شبكة النبأ: حين أصدر الشاعر علاوي
كاظم كشيش مجموعته الشعرية الأولى (خاتمة الحضور /بغداد /دار الشؤون
الثقافية /1992) خيّل إليّ بأنّ هذا الشاعر المقلّ قد قال كل ما لديه
في مجموعته هذه وهي (خاتمة حضوره الشعري) سواء في ما يتعلّق في الساحة
الثقافية أم على مستوى الإبداع الشخصي له.
ومما رسخ هذا الاعتقاد، أنّ علاوي كاظم كان صامتا إزاء جميع الأصوات
النقدية أو الانطباعية المدوّنَة التي أشارت إلى أنّ (خاتمة الحضور) قد
خرجت من المعطف الشعري للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش .. غير أن
هذا الشاعر بعد مرور ثماني سنوات على صدور مجموعته الأولى يطل علينا
بمجموعة أخرى تحمل عنوان (تدوين الدم والرمل) ومما تجدر الإشارة إليه
أن هذه المجموعة الشعرية الجديدة حملت سماتها الخاصة التي أفرزتها عن
أُختها الأولى وهي تختلف معها على المستويين الفني والفكري مما يشير
الى قضية التأني التي ارتكن إليها كشيش ليقتل في داخله جميع العوالم
الشعرية التي لا تنتسب إليه حصراً.
ولذلك فإنّ مجموعته الثانية موضوع هذا المقال، تعدّ باعتقادي خطوته
الأهم التي يعالج من خلالها عوالمه الشعرية التي بحث ولا يزال عنها
بجهد دؤوب.. وعلى الرغم من أنني قد شطبت (وربما من دون إنصاف) كدّاً
شعريا للشاعر يمتد على مدى عقد كامل من التدوين الشعري إلاّ إنني على
ثقة من أنه يوافقني هذا الرأي خاصة إذا عرفنا أنّ (تدوين الدم والرمل)
تشكل مملكة شعرية شاسعة تحتشد برموز جغرافية وفكرية وإبداعية تتعلق
بخصوصية هذا الشاعر الذي عثر في كتابه الشعري هذا على بداية الطريق
الذي عليه أن يسلكه وهذا ما تشير إليه قصيدته المتميزة (طريق كربلاء)
42 .
لقد ابتعد علاوي كاظم كشيش في مجموعته هذه عن الإيقاع الشعري الحاد
الذي طبع مجموعته الأولى وغلفّها بالطابع الحماسي الذي يرتبط بالشكل
العمودي والشكل الحر المقفى .. ذلك أنّ الشكل الشعري في هذه المجموعة
لا يشكل لدى الشاعر قيمة فنية مهمة، فهو يقدم لنا شعره على صفحة بيضاء
مليئة بالسطور التي تتماثل مع النسيج السردي في شكلها ما عدا (تواشيح
الظهيرة) حيث يسطر لنا قصائده العمودية بطريقة السرد المتوالي من دون
فواصل أو نهايات مقفاة وهو بذلك يعتقد بأنه يعلن عن شكل شعري غير مقيد
ومقيد في آن.. إذ أننا نقرأ قصيدة عمودية موزونة ومقفاة ولكنها مرسومة
في فضاء الورقة بصيغة السرد القصصي.
وفي قصيدة (التواشيح الأخيرة في شرح الظهيرة) ص 56 .. نلاحظ أن
الشكل الشعري لديه عبارة عن مقطع منثور أفقيا يتعامد معه من جهة اليسار
تارة واليمين تارة أخرى بيت من الشعر العمودي وكلا الشكلين من الشعر
يعالج أفكارا موحدة أو متقاربة في أهدافها.
وهكذا الأمر بالنسبة للشكل الشعري في (التواشيح المريرة في شرح
الظهيرة) ص 2 .. التي تمتد على أكثر من عشرين صفحة من هذه المجموعة.
إنّ هذا التغييب المتعمد للشكل الشعري المألوف في قصائد هذه
المجموعة يشير إلى أن الشاعر مشتت بين أمرين في ما يخص الشكل .. فهو
تارة يعمد إلى تغييبه كما لاحظنا ذلك في القصائد العمودية المشكلة (سرديا)
وكذلك فيما يتعلق بقصائد النثر المسرودة أيضا وحتى بعض قصائد التفعيلة
التي حرص على إلغاء الشكل الفني لها بدمجها بالصورة السردية لأجناس
أدبية أخرى مثل القصة والرواية.
ومن جانب آخر نراه يزاوج شكليا بين مقاطع النثر والعمود كما ورد ذلك
في ما يتعلق ( بقصائد التواشيح) مما يعطي انطباعا عن سعي الشاعر
واهتمامه بشكل قصيدته من حيث صورتها المرسومة على الورق لا غير.
إن هذا التغييب الشكلي( فنيا) قد يقودنا إلى الأهداف الفكرية لهذا
الشاعر الذي يعلن عن ثيمة الغياب منهجا روحيا وفلسفيا يتمكن خلاله من
تقديم رسالته الشعرية للقارئ كما نلاحظ ذلك في قصيدته (ملك الغياب) ص29
.. وكذلك في قصيدته (التواشيح ) ص15 .. التي يقول في جزء منها: (لك
هذا الغياب. صبّه في وقتهم. تجرّأ يا مطراً روّضته المدن وعطّنته. تعال
الى غيابي من اجل حضورك ودمي) .
وكذلك يقول في القصيدة نفسها: (صوّب غيابي كله في وقتهم
صوّب وليتك مرة تتهاطلُ)
ويمكنني أن أشير الى أن هذا التغييب الذي يقصده الشاعر (فنيا) كما
ذكرت سابقا سيقابل تعلقه الشديد بالمعنى وإلحاحه الذي يصل إلى درجة
الوضوح التام للمفردة الشعرية كما نلاحظ ذلك في قصيدة (عشب)ص27 .
( نـزداد خضرة فنداس. نداس فنـزداد خضرة. نخلع البلاطات والإسفلت كي
نتنفس. نتنفس كي نخلع البلاطات والإسفلت. يا لنا من عشب؟.).
فالشاعر حينما يهمل الشكل فانه يحرص على أن تصل أهدافه الشعرية
بواسطة استنطاق المفردة واستحضار الجوهر الدلالي المباشر والمؤثر لها.
ومما تقدم.. يمكنني أن اكرر القول بان علاوي كاظم كشيش قد بدأ
(إبتداء من مجموعته هذه) يعي طريقه الشعري وسأنسف مرة أخرى جهدا شعريا
مدوّناً للشاعر يمتد لعقد من الأعوام على أنني أقول بان هذه المجموعة
التي أسماها كشيش أيضا (صيد النصوص الفراتية) يمكنها أن تشكل خاتمة
شعرية مكتنـزة لحضوره الشعري وبذلك فهي تنهض على رفات أختها (الأولى)
معلنة عن ولادة شاعر لا يضيره النضوب الشعري إن حدث له بعد ذلك. |