الحضور المكاني في قصص (رائحة السينما) لنزار عبد الستار

قراءة:  علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: عبر المراحل السردية المتعاقبة التي مر بها فن السرد في العراق، هناك سمات واضحة كل الوضوح وسميت كل مرحلة من هذه المراحل ابتداءً بالقصة التقليدية التي ظهرت في أوائل القرن المنصرم ثم العبور الى ما يطلق عليها) بالقصة الخمسينية التي حاولت أن تقترب من حافة الفن وتلقي بقليل من ظلاله على الاجواء الواقعية للسرد لنصل الى الجيل الستيني الذي يعده النقاد العراقيين من أهم وأخطر الاجيال التي تعاقبت في كتابة السرد لما يتميز به هذا الجيل من نزوع شديد للتجريب والتقاطع شبه الكلي مع مراحل السرد التي سبقته.

 على حين اننا لم نجد ملامح فنية متميزة تشكل بصمات سردية واضحة المعالم لجيل السبعينيات حتى يبدو كأنه ذاب بين جيلين هما الستيني المتمرد والثمانيني الذي نهض في اتون الحرب وتجذر في تربتها حتى أن القصة التي لم تتعامل في ذلك الحين مع أنفاس الحرب بدت وكأنها عضوا غريبا في جسد القصة الثمانينية.

 ولا نزعم بأن العقد التسعيني قد أشَّر لمرحلة سرد واضحة البصمات والملامح إلاّ اننا لا يمكن أن نغفل أسماءً شكلت علامات سردية فارقة لا يمكن تجاوزها بأي حال من الاحوال ومنها الذي لا يزال متواصلا يدق بأزميله على جدار السرد لكي يحقق تجربته ويعطيها طابع التواصل والاكتمال ومن هذه الاسماء من انزوى جانبا لينسحب من مشوار السباق الصعب الطويل والسبب يقع فيما أراه تحت سطوة نضوب الموهبة وقصر النفس لا سيما ان أسماء الانطلاقة الاولى او بداية السباق مازالت تتواصل في نحت التجربة ومنها القاص نزار عبد الستار صاحب المجموعة القصصية التي حملت عنوان (رائحة السينما) وهي موضوع هذه السطور التي ارتأيت أن تؤشر لخاصية فنية اتسمت بها هذه المجموعة تتمثل باعتماد القاص على الشخصية المهمشة (المتميزة) في الوقت نفسه ومن خلالها يتشكل الحضور المكاني لأحداث السرد وكل هذا سيتم بقلم يمتلك خاصية التمرس في التقاط الشخصية المسحوقة لينبش من خلالها معالم وخصوصيات المكان ورموزه على أفضل وجه ممكن.

في قصة رائحة السينما التي يتسيد سرد أحداثها راوي عليم، ثمة شخصية مركزية وهي (شخصية بائع بطاقات الدخول الى السينما) تتمحور حولها كل الاحداث وتتشكل منها بنية السرد برمتها وسيبدو حضورها طاغيا لدرجة ان المكان (المدينة/ الموصل /مركز المدينة) بكل تفاصيله سيكون تابعا لهذه الشخصية ومرهونا بها في وقت واحد، وعلى الرغم من كل سمات الموهبة والقدرة على الابداع التي تطبع تطلعات هذه الشخصية مضافا اليها البراءة والطيبة في التعامل التي تصل حد السذاجة ستظل هذه الشخصية تعاني التهميش المتعمَّد والأغرب من هذا كله ان المواصفات الجسدية لهذه الشخصية يجب أن تبوأها مكانا قويا ومركزا مشهودا في العلاقات الاجتماعية لما لها من قدرات جسمانية تفتقد لها شخصيات موازية لها في النسيج السردي للاحداث ولن يغيب الذكاء او التطلع المبدع الذي يلازم هذه الشخصية طيلة رحلتها الحياتية المفعمة بالطموح.

 ومع ان الواقع هو المؤشر الوحيد الذي يدل على حقيقة وجود هذه الشخصية إلاّ ان الغرابة التي أضفتها بنية السرد وطابع السخرية اللاذعة التي لونت معالم هذه الشخصية تجعلها أقرب الى الخيال من الحقيقة، ومع الطابع الحياتي (المضحك المبكي) الذي رسم حدود نشاطاتها يتحدد لنا المكان بكل بهائه وتفاصيله: (جند عمال المطاعم على الشريط الشرقي لشارع الدواسة، بدءاً من مطعم فلافل بدر وحتى لحم بعجين المدينة، واستخدم بائعي الباقلاء كنقاط مراقبة بدءاً من عمارة القدس وحتى سينما سميراميس ... الخ) ص37 .

