسام الحركة الفكرية أربعة: لأنها إما من الجزئي أو من الكلي، وكل إما إلى الجزئي أو إلى الكلي، فإن كان من الجزئي إلى الجزئي كذلك سمي [تمثيلاً] وإن كان منه إلى الكلي سمي [استقراءً] وإن كان من الكلي إلى الكلي أو إلى الجزئي سمي [قياساً].

والانتقال من شيء إلى شيء، قد يكون سريعاً وقد يكون بطيئاً، وقد يتوقف إلى الأبد، وقد يهئ المقدمات إنسان، فيأتي إنسان آخر ليأخذ النتيجة… والماديون، حيث ينكرون ما وراء المادة، ينكرون أن تكون المعرفة ما ورائية، لكن الثابت في علم الفلسفة وجود الماوراء، ولذا فقد تكون المعرفة غيبية، بمقدماتها ونتائجها، وقد تكون كذلك بإحداها.

ثم إن المعرفة تنقسم بانقسام الأحكام الخمسة: فهي بين واجبة: كمعرفة أصول الدين والأحكام الشرعية المبتلى بها، وتعلم الصناعات كفاية، ومحرمة: مثل تعلم السحر وما أشبه على الشرط المذكور في كتاب المكاسب، ومستحبة: كتعلم الآداب والأخلاق غير الواجبة منها، ومكروهة كتعلم النساء الكتابة وسورة يوسف في صورة احتمال الخطر بما لا يوجب الحرمة، ومباحة: هي ما دون الأقسام الأربعة فتأمل.


(1) نهج البلاغة/ صالح/ ص43.

(2) العوالي: ج4 ص99 ح142.

(1) سورة الأنبياء آية 79.

(2) سورة الأنبياء آية 79.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 12/آب/2009 - 20/شعبان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م