
شبكة النبأ: في الوقت الذي لا تزال
فيه مشاعر الغضب تتأجج تحت السطح في ايران نتيجة للخلاف المستحكم بها
حول انتخابات الرئاسة، يتطلع رجال الدين الشيعة في العراق اليها بشعور
واضح بالرضا لأنهم توصلوا على ما يبدو لجواب شاف لسؤال لطالما اثار
القلق لدى الشيعة منذ قرون،حول الدور الذي يتعين ان يلعبه الدين في
السياسة؟
وكتب الباحث انتوني شديد مقالا في الـ واشنطن بوست، يبحث في اوجه
الخلاف والتشابه مابين علاقة الدين بالحكم والدولة في ايران والعراق
وجاء في المقال: في مدينة النجف التي هي ملاذ الشيعة الاكثر قداسة في
العالم، ليس ثمة مكان للزهو فيها أو للشعور بالخيلاء لدى رجال الدين
وطلابهم المعممين. هنا يحافظ الجميع على آداب اللباقة المرتبطة تقليديا
بالاماكن المقدسة، ولذا تجد المترددين عليها يتحدثون همساً أو
بالاشارة.
ويستدرك الكاتب شديد بالقول: لكن بعد ثلاثة عقود من اثارة الثورة
الايرانية فكرة الحكم الديني، وبعد ست سنوات من سقوط صدام حسين مما ادى
لبروز نسخة اخرى للسلطة الدينية في النجف، اضحت العلاقة بين الدين
والدولة في العراق برأي رجال الدين فيه أفضل مما هي عليه في ايران.
يقول غيث شوبار، الذي يدير مؤسسة في النجف مرتبطة بآية الله العظمى
علي السيستاني رجل الدين القوي في العراق: من الواضح ان التوجيه الروحي
للشعب في العراق أقوى من نظيره الذي يوفره النظام في ايران فالمرجعية
الدينية لها تأثير أعمق روحيا وغير روحي في العراق بالمقارنة مع ايران.
والحقيقة ان العلاقة بين رجال الدين والدولة تدخل صميم السياسة في
كلا البلدين، اذ يتمتع هؤلاء - على الرغم من انهم غير منتخبين - بمكانة
ليس لها مثيل في دول الشرق الاوسط الاخرى ويمكن القول ان السيستاني لعب
دورا حاسما في السياسة اكثر من أي زعيم عراقي آخر بعد الغزو الامريكي
للعراق الذي اطاح بصدام حسين عام 2003. كما يمتلك آية الله علي خامنئي
مرشد ايران الاعلى، ولو نظريا على الاقل، سلطة مطلقة على الرغم من ان
هذه السلطة واجهت تحديا بعد الاستياء العارم من نتائج الانتخابات التي
جرت في يونيو الماضي.
ويتابع الكاتب، على أي حال هنا يتوقف التماثل بين النظامين الشيعيين
في ايران والعراق ليختلفا جذريا بعد ذلك، ويظهر بينهما الانقسام الذي
شكل اسلام الطائفة الشيعية منذ قرون عدة. كان هذا الانقسام قد برز على
نحو خاص في عام 1970 عندما طرح آية الله روح الله الخميني، الذي اصبح
فيما بعد زعيما للثورة الايرانية، فكرة الحكم الديني وتحدث عنها
باستفاضة في سلسلة من المحاضرات خلال اقامته في النجف.
تقوم هذه الفكرة المعروفة بـ «ولاية الفقيه» على اساس معتقد يقول ان
سلطة الله التي نزلت على عدد من الائمة اولهم علي ابن عم الرسول محمد
(صلى الله عليه وسلم) وانتهت عند الامام الثاني عشر الذي اختفى في
القرن التاسع، يتعين ان تؤول الى رجل دين مختار تحت اسم «المرشد
الاعلى».
وبالطبع أصبحت هذه السلطة المكتوبة في الدستور الإيراني أساسا لنظام
الحكم القائم في ايران منذ الثورة.
في العراق الامر مختلف تماما لأن رجال الدين فيه ليس لهم اية صفة
قانونية، حيث يتطلع الملايين فيه للسيستاني كسلطة روحية الا ان اتباعه
المخلصين يعتبرون اوامره تحمل قوة القانون.
ويضيف الكاتب، الحقيقة ان السيستاني المولود في ايران ملتزم بما
يوصف احيانا بالمدرسة الاكثر اعتدالا وهدوءا في طائفة الشيعة التي ينأى
فيها رجال الدين عن القيام بأي دور واضح في السياسة. لذا، نجد رجالها
يتساءلون عادة حول موقف السيستاني من مسألة ما، هذا اذا كان لديه مثل
هذا الموقف اصلا. من الواضح اذاً ان سلطة السيستاني تتميز عن الاحزاب
السياسية الاسلامية في العراق التي تضم رجال دين شبابا في قياداتها.
ويصف احد رجال الدين في العراق الفارق بين الرؤيتين العراقية
والايرانية بأنها تتماثل مع ما يجري في موقع للبناء. فتحت ولاية الفقيه
في ايران يمكن ان يعمل رجل الدين كـ «مشرف» مسؤول عن كل مرحلة من مراحل
التصميم والتنفيذ. في حين يمكن اعتبار السيستاني في النموذج العراقي هو
مالك موقع البناء الغائب احيانا.
غير ان كلتا الرؤيتين تمثلان نموذجا مثاليا نادرا ما يمكن ترجمته
على ارض الواقع. ففي ايران، شكل الاستياء الواضح بين رجال الدين حول
انتخابات الرئاسة، ورد الحكومة، تحديا واضحا لسلطة خامنئي المطلقة. وفي
العراق يتمتع السيستاني بتأثير حاسم بسياسة البلد، وتكفي الاشارة هنا
الى تخريبه الخطة الامريكية الخاصة بانتقال البلاد الى الحكم الذاتي
سياسيا عام 2003. لكن الاختلافات بين الطرفين لا تزال محور المناقشات
الدائرة بين رجال الدين في البلدين، ولا تزال تلعب دورا في تشكيل سمعة
المدينتين المقدستين النجف العراقية ونظيرتها قم الايرانية.
وتابع الكاتب: بيد ان معظم رجال الدين الشيعة في العراق يترددون في
قول أي شيء حول الازمة الراهنة التي بدأت في ايران الشهر الماضي.
فالقول الشائع الذي تسمعه في النجف المليئة بالحجاج الايرانيين التي
تسكنها عائلات دينية منحدرة من جذور ايرانية هو: «ليس من شأننا».
والواقع ان صمت سكان مدينة النجف ازاء ما يحدث في ايران يعكس جزئيا
شيئا من الكياسة بين رجال الدين الذين يعتقدون ان مناقشة مثل هذه
المسائل تكون افضل لو تمت في الندوات بدلا من تناولها في شوارع
المدينة. ومن المعتقد ان بعض سكان المدينة يريدون البقاء بعيدا قليلا
عن ايران بسبب اتهامات السكان السنة بأن الشيعة موالون لطائفتهم اكثر
من موالاتهم للدولة العراقية.
يقول علي النجفي الذي هو ابن احد اكبر اربعة رجال الدين في المدينة
هو بشير النجفي: الحقيقة اننا لا نريد التدخل بشؤون الآخرين.
ويستدرك الكاتب بالقول: لكن حينما يتحدث رجال الدين في قم حول
احتمال امتداد الازمة الايرانية للعراق تجدهم يهزؤون بمثل هذا الاحتمال
ولو علناً على الاقل اذ يقول احدهم: انها مجرد زوبعة في فنجان. ويضيف
آخر: من الواضح ان المتورطين في احداث ايران حتى الآن هما بريطانيا
وامريكا، لكن هذا لا يمنعنا من القول ايضا ان سلطة رجال الدين السياسية
في ايران اثرت سلبيا على سلطتهم الدينية لأنك اذا اردت ان تكسب حب
الناس عليك ترك شؤونهم الدنيوية لأنفسهم، وهذا يعني ان تأثير المرجع
الروحي يصبح اكبر عندما يبعد نفسه عن المشهد السياسي.
من الواضح ان تهديد الدولة الدينية لمكانة رجل الدين لم يمر مرور
الكرام وهذه مفارقة بالطبع.
يقول شوبار: صحيح ان حكومة ايران اسلامية لكن ثمة نسبة كبيرة من
سكانها - ليس الاغلبية ربما - علمانية. وفي العراق الحكومة ليست دينية
لكن النسبة الاكبر من السكان هي من المحافظين دينيا. ويبدو لي ان شعوب
الشرق الاوسط تميل دوما للتحرك بعكس اتجاه حكوماتها.
بيد ان احدا لا يجادل في طبيعة شخصية السيستاني فهو رجل محافظ جدا
ترعرع في المنتديات الدينية والحلقات الدراسية منذ ان كان في العاشرة
من العمر ثم اشتهر بالعيش حياة الزهد والتقشف الشديد لدرجة لا يزال
معها يجلس على بساط رخيص الثمن بل ولم يستخدم البراد (ثلاجة) الا قبل
حوالي عشر سنوات فقط.
لذا، عندما ينتقده البعض ينصب هذا النقد على اصوله. فلغته العربية
لا تزال مشوبة بلكنة لغة بلده ايران الذي تركه قبل حوالي 60 سنة.
ويختم الكاتب بالقول، لكن بينما يرى البعض في تدخله ببعض المسائل
تجاوزا، ويعتبرونه مسؤولا عن الاتجاه الطائفي في السياسة. ينظر اليه
البعض بشكل معاكس، اذ غالبا ما يشتكي انصار رجل الدين الشاب مقتدى
الصدر، الذي يتبنى دورا قويا في عالم السياسة، من صمت وتحفظ السيستاني.
وثمة شارع في مدينة الصدر تبيع فيه المحال التجارية الوسائد والاسرّة
والبطانيات ويطلق عليه السكان اسم «شارع السيستاني»...
لكن محمد حسين الحكيم، الذي عمل والده مع السيستاني لفترة طويلة في
النجف، يصف السيستاني وزملاءه الآخرين بأنهم يقومون بدور توجيهي، ويقول
ان النجف استردت مكانتها كموئل بارز للفكر الشيعي، وبات على قُم
بالتالي ان تتبع النجف وليس العكس. |