دكتوراه في سن السادسة والسبعين: معاني ودلالات

د. محمد مسلم الحسيني-بروكسل

قرأت موضوعا شيّقا كان على صيغة خبر مثير للدهشة كتبه الأستاذ الأديب نوري علي في صحيفة " الأخبار" بعنوان " إنه متألق بلا ضجيج... ". فحوى الموضوع... الهدف....المعنى والدروس والعبر، كلّها أمور تلامس المشاعر والأحاسيس. فبإنفعال ملحوظ وبتعبير تلقائي ضحكت بقوة مع نفسي لهذا الخبر، ربما بسبب غرابته التي داعبت الإحساس أو ربما بسبب صيغة الطرح الجميلة التي تزينها روح الفكاهة الهادفة.... لكن إمتزجت مع الضحك الدموع.....!

أنه أمر مثير للدهشة حقا ولكن فيه معنى عميق أعمق من قاع البحر! إنها قصة طويلة بمعناها إختصرها كاتبها بسطور.... بطل القصة رجل لا يخضع للزمن!، رجل متمرد على الشيخوخة لأنه أعلى منها وأسمى منها....رجل فكره أقوى من جسده وطموحه يتحدى حدود طاقته.... رجل ينطق بلسان حال الحقيقة وبسّر الوجود على سطح الطبيعة. رجل رغم عمره المتقدم يسعى ويجهد ويكافح كي يحصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة وهو في عمر السادسة والسبعين!.... وقد نجح!!!

ماذا يريد أن يقول هذا البطل.... ماهي رسالته للعراقيين وللعالم....ماذا يريد أن يقدم للإنسانية في مثل هذا العمل الإستثنائي الكبير؟؟؟ كلّها أسئلة تستحق التوقف والتمحيص...

دون شك أراد هذا الرجل أن يوحي للعالم بحقيقة من حقائق الحياة المتحضرة، ألا وهي أن الإنسان المتطور لابد أن يسعى من أجل الإنسانية وسعيه لا ينحصر بفترة أو بزمن، فكل شيء نسبي في هذه الحياة. فقدرات الإنسان وطاقاته تستطيع أن تذلل المصاعب وتختصر الزمن. أراد أن يقول لأخيه الإنسان لا تيأس إن فشلت في تجربة ما ولا تتقاعس بل حاول مرة أخرى وأعد الكرة من جديد، فلا حدود ولا موانع تقف أمام تحقيق الطموح، فمالم تستطع تحقيقه يوم أمس ستستطيع تحقيقه هذا اليوم.

أراد أن ينبّه بأننا في هذه الدنيا من أجل التكامل والإرتقاء والعطاء....فيستطيع الإنسان أن يطوّر ذاته وينتقل من مرحلة الى أخرى ومن حال الى آخر في أي لحظة من لحظات حياته، فعربة التطور والإرتقاء لا تتوقف ما دام الإنسان على قيد الحياة...كما أن على الإنسان أن يعطي ولا يتوقف عن العطاء وبكل مرحلة من مراحل الحياة، لأن العطاء صبغة من صبغات الإنسانية...وعليه أن يبقى إنسانا...فيعطي لمجتمعه... ويعطي لوطنه....ويعطي للإنسانية ويعطي للمستقبل...

هذا التنبيه ربما كان موجها أيضا لقوانين العمل المتبعة في بلداننا، فعند عمر التقاعد تجبر الكفاءة على مغادرة محل عملها وهي في أغلب الأحيان في ذروة عطائها وفاعليتها. ففي بلد يفتقد للكفاءة ويحتاجها عليه ألاّ يتعامل بقوانين التقاعد مع قادة العلم والفكر والتجربة. أن يترك لهم الخيار في البقاء أو المغادرة كي لا يخسرهم ومن أجل ألاّ يفطم الوطن من ضرورة وجودهم. فقد أعطى بطلنا هذا اليوم برهانا على أن الفكر يبقى متوقدا رغم السنين ورغم الأنين....

أراد أن يطلق إشارة صارخة للذين يقتلهم حب الأنا والشعور بالنقص... الذين يحملون شهادات مزورة زورا وبهتانا كي يتسنموا المناصب والألقاب... يقول لهم إذهبوا وكافحوا وأحصلوا على شهادات حقيقية تفيدون فيها بلدكم وأبناء مجتمعكم، فأنتم أقوى مني جسدا وأغنى مني مالا وأكبر مني سلطة وأصغر مني عمرا... إذهبوا الى الطريق الصحيح فأنه مفتوح أمامكم، بدل أن تسلكوا دروب الخداع وتنزلقوا في هوة الخطايا والوهم!

 أراد أن يقول بأن الكفاءة هي ليست بالضرورة شهادات وألقاب وأسماء يسبقها حرف الدال. الكفاءة هي المعرفة والإبداع والتميّز، لأنه لو لم يحمل هذه الصفات وليس له جعبة معرفية واسعة قبل أن يناقش رسالة الدكتوراه لما أستطاع أن يحصل عليها. فهناك الكثير من الكفاءات لا يتسنى لها الوقت لمناقشة رسالة الدكتوراه لسبب وآخر ولكنها تبقى في خانة الكفاءات وحرف الدال لا يزيد ولا ينقص من إبداعها وتالقها.

أراد أن يوجه رسالة للمسؤولين في وطنه وفي كلّ مكان، بأن الكفاءة والخبرة والمعرفة والعلم عناصر هامة من عناصر الحياة ومن يريد أن يجلب الخير والرفاه لوطنه، عليه أن يشجع الكفاءة ويستفيد من قدراتها وخبراتها ومعرفتها.... لا أن تركن في زاوية المهملات كرها لها أو خوفا منها !

الكفاءة لا تتباكى على كراسي السلطة ومغرياتها فهي ليست مصابة بجرثومة " شبق السلطة" التي أصيب بها الآخرون!!! الكفاءة تبحث عن البيئة المناسبة كي تنتج وتعطي وتبدع من أجل مصلحة الوطن وفائدته وتطوره وحضارته... الكفاءة حرقت سنين حياتها في الجد والمثابرة والتحصيل، لأنها تريد أن تهب.... أن تنتج.... أن تدفع الى أمام....فلماذا أنتم منها خائفون؟؟؟

أهل الكفاءة والعلم والمعرفة والخبرة هم قادة الوطن الفنيّون ومن دونهم يضيع الوطن ويصبح أسفل سافلين.... إفسحوا المجال لهم.... أتركوهم يكافحون في بناء وطنهم كما كافحوا في بناء أنفسهم.... دعوهم يبنون ما هدم على يد البعض منكم فهم لا ينافسوكم على الفرائس ولا على المناصب....وستبقون تنعمون بها لوحدكم لا شريك لكم !

وأخيرا وليس آخرا، أرفع أسمى آيات الإعجاب والتقدير للدكتور ناجي نهر ولكل الأبطال الذين لا تنعس عيونهم ولا تكلّ قلوبهم ولا تتعب سواعدهم ولا تنكسر هاماتهم ولا تهدأ نفوسهم ولا تأفل عقولهم من أجل صيرورة وطنهم وسعادة مجتمعهم و مستقبل أجيالهم....

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 5/آب/2009 - 13/شعبان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م