 ومثل هذا التأشير لحضور المكان يظل قائما في جميع مراحل السرد حتى تبدو مدينة الموصل واضحة للعيان من خلال النشاط اليومي لشخصية (جنكيزخان) وهو الأسم الأقرب تماثلا من حيث المظهر الخارجي الجسدي لها .. وفي النسيج السردي لهذه القصة هناك (أريج) لاذع بل بالغ السخرية والحزن يغلف حياة هذه الشخصية في ظل تضارب مؤلم بين ما هي عليه من طابع حياتي وبين ما تطمح إليه مدفوعة بإلحاح موهبة تمور في جسد كبير متوهج لكنها مسوَّرة في حيز مغلق لا يسمح لها بالنفاذ، الأمر الذي يدفع بالعمة صبرية الى القول في نهاية القصة: (لا تحزن يا جنكيزخان..  في يوم ما سيتذكرون إسمك الحقيقي) ص49..

ولا يقتصر حضور المكان ضمن الراهن الزمني بل هناك خلط متعمد من لدن القاص بين حضور الأمكنة واستدراجها من اعماق التأريخ وعبر مراحل متباينة لتطفو على السطح السردي بحلتها التأريخية المتفردة أو الآنية التي تعطيها شكلها الحاضر والمتعارف عليه.

 ويتكرر هذا التوجه في جميع قصص المجموعة السبع .. وستكون الشخصية الأولى في قصة (صندوق الأماني) مقاربة لشخصية القصة السابقة لكن ثمة فرقا جوهريا ربما تعمده القاص يفصل بين الشخصيتين، فالأولى لها تفرد جسدي واضح مع موهبة محاصرة ومتفردة، أما شخصية صندوق الأماني فهي ذات صفات جسمانية ناقصة او عاجزة حيث فقدان الساق التي التهمتها الحرب تدفعها الى اعتماد الأحلام في تحقيق مآربها الفردية والعائلية على حد سواء.

وستظل النبرة الساخرة اللاذعة الفجائعية في تشكيل الجملة القصصية هي المعيار الأول والطابع المتوهج للتركيب اللغوي الذي يعتمد بساطة المفردة وعمقها الأيحائي في آن وكل ذلك يرسم بطريقة سرد أخاذة صفات وملامح الشخصية الحالمة المهمشة ضمن الحدود المكانية التي تؤشر لملامح المدينة وشوارعها ومعالمها الاخرى لدرجة ان القارئ سيشم رائحة ذات نكهة خاصة تشير حصرا الى (اقليعات/ الموصل القديمة) والى (نينوى) مركز الحضارة الآشورية ويختلط مع هذا السرد العابق بالتأريخ الحضور المكاني الذي يمثل واقع الحال وآنيته.

إن صندوق الأماني قصة رجل أقصته الحياة من موقعه الانساني الذي يعد حقا واضحا من حقوقه ولذلك لم يجد سبيلا سوى هذا الصندوق الذي سيعيد له كل خسائره المادية والمعنوية، وفعلا سوف يعيد هذا الصندوق أثاث البيت التي باعها (الحصار) فوق الأرصفة والمزادات والشوارع بل سيعيد للرجل ساقه المبتورة حتى يبدو لزوجته بكامل بهائه الجسدي الأخاذ، ولكن كل هذا يحدث تحت طائلة الأحلام التي سرعان ما تنطفئ ليحل محلها واقع الحصار المقيت.

ومع اعتماد القاص على ما تقدم ذكره، فإنه يدعم ذلك بلغة سرد )أجزم بأنها لغته حصرا) ومع هذا التحديد فإن اللغة نفسها لها عمقها السحيق في ذات القاص نزار عبد الستار وهو عمق الابداع الذي تصنعه روح فيها الكثير من الأصالة وفيها الكثير من الانتماء الى الانسان، لغة مفهومة.. بسيطة  ..  مركبة أحيانا .. غامضة .. لها مذاق الادهاش المتواصل .. ولها قدرة على المزج بين الألم والسخرية والنظر الى الاشياء بحيادية الانسان المتمكن!!.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاربعاء 5/آب/2009 - 13/شعبان/1430

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1430هـ  /  1999- 2009